حاولت أن أخرج من أزمة القضية التي عشت فيها خلال العام الماضي ونصفه بالعودة لدراساتي، فكتبت دراسة نشرت بمجلة «فصول» تحت رئاسة «جابر عصفور»، في عدد خريف أربعة وتسعين، في المجلد الثالث عشر، بعنوان «الرؤيا في السرد العربي حافز سردي أم وحدة دلالية؟» فمنذ ملاحظتي لدور الرؤيا في السيرة النبوية حين درست السيرة كسيرة شعبية وأنا أريد دراسة الرؤيا في السيرة وفي القرآن. «وللرؤيا وتأويلها دور كبير في السرد العربي، وللدال اللغوي أرى عدة دلالات؛ فقد تكون إدراكية بالبصر، مثل قول القرآن الكريم في الآية السادسة والسبعين من سورة «الأنعام»:
فلما جن عليه الليل رأى كوكبا . وقد تكون الحلمية بالرؤيا في المنام، مثل الآية الرابعة من سورة «يوسف»:
يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين . وقد تكون العلمية بمعنى نعلم/نعتقد، مثل الآية الثامنة والسبعين من السورة ذاتها:
قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين .» ونجد أن هناك تفرقة بين رؤية ما هو حسن أو خير، وبين الحلم الذي غلب عليه رؤية الشر والقبيح؛ مما جعل الرؤيا أداة معرفية؛ فالرؤية الصادقة جزء من النبوة، في حين يكون الحلم مصدره الشيطان.
حللت الرؤيا في القرآن الكريم بوصفها نصا سرديا داخل النص السردي الذي ترد فيه، والتفرقة بين توظيف الرؤيا كحافز أو مفتتح للسرد، وبين كون الرؤيا وحدة دلالية في سلسلة الأحداث، مثل رؤيا «يوسف» ورؤيا السجينين ورؤيا الملك. وتحليل دلالة القميص في دلالته الكاذبة على أكل الذئب ل «يوسف»، ودلالة القميص في براءة «يوسف» من الاعتداء على امرأة العزيز، ودلالته الثالثة في عودة بصر والد «يوسف» بقميص البشارة الذي ألقي على وجهه. ودرست الرؤيا في الجزء الأول من كتاب السيرة النبوية برواية «ابن هشام» عن «محمد بن إسحاق»، والتي تمثل وحدة سردية. ورؤيا جد النبي «عبد المطلب»، وكذلك عرضت للرؤيا في الفكر العربي الإسلامي، وكيف انتقلت النبوءة في السرد إلى النبوءة في نظرية المعرفة في جانبيها الإشراقي والصوفي، ومنها إلى الخطابات كأداة أيديولوجية تسعى بها إلى تحقيق مشروعيتها المعرفية في الثقافة، مثل رؤيا «المأمون لأرسطو»، ورؤيا «أبي الحسن الأشعري» للرسول عليه السلام ليعلمه كيف يرد على المعتزلة. ورؤى «الشافعي» وتأكيد الصوفي الكبير «ابن عربي» في كتابيه «الفتوحات المكية» و«فصوص الحكم» ما هي إلا بشارات نبوية أمليت عليه. وفي العصر الحديث لو نظرت إلى نص «نجيب محفوظ» من كتابه «كفاح طيبة» إلى آخر نصوصه ودور الرؤيا عنده. حاولت تقديم دراسة متواضعة دعوة لمزيد من الدراسات في هذا المجال.
جمعت الدراسات التي كتبتها ردا على ادعاءات التكفير ضد إنتاجي في كتاب صدر عن دار «سينا» للنشر، بعنوان «التفكير في زمن التكفير»، ومقالات عن المرأة في كتاب صغير سوف يظهر في شهر نوفمبر عن دار نشر «نصوص» لمجموعة شابة؛ لتكون إهداء إلى «ابتهال» في عيد ميلادها؛ «فبدونها ما كان ممكنا أن تمر علي محنة الأشهر الماضية كما مرت في وجودها»، بعنوان «المرأة في فكر الأزمة». وجاء - مساء الجمعة الرابع عشر من أكتوبر - خبر طعن الأستاذ «نجيب محفوظ» في رقبته وهو في طريقه من بيته إلى حلقته الأسبوعية، ويطل الإرهاب بوجهه القبيح ويحاول نهش كاتب آخر في هذه الحرب التي تمرح في المدينة، فيا ترى على من الدور؟
14
داخلي طاقة كبيرة ودعم «ابتهال» يزيدونني رغبة في مواصلة البحث والدراسة، فكتبت دراسة نشرتها مجلة «ألف» للبلاغة المقارنة بالجامعة الأمريكية في عدد سنة خمس وتسعين، بعنوان «العالم بوصفه علامة»، حاولت أن أستكمل الدراسة السابقة التي كتبتها في الثمانينيات - من القرن العشرين - عن «علم العلامات في التراث، دراسة استكشافية»، فقمت بدراسة العلامات في القرآن الكريم؛ كيف يحول النص القرآني العالم الخارجي كله إلى مجموعة من العلامات - بالمعنى السيميوطيقي - أو الوحدة الدلالية، ودور النص القرآني في صياغة المفاهيم النظرية والفلسفية اللاحقة عن اللغة والدلالة، وأيضا طبيعة اللغة الدينية وآليات تشكلها من بيئة اللغة الأم، وكيف أعاد تشكيل بيئة اللغة ذاتها فيما بعد. وبدأت بسورة «العلق»، والتي تمثل النص الافتتاحي للنص القرآني الأكبر، وكيف حولت آيات القرآن فيها العالم الخارجي والتاريخ الإنساني وقصص السابقين إلى علامة تجسد الصراع الأزلي بين الحق والباطل، وبين الإيمان والكفر؛ ثم سورة «الرحمن» التي حدث فيها انفتاح للدلالة الضمنية في سورة «العلق» بتحويل النعم ذاتها إلى علامات تشير إلى المنعم؛ وسورة «القمر» التي حولت الأحداث التاريخية للسابقين إلى علامات دالة كذلك؛ وسورة «النحل» حول فيها النص القرآني العالم إلى نظام من العلامات الدالة على مطلق كلي واحد، سواء العلامات الكونية أو التاريخ البشري؛ وبهذه السورة ترتفع نبرة التهديد عن السور السابقة، وبها تركيز على علامات خلق السموات والأرض، وخلق الإنسان، وإلقاء الرواسي في الأرض، وتسخير الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم، وإنزال الماء من السماء. وحللت خلق السموات والأرض والجبال وخلق الإنسان، ثم خلق الليل والنهار. القرآن يحول كل ما يدركه الوعي الإنساني بحسه إلى «علامات/كلمات»؛ فالجبال مثلا رواس تمنع الأرض أن تميد، دلالة على القدرة الإلهية وعلى نعم الله، وهي تحمي الإنسان فيتخذ منها بيوتا، وفي سياق التهديد تتصدع الجبال من خشية الله، والجبال قوة عاقلة؛ فقد أشفقت من حمل الأمانة وحملها الإنسان. الجبال يمكن أن تكون علامات دالة على قرب الساعة، فتصير
كالعهن المنفوش ، كالآية «5» من سورة «القارعة».
بالقرآن بذور تطورت في الفكر الإسلامي بعد ذلك عن وجود نصين؛ نص مسطور بين دفتي المصحف، ونص كلمات الله المنشورة في صفحة الوجود. رصدت تلك الجوانب المختلفة عند المتصوفة والمعتزلة وابن رشد، وتوصلت إلى أن اللغة الدينية تحيل العالم إلى علامة، وتحول اللغة الأصل إلى علامات - بالمعنى السيميوطيقي - في محاولة لامتلاك وعي المتلقي. والنص القرآني يبدأ من الدال آية/علامة في اللغة حتى ينفتح الدال آية ليستوعب الأحكام والتشريعات والنصوص، ثم تصبح هذه الدلالة المضافة هي المركز، ويتم إقصاء الدلالة اللغوية السابقة على القرآن إلى الهامش؛ فاللغة العربية ككل يحولها القرآن إلى نسق فرعي في بنائه الدلالي. ونحتاج إلى دراسات كثيرة ومركزة لكشف جوانب طبيعة اللغة الدينية، وما هذه الدراسة إلا إشارة.
صفحه نامشخص