هذه التعددية تجعل خطاب الله إلى البشر منفتحا لآفاق التأويل. وابن رشد يعتمد البرهان أساسا للتأويل ومعياره ومرجعية للمعنى؛ لأن معرفته يقينية. والتأويل لا بد أن يوافق قوانين اللغة العربية في استخدام المجاز ولا يعارضها. ومن الباحثين من ركز على الشرع عند ابن رشد وأهمل الحكمة، ومن ركز على الحكمة وأهمل الشرع، لكن كتابه عن العلاقة بين البرهان - وهو أساس التأويل - والشرع يشير إلى ثلاثة احتمالات؛ أولها: أن يصل البرهان إلى أمور سكت عنها الشرع. والثاني: أن يكون هناك اتفاق بين الحقيقة البرهانية وظاهر الشرع، فلا حاجة إلى التأويل. الاحتمال الثالث: أن يقع اختلاف وتناقض بين الحقيقتين، والحل يكون بالتأويل بإخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية، دون الإخلال بعادة لسان العرب في استخدام المجاز.
في عدد شهر يونيو، نشرت عرضا نقديا لكتاب المفكر «محمد جابر الأنصاري» «تجديد النهضة باكتشاف الذات ونقدها»، وهو كتاب يتصف بالجرأة في طرح الأسئلة في هذا الزمن الذي نحتاج فيه إلى الجرأة؛ فللكتاب سؤالان مهمين؛ أولهما: عن سبب التناقض الحاد بين مأساة محاولتنا للنهوض وضعف استجابتنا لهذه الأزمة. وثانيهما: لماذا لم تحسم الأمة مصيرها وتكمل نهضتها وتحقق أهدافها كما فعلت أمم شرقية كثيرة غيرها؟ فعلينا أن نضع معادلة النهضة في سياقها الحقيقي؛ بفهم الذات في تاريخيتها وخصوصيتها، وفهم الآخر في تاريخيته وخصوصيته. ونقد الذات من أهم إنجازات الكتاب، لكن نقد الآخر خارج إطار فهمه تاريخيا أدى إلى تبرئة الذات من باب خلفي. كنت في تونس، عندما علمت أن بعض المحامين رفعوا قضية ضدي بالمحكمة.
6
كتبت مقالا نشر في مجلة «القاهرة» عدد مايو ثلاثة وتسعين، كقراءة نقدية في فكر «جابر عصفور»، من خلال كتابه «قراءة التراث النقدي»، وهو من أهم الكتب التي تتناول إشكالية القراءة مطبقة على تراثنا النقدي تحديدا من منظور كلي شامل، تتفاعل فيه الممارسة التطبيقية مع التنظير للقراءة في تفاعل جدلي قلما نجد مثيلا له في الأطروحات التي تمتلئ بها الساحة حول القراءة وإشكالياتها. وبسبب هذا التفاعل الجدلي بين الممارسة والتنظير اقترب الكتاب إلى حد كبير من تخوم حل إشكالية التوفيق بين الأصالة والمعاصرة، أو بين الموروث والوافد، أو بين القديم والحديث ... إلخ من ثنائيات في الفكر العربي الحديث. حاول أن يقدم الحل التوفيقي الحقيقي القائم على إدراك عناصر التمايز والخصوصية في كل من القديم والحديث من جهة، وإدراك علاقات الاشتراك والتشابه من جهة أخرى، حيث تصهر عدسة الناقد الحداثي القطبين في كل موحد، يمثل إضافة حقيقية للمعاصرة ذاتها بقدر إدراك القديم موضوعيا متجاوزا إياه.
المقدمات المنهجية التي يبدأ بها الكتاب أعتبرها استنباطات واكتشافات منهجية في علاقة تفاعل مع التطبيقات الواردة في الجزء الثاني من الكتاب؛ ف «جابر» منذ رسالته للماجستير سنة ثمان وستين عن الصورة الفنية عند شعراء مدرسة الإحياء، والتي تولدت منها أسئلة أدت إلى العودة إلى دراسة الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي في رسالته للدكتوراه عام ثلاثة وسبعين، حيث استفاد من جهود «لطفي عبد البديع»، و«شكري عياد» (1921-1999م)، و«مصطفى ناصف» (1922-2008م)، بالإضافة إلى قراءته الخاصة في التراث النقدي الأوروبي الرومانسي ومدرسة النقد الجديد؛ فهو ينظر إلى التراث في إطار أوسع، لا يفرق بين مجالاته المختلفة، ومن خلال رؤية حديثة عصرية؛ فقراءاته الحداثية كناقد مركبة من عدسة أسئلة الإحياء، وعدسة القراءات السابقة للتراث النقدي الغربي، وعدسة قراءات التراث الملتهبة بأسئلة النهضة، وسقوط معادلتها بعد هزيمة سبعة وستين؛ فعلى المستوى النظري يتحرك من الجزئي إلى الكلي، وعلى مستوى المادة المقروءة يتحرك حركة بندولية بين القديم والحديث. ومن مفهوم الصورة الفنية في رسالتي الماجستير والدكتوراه، إلى مفهوم الشعر، ثم نظرية الفن أو نظرية النقد؛ ليعود على مستوى المقروء إلى نقد الإحياء ويقترب من طرح مفهوم رؤية العالم عند مناقشته لمفهوم الخيال عندهم. وفي كتابه «المرايا المتجاورة» عن النقد عند «طه حسين»، ودراسته عن تعارضات الحداثة، نقطة تحول حاسمة من النقد الماركسي التقليدي المشبع ببقايا الرومانسية إلى آفاق الحداثة. وظهر وعيه كناقد بأهمية المتوسطات القرائية بين القارئ والمقروء.
وجاءت شهادة الشيخ «محمد الغزالي» في قضية اغتيال المفكر «فرج فودة» في حمية المواجهة بين الشرطة وجماعات العنف الديني المسلح، حين ألقيت قنبلة على أتوبيس سياحي بمنطقة الأهرامات، في الثامن من يونيو ثلاثة وتسعين. وجاءت جلسة المحكمة الأولى لنظر قضية التفرقة بين «نصر أبو زيد» وزوجته، يوم العاشر من يونيو ثلاثة وتسعين، وحضر الجلسة المحامون: «محمد صميدة عبد الصمد، وأحمد عبد الفتاح، وعبد المطلب محمد»، وقدموا خمس حوافظ؛ عدد مجلة «القاهرة» أبريل ثلاثة وتسعين، وتقرير «محمد البلتاجي» عن كتاب «الإمام الشافعي»، وكتاب «مفهوم النص»، وتقرير ل «إسماعيل سالم» الأستاذ المساعد بدار العلوم، وخطيب مسجد نور الإسلام بالهرم، بعنوان «نقد مطاعن نصر أبو زيد في القرآن والسنة والصحابة وأئمة المسلمين»، وكتاب «نقد الخطاب الديني»، وبعض مقالات الصحف ل «فهمي هويدي، ومصطفى محمود، وثروت أباظة». وطلبوا إدخال الأزهر في القضية. أجلت المحاكمة لجلسة الرابع من نوفمبر القادم. ونشرت جريدة «الأخبار» ثلاث مقالات للدكتور «البدراوي عبد الوهاب زهران»، وكان ثالثها يوم الحادي عشر من يونيو ثلاثة وتسعين. وبدأت صفحة الحوار القومي بجريدة «الأهرام» في نشر تعليقات المثقفين على تقارير اللجنة العلمية وتقرير مجلس القسم ومجلس الكلية، يوم السادس عشر من يونيو.
كتبت ردا على مقالات «البدراوي زهران» في «الأخبار» نشر يوم الخامس والعشرين من يونيو: حاول «البدراوي» في المقالة الأولى عرض ملاحظات في مجال المصطلحات لا قيمة علمية لها، وفي المقالة الثانية انتقل إلى السعي الحثيث لإثبات أنني لا أدافع فقط عن سلمان رشدي بل أدافع عن روايته «آيات شيطانية»، وأتى ببعض أقوالي في كتاب نقد الخطاب الديني، وتساءل «لماذا لم أناقش الرواية؟» في حين أن ما قلته في هذا السياق عن سلمان رشدي أو أولاد حارتنا كان مجرد أمثلة على اندفاع البعض إلى التكفير دون تثبت. وفي مقاله الأخير قفز قفزته نحو التكفير، ويدعي بالباطل أنني أنفي عن القرآن الكريم نسبته إلى الله.
في ختام تناول صفحة الحوار القومي بجريدة «الأهرام» لموضوع طالب الأستاذ «لطفي الخولي» الأطراف في القضية بكلمة ختامية، فأرسلت مقالا نشر في الرابع من أغسطس بعنوان «الإسلام بين الفهم العلمي والاستخدام النفعي». هناك نهجان في التفكير؛ نهج الثبات والتقليد، يحاول أن يقاوم التطور والتغير، فيقدم قراءة وتأويلات للتراث الإسلامي تجعله ينطق بهذه القيم، فيقومون باستخدام التراث الإسلامي بل والإسلام استخداما نفعيا ذا طابع سياسي. وأصبح لهذا النمط قاعدته الاقتصادية وجناحه السياسي والعسكري، فتحول الإسلام في تفكيرهم إلى مجرد وقود يحترق من أجل العراك السياسي ضد خصومهم. وهنا يسهل أن يتولى القيادة الدينية - خصوصا بين الشباب - أقلهم علما ووعيا وأكثرهم حركية سياسية؛ فلم تعد العبرة بفهم الدين بل باستخدامه. ونمط ونهج ثان للتفكير يركز على الفهم واستنباط الجوهري؛ فهم التراث والدين معا نقديا؛ فليس للتراث قداسة بما هو فكر بشري حول الدين، فهم بعيد عن الاستخدام النفعي للدين.
هذان النمطان من التفكير عاشا فترة طويلة في حالة سكينة زائفة، تتخللها بين الحين والآخر بعض المعارك الساخنة التي ما تلبث أن تهدأ دون أثر على الوعي العام بجوهر الخلاف ومغزاه. ولقد حاولت بكل جهدي العمل على ثلاثة محاور؛ أولا: دراسة التراث دراسة نقدية. وثانيا: نقد خطاب الإسلام السياسي بسبب تحويله الدين إلى وقود في المعارك السياسية. وأخيرا: محاولة تأصيل وعي علمي بدلالة النصوص الدينية. وأصحاب نهج الثبات يخوضون معركتهم ضد خطاب «أبو زيد» من أجل إسكاته إلى الأبد، إن لم يكن بالحرمان من الترقية فبإعلانه كافرا مرتدا بما يترتب على ذلك من نتائج تعرفونها. يوم الأربعاء الثامن عشر من أغسطس ثلاثة وتسعين، وقعت محاولة لاغتيال وزير الداخلية الجديد في إطار المواجهة شبه العسكرية بين الجماعات والدولة.
7
صفحه نامشخص