إلا أن د. «محمد عمارة» كتب مقالا بجريدة «الشعب» في الرابع عشر من سبتمبر، حاول فيها أن يدافع عن «زكي نجيب محمود» بإبراز الجانب «الإسلامي» في كتاباته، فاتبع «عمارة» طريقته في إمساك العصا من المنتصف لينتهي إلى أن صورة الإسلام لدى «زكي نجيب محمود» قد تعدلت كثيرا لكنه لم يبلغ مرتبة من يلتزم بالمنهج الإسلامي التزاما كاملا.
فكتبت مقالا نشرته مجلة «أدب ونقد» في عدد يناير سنة أربع وتسعين، بعنوان «مات الرجل وبدأت محاكمته»؛ فبدلا من أن يدخلوا في نقاش حقيقي لأفكار وأطروحات «زكي نجيب محمود»، يقومون بتناول الأفكار والأطروحات والإبداعات من منظورهم الخاص وتفسير بعينه للإسلام، ويضعونه على أنه الإسلام الصحيح، وما سواه زيف وإلحاد، ويعتبرون أنفسهم المتحدثين الوحيدين باسم الإسلام، ومن يختلف معهم خارج عن الملة، في حين أنهم جماعة سياسية تستخدم الإسلام كأداة للحشد السياسي. وهذا الخلط يحول السياسة إلى دين، ويجعل الأحكام السياسية أحكاما دينية تفضي إلى التكفير والردة في النهاية، فيأخذون عليه استخدامه البراجماتي للتراث، وأنا أتفق معهم في ذلك، لكنهم يفعلون نفس الشيء. وهناك فرق بين النقد والاختلاف وبين الإدانة ونزع صفة الإسلام عن المفكر، بدليل المناقشة الهزيلة التي قدمها المقال عن «الوضعية المنطقية». إننا نحتاج إلى فتح الحوار ليخرج من إطار النخبة إلى الناس، لكن هل تتحمل أجهزة إعلامنا هذا النوع من الحوار؟ هذا هو السؤال.
في السادس والعشرين من سبتمبر جرت محاولة اغتيال رئيس الوزراء ووزير الإعلام، واغتيلت فيها الطفلة شيماء أمام مدرستها، وهجوم إرهابي على فندق «سميراميس» بعدها بشهر في وسط القاهرة. كتبت مقالا نشرته جريدة «الحياة» في لندن بعدد السابع عشر من أكتوبر، عن «المثقف العربي والسلطة»، وكتبت مقالات عن المعقول واللامعقول في حياتنا، نشرت بجريدة «الأهالي» في أكتوبر ونوفمبر وأول ديسمبر، عن كيف تحولت الأشياء اللامعقولة إلى أشياء معقولة في حياتنا؛ ليس لأن المجتمع تحاور حولها لإزالة غرابتها، بل أصبحت من تكرارها والتعود عليها معقولة، لكنه معقول يخرب الوعي ويسد طريقنا للتقدم. وأخذت من حالة اللانظام وفوضى المرور في شوارع القاهرة نموذجا؛ فالنظام ليس مسألة شكلية، بل عملية إعادة تركيب للذهن في المجتمع. والحكومة أصبحت إشارة مرور مضيئة؛ أحمر وأخضر وأصفر في نفس الوقت في كل الاتجاهات. وكتبت عن اللامعقول في الحياة السياسية المصرية، وكيف أن العمليات الإرهابية ما هي إلا أعراض للمرض الرئيسي وهو غياب الحريات، ولن تجدي عملية «مقاومة الإرهاب» التي تسعى إلى إسكاته دون الوصول إلى جذر الإشكال، وهو لامعقول التعارض بين الأقوال والسلوك الذهني عندنا، وأخذت من عملية نقل الآراء والأقوال التي تمت في قضية «أبو زيد» دون تفكير أو تثبت، حتى أصبح الحق يعرف بالرجال وليس الرجال هم من يعرفون بالحق.
لم يعد العمال الذين كانوا يعملون بالشقة المجاورة لنا منذ يومين، ربما قد أصيب أحدهم أو أهاليهم في حادث انهيار صخرة المقطم، فسألت جارتنا عنهم، فعلمت أن شقة من الشقق قد سرقت، فقبضت الشرطة على العمال «الشغيلة» واحتجزتهم. ذهبت إلى قسم الشرطة وسألت الضابط عنهم، فأخبرني باحتجازهم حتى يتم الوصول إلى الجاني، ولهم في الحجز عشرة أيام دون أن يعلم عنهم أهلهم وذووهم خبرا؛ فمن خبرتي السابقة في العمل بقسم شرطة، وكسل الضباط أن يقوموا بعملهم بحثا عن الجناة، فيحتجز العمال دون مراعاة لقلق أهاليهم عليهم، وجدت الضابط يقول لي: «يا دكتور أنت عايز إيه؟ لو فيه أحد منهم يهمك نخرجه لك.»
كانت هناك هذه الليلة ندوة في المنظمة المصرية لحقوق الإنسان عن حرية الرأي بسبب قضيتي، فكدت أعتذر عن الذهاب، لكني ذهبت. وقلت إن الحديث عن حريات أكاديمية وفكرية هو نوع من الرفاهية، في وقت أبسط حقوق الإنسان فيه مهدرة، الحقوق التي يشترك فيها مع الحيوان. هل يمكن، في مجتمع مثل هذا، الدفاع عن حرية الرأي والتعبير، بينما حرية المواطن الأولية مهدرة؟ ومهم جدا العمل على تأصيل حقوق الإنسان ثقافيا في المجتمع، وليس فقط تبريرها ثقافيا؛ فالمثقف عندنا هو المؤلف والمخرج والبطل ورافع الستارة، فلا نريده أيضا أن يكون هو الجمهور. وذكرت قصة ما حدث مع العمال.
وحين أتى الحديث عن دعوى الحسبة المرفوعة ضدي، انتفض المحامي المحسوب على التيار الديني الأستاذ «عادل عيد» غاضبا، وقال إن هذه الدعوى نوع من التهريج الرخيص، لا يصح أن نسكت عليه، إنه تهريج يسيء للإسلام والمسلمين أولا وأخيرا. وأشار إلى أنه كان ضمن هيئة دفاع من المصريين، والتي تطوعت بالدفاع عن المفكر السوداني «محمود طه» في السودان في سابقة مثل تلك. غاب الأستاذ «عادل» عن جلسة المحكمة لانشغاله، فاتصلت به أعلمه بموعد الجلسة التالية، وأذكره بأهمية حضوره، وأرسلت إليه ردي على النقاط المثارة في عريضة الدعوى. وبعد أن تعبت «ابتهال» في جمع النقاط التي طلبها من الكتابات لم يحضر الجلسة.
وصلت إلي خطابات تهديد بالقتل، فعينت لي الدولة حراسة، وأصبحت أدخل محاضراتي في مدرج ثلاثة عشر في حماية حامل سلاح، فلم تعد محاضرة. وكرهت الحال والتدريس في ظل قيد، على الرغم من هذا الجو وتلك الحالة التي تمر بها البلاد؛ من مواجهة مسلحة بين الدولة والجماعات المسلحة، ومحاولة إسكات صوتي بأي وسيلة؛ بداية بمصادرة الأستاذية إلى التكفير، وما يتبعه من تصفية معنوية تعقبها تصفية جسدية، إلى الفصل من الجامعة والاستتابة والتعزير، إلى التحويل للنائب العام، واستعداء الأزهر، ودعوى حسبة للتفريق بيني وبين زوجتي ؛ على الرغم من كل ذلك فلهذه الأزمة جوانبها المبهجة عند باحث تكشف الكتابات خلال الأشهر الماضية صدق وقوة النتائج التي توصل إليها في نقد الخطاب الديني. على أن الفارق بين المعتدلين والمتطرفين في التيار الديني هو فارق في الدرجة وليس فارقا في النوع، بل أستطيع أن أضيف أن التعاون بينهما وتوزيع الأدوار واضح على مستوى الخطاب، وأيضا الظهور الواضح لآلية النقل دون تثبت؛ هذا النقل الذي يفضي إلى الاتباع، وكلاهما يناقض النقد والإبداع ويعاديهما؛ فخطابي النقدي يمثل خطرا عليهم. مصدر سعادتي الآخر هو توفر هذه المادة الجديدة وإخضاعها للبحث والتحليل، للوصول إلى مزيد من الدراسة العلمية للخطاب الديني. ويكون سعيهم لتشويه خطابي وإسكاتي مادة للتحليل والاستنباط.
فكتبت دراسة بعنوان «أبو زيد والخطاب الديني»، نشرت في مجلة «قضايا فكرية» السنوية في عددها الثالث عشر عن «الأصوليات الإسلامية»، وتناولت كل الجوانب التي تناولها تقرير «د. عبد الصبور شاهين» و«د. محمد البلتاجي»، وتلميذهما بدار العلوم، وغيرهم، والتي ملخصها:
العداوة الشديدة لنصوص القرآن والسنة، والدعوى إلى رفضها وتجاهل ما أتت به.
الهجوم الشديد على الصحابة وأئمة المسلمين.
صفحه نامشخص