أقبل علينا رمضان، وأردت أن أبدأ الصيام، وأسرتي لا توقظني للسحور ، فظللت مستيقظا طوال الليل حتى السحور، وكان السحور كبدة، ونمت. استيقظت متأخرا على موعد المدرسة، وكان بابها مغلقا. طرقت الباب فإذا بحضرة الناظر بنظرته المرعبة يستقبلني قائلا: «ناموسيتك كحلي، وكمان بتخبط على الباب؟!»
كنت في حالة ارتباك، غمغمت ببعض الكلمات؛ من ضمنها رمضان والصيام، فنظر لي وقال: «وعلى كدا انت صايم؟» أجبته «نعم» بكل قوة وعزم. فقال: «طيب أرني لسانك، طيب ادخل، ولا تتأخر مرة أخرى.»
كنت في أشبال الإخوان بشعبة قريتنا. الأخ «إبراهيم رجب»، ناظر مدرسة قحافة، هو مسئول الشعبة، أخبرنا أن شعبتنا ستشارك في حفل استقبال المرشد العام للجماعة بنادي مركز شباب طنطا، وعلينا أن نستعد، وسوف يكون هناك طابوران من الأشبال وطابوران من شباب الجوالة. كنت سعيدا بهذه المشاركة. ويوم العرض اختاروني أن أكون في المقدمة لصوتي الجهوري. وبينما نحن نمر أمام الأستاذ المرشد، حملني أحدهم ووضعني أمام منضدة فضيلته، وقد طبطب على كتفي ودعا لي بالهداية، وأعطاني بوصلة تحدد اتجاه قبلة الصلاة. شعرت بفرحة كبيرة من تقدير المرشد. وافتخارا ببوصلة فضيلته طلبت من الأخ «إبراهيم رجب» أن أرقى من الأشبال إلى الجوالة، فضحك وقال: «لكنك صغير.» وتحت إلحاحي فتح دفتر العضوية وقال: «أي الأسر تريد أن تنضم لها؟» فقلت: «أسرة عمر بن الخطاب.» وكان أبي يدفع اشتراكا شهريا بسيطا لنشاط الشعبة على الرغم من ميوله الوفدية. انضم إلى أسرتنا مولود جديد أسماه أبي «أسامة».
أصبحت قريبا من الأستاذ عيسى مدرس اللغة العربية الذي طلب منا في حصة التعبير أن نكتب رسالة نوجهها لملك الأردن «حسين» نحثه على الوحدة العربية. ووقفت أمام الفصل بصوتي الجهوري أقرؤها. وبعد انتهائي نظر لي الأستاذ عيسى وقال: «لم تخطئ في النحو ولا قواعد اللغة ورسالتك حماسية، لكن هل تعرف النمرة التي تستحقها رسالتك؟» صمت قليلا وأنا أنظر إليه بلهفة وقال: «صفر. تعرف ليه؟ لا ترسل رسالة لواحد تشتمه فيها.» أدركت من كلام الأستاذ عيسى أنني كتبت ما هو شائع ويردده البعض، ولم أكتب ما بداخلي، كنت مدفوعا بما هو حولي عن مواقف الملك «حسين»، وكان درسا مهما لي بعد ذلك أن أستخدم اللغة ولا أجعلها تستخدمني. وخرجنا معا إلى مصلى مدرسة العبيدية لأداء صلاة الظهر.
قبض علي وعلى أبي؛ لأن أسماءنا كانت في كشوف جماعة الإخوان. ونظر الضابط إلى أبي ولي وقال: «من منكم العضو؛ أنت ولا هو؟» قال أبي: «لا أنا ولا هو، الأطفال يذهبون إلى الجماعة السنية هذه؛ فهي أفضل من وجودهم بالشارع، وكنت أدفع اشتراكا بسيطا كل شهر لكي أساعدهم.» فأفرجوا عني وعن أبي بعد ذلك، لكن ما حدث مع الأخ «إبراهيم رجب» مسئول الشعبة كان كثيرا، ولا أتخيل أبدا أن هذا الرجل كان متآمرا على حياة عبد الناصر الذي ملأ العيون والقلوب بحيويته وزعامته. شعرت أن ما يحدث للأخ «إبراهيم» ظلم.
قررت حكومة الثورة تعديل نظام التعليم من ابتدائي وثانوي فقط إلى ابتدائي وإعدادي وثانوي، فانتقلت إلى مدرسة التوفيقية الحكومية في السنة الأولى الإعدادية، وناظرها الأستاذ «عبد العزيز» من الأزهريين، أنيق الملبس، مثقف في الأدب. انضممت إلى جماعة الخطابة بالمدرسة. وفي مسابقة القراءة الصيفية بدأت أقرأ كتبا غير الكتب المدرسية المقررة؛ رواية إسبانية بعنوان «دون كيشوت»، و«الجريمة والعقاب» وهي تأليف «دوستويفسكي»، وكتب الإنجازات العلمية. وبدأت التعرف على الأدب العربي تحت رعاية الأستاذ «عبد العزيز»؛ الرواية وشعر «البارودي» وأمير الشعراء «أحمد شوقي» وشعر «المتنبي». وفي المسابقة فزت بالمركز الأول. وكانت الجائزة مزيدا من الكتب حتى أصبح لي رفوف في كتبية البيت أضع عليها كتبي. وكان أبي غير سعيد بكثرة الروايات في فترة من الحماسة ازدادت سخونتها مع العدوان الثلاثي الغادر على بلدنا وأنا في السنة الثالثة الإعدادية.
3
أختي الكبرى «بدرية» ذبلت نضارتها وحيويتها وحبها للتعلم، بعد رفض أبي أن تستكمل تعليمها؛ فمنذ أن تزوجت وهي في السادسة عشرة وحياتها جحيم؛ تعيش مع أسرة زوجها وحماتها المتسلطة، وكلما اشتكت لأبي يقلل من حجم الموضوع. فأتاه أحد الجيران يلومه على ترك ابنته هكذا، فمال إلى فكرة الطلاق، وتحدث مباشرة مع زوجها وأخبره بتنازله عن كل حقوقها مقابل أن يطلقها ، فتم الطلاق. واكتشف أنها حامل، فكان في شدة الغضب؛ فلم يكن هناك حكيم مسلم يمكن أن يجري عملية إجهاض، فذهب بها إلى أحد الحكماء الأقباط الذي كتب لها دواء تأخذه، لكن الحمل استمر وأنجبت مولودا ذكرا. ذهب أبي إلى الطبيب القبطي يلومه، والذي نظر إلى أبي وقال: «حامد، أنت فاكر علشان أنا قبطي أقتل مخلوق، مش من حقك ولا حق أي إنسان يقتل طفل خلقه الله، أنا كتبت لها فيتامينات.» ولم ينطق أبي بكلمة.
اشتد المرض عليه فأصبح يمكث بالبيت كثيرا، وأصبح ساعده الأيمن في المحل، وكانت رفوف المحل بدأت تخلو من البضاعة مع اشتداد المرض. تقدم ابن عمي «السيد أبو زيد» طالبا يد «بدرية» للزواج. اعتبره أبي نوعا من الشفقة، فرفض في البداية، لكن كانت هناك مشاعر حب بين «بدرية» «والسيد»، فوافق. وفي كل هذا لم يسأل أحد «بدرية» ماذا تريد هي، سواء في الزواج أو الإجهاض أو التعليم.
ظهرت نتيجة المدرسة الإعدادية، فدخلت على أبي، وسألني: «إيه النتيجة؟» قلت: «نجحت بمجموع كبير يدخلني الثانوية العامة.» نظر لي وقال: «جهز أوراقك لمدرسة الصنايع.» قلت بصوت خافت دون أن أنظر إليه: «أريد أن أدخل الثانوي العام.» قال بحدة: «لم يسألك أحد عن رأيك، يا مدرسة الصنايع أو تقف في الدكان.» لم أعرف ماذا أفعل، فذهبت إلى عمي الكبير، الساكن في مدينة كفر الزيات، بشقته الجميلة وبناته اللائي طالما زرننا ببيتنا في زي أميرات، كان ناظرا، أخبرته فعاد معي إلى القرية. وكان أبي في شدة الغضب، فقال عمي: «مدرسة صنايع إيه يا حامد، الولد مجموعه كبير وله مستقبل في الجامعة.» قال أبي بغضب بعد أن حاول الاتزان بصعوبة في جلسته: «لو أنا مت هتصرف عليه؟ وإن صرفت عليه ودخل الجامعة، هتصرف على أخواته؟» فلم يرد بكلمة. شعرت أني وضعت عمي في موقف صعب.
صفحه نامشخص