فقلت في صوت خافت: كان له فضل عظيم علي، ولكن الظروف قطعت بيننا ولم تطل به الأيام حتى أستطيع أن أوفي له ديني.
مات وما زال دينه باقيا في عنقي.
وهز الرجل رأسه متأثرا وقال: البقية في حياتك يا سيد أفندي، دنيا زائلة، دنيا فانية، هل ترك أولادا؟
فقلت: فتاة وحيدة.
وخفق قلبي خفقانا شديدا وأنا أتصور حزن منى الشديد في وحدتها.
فقال: أكان مريضا؟
فقلت: رأيته في أتم صحة منذ أسبوع.
فهز رأسه مرة أخرى قائلا: آجال يا سيد أفندي.
ولم أسمع ما قاله بعد ذلك؛ لأني انصرفت إلى أفكاري الحزينة وإلى منى.
وقمت مسرعا بغير أن ألتفت ورائي، وذهبت إلى دار الجريدة، فكتبت ورقة وسلمتها للبواب ليوصلها للأستاذ علي مختار إذا عاد في المساء، وذهبت من ساعتي إلى المحطة لأسافر في أول قطار أجده على الرصيف، وكان من حسن حظي أن وجدت قطارا يقوم بعد ربع ساعة، وكنت طوال الطريق غارقا في حديث داخلي مستمر، أين دمنهور وما للقطار يسير بطيئا؟ هكذا الدنيا تمضي سريعة بنا ونحن نستبطئ الأيام والليالي والشهور، والقطار يسير دائما إلى الأمام لا يرجع إلى الوراء خطوة، ويقطع الطريق شبرا شبرا حتى يجمع الأميال بعد الأميال لكي يصل أخيرا إلى دمنهور إلى الغاية الأخيرة كما تفعل بنا الحياة، هكذا بلغ السيد أحمد نهاية الطريق. الانتخابات والسرادقات والمظاهرات ومصطفى عجوة وحمادة الأصفر وكل ذلك ينتهي في لحظة، ووقف القطار في طنطا، وبدأ الناس ينزلون ويصعد غيرهم إلى العربة، كل هؤلاء يجتمعون ويتحادثون ويتجادلون ثم يهبطون من القطار لكي يستقبل القطار طائفة أخرى غيرهم حتى ينزل الجميع آخر الأمر إذا جاءت النهاية، وتذكرت يوم سافرت إلى القاهرة أول مرة ورأيت راكبين يتعاركان، هل هناك أحمق من راكب في قطار يعارك جيرانه؟ إنه لن يلبث أن يتركهم أو يتركوه!
صفحه نامشخص