شهر وتم اغتيال الرئيس «السادات» في ساحة العرض العسكري. بعد حادث الاغتيال وقبل العيد بيومين جاء بعض الأصدقاء لزيارتي، وصاح أحدهم قائلا: «الراجل اللي كان مضايقك في عيشتك مات يا عم.» وما إن سمعت أمي ما قال حتى سألت عمن ضايقني في عيشتي، وكانت حزينة على قتل «السادات»، فلما عرفت بقرار النقل دعت على «السادات».
عدت إلى الجامعة، التي لم تكن نفس الجامعة التي تركتها منذ أشهر أربعة فقط، زرع الخوف في الطلبة، هم نفس الطلبة، لكن تغيروا. ألقي المحاضرة ولا يسأل أحد، ولا يستفسر أحد، ولا يتكلم أحد. الخوف خلق حالة من التوتر. شعرت بحالة عجز عن التواصل مع الطالب؛ فلا قيمة للتدريس داخل الجامعة. شعرت بأن أرجاء المدرج تدور بي، حتى سقطت على أرضيته. أخذت إلى البيت، وأخبرني الطبيب أني أعاني من حالة توتر بشعة. أخذت إجازة شهر، وقررت أن أستقيل؛ فالجامعة لم تعد مكانا صالحا للتعليم أو للنقاش أو للبحث. فقررت أن أذهب شهرين إلى فرع جامعة القاهرة بالخرطوم، وكانت هذه الخطوة هي وسيلة خروجي من الأزمة التي مررت بها؛ فطلبة السودان على الرغم من فقرهم، وعوز العيش، أعادوا لي الثقة في القدرة على التواصل مع الطلبة؛ كانوا مهتمين بالسياسة، وشغوفين للسؤال والنقاش، طوال الشهرين جعلوني أستعيد نفسي، وقررت أن أقضي شهرين كل عام في فرع جامعة القاهرة في الخرطوم.
انتهيت من كتابة بحث عن الأساس الكلامي - نسبة إلى علم الكلام - لمبحث المجاز في البلاغة العربية، أستكمل فيه الأسئلة التي تولدت من دراسة الماجستير، هذه المرة أركز على لماذا انقسم المفكرون العرب إلى من يثبت المجاز بأشكاله في اللغة أو من ينكره، وما مغزى هذا الاختلاف في تصور كل فريق عن اللغة وأصلها، وما الإطار الفلسفي والفكري. ولن أفعل كما فعلت الدراسات السابقة بالقيام بعملية تقييم لجهود السابقين؛ فسوف أسعى للفهم والتفسير من خلال وجهة نظرهم. انقسم الموقف من وجود المجاز في القرآن إلى ثلاثة اتجاهات؛ اتجاه يعتبر أن المجاز قرين الكذب، ويجب أن ينزه القرآن عن وقوع المجاز فيه. ولأن القرآن الكريم نزل على لغة العرب وطرقهم في التعبير، فنفوا وجود المجاز في اللغة العربية أيضا. ويرفض مثلا «ابن القيم الجوزية» (ت: 751ه/1351م) تقسيم الألفاظ إلى حقيقة ومجاز، وهو يرفض أن تكون اللغة اصطلاحا بين الناس توافقوا عليه، بل هي توقيف من الله ليست نتاجا بشريا، بل هبة من الله للبشر؛ وعلى هذا الأساس فالنقل مقدم على العقل عندهم، والمعرفة مسار هابط من الله إلى الإنسان.
أما المعتزلة فالمعرفة عندهم تسير في اتجاه صاعد من العقل البشري متأملا في ذات الإنسان وفي الكون وصولا إلى معرفة الله بصفاته من التوحيد والعدل، معتمدين بقياس الغائب المجرد، غير المدرك بالحواس على الشاهد المحسوس، بهدف الوصول إلى معرفة الله بصفاته، ثم معرفة أوامره ونواهيه، التي تؤدي بالإنسان إلى الثواب وتنجيه من العقاب. ووسيلتهم لهذه المعرفة العقل الذي يبدأ من المحسوس مستخدما البديهيات ليصل إلى معرفة ما غاب عنه. ولكي يكون للكلام دلالة، فلا بد من المواضعة المتفق عليها في الكلام قبلا، ويضاف إليها معرفة قصد المتكلم حتى نستطيع فهم رسالته. وهذه المواضعة هي التي تنقل الاسم من معنى إلى معنى آخر، من هنا يأتي المجاز. وقد استفضت في شرح منهجهم في رسالتي للماجستير.
الاتجاه الثالث الأشاعرة، قالوا إن الكلام صفة قديمة لله، وقدموا الشرع على العقل، لكنهم جعلوا للعقل دورا اجتهاديا استنباطيا لفهم الشريعة.
كل هذه الجهود كانت الأساس الذي بنى عليه البلاغيون، حتى صاغ «عبد القاهر الجرجاني» (471ه/1107م) الفارسي التصورات النهائية لمفهوم المجاز وأقسامه؛ فيبدأ بالتفرقة بين أدلة العقول ودلالة اللغة. وهذا الفصل بين الدلالة اللغوية والعقلية يرتد إلى تصور للغة باعتبارها مجموعة من الألفاظ تدل على أشياء ومفاهيم خارج الذهن البشري؛ ولذلك يفرق «عبد القاهر» بين مجاز يقع في ألفاظ مفردة، وهو مجاز لغوي، وبين مجاز يقع في التركيب أو نظم الكلام، وهو مجاز عقلي. وتحدث عن أسبقية الاستخدام الحقيقي للغة على الاستخدام المجازي، ويؤكد على ضرورة وجود علاقة ما بين الاستخدام الحقيقي والاستخدام المجازي لألفاظ اللغة. إن الخلافات بين هذه الفرق حول قضية المجاز واللغة انتهت جميعا إلى إخضاع مفاهيم المجاز واللغة للقضايا العقلية الخلافية بينهم، وأثر «عبد القاهر» في جهود المتأخرين ك «السكاكي والخطيب القزويني»، وبذورها تعود إلى كتب المتكلمين باتجاهاتهم المختلفة. نشرت هذه الدراسة ضمن كتاب تذكاري عن أستاذي «عبد العزيز الأهواني»؛ دراسات في الفن والفلسفة. وبدأت المشاركة في أنشطة أسرة «مصر» بالجامعة التي أخذت مني وقتا ومجهودا في عمل نشاط ثقافي حقيقي مع الطلبة لنقد الأوضاع الفكرية الحالية، وحالة الأمة، فنقرأ قصائد «أمل دنقل»، والتي كأنها كتبت الآن؛ فها هي إسرائيل تحتل عاصمة عربية، ولكن الأسرة حوربت حربا شرسة لنشاطها الفكري المختلف عن الأنشطة الترفيهية للأسر الأخرى.
8
عدم الإنجاب وضع ضغوطا كثيرة على زوجتي، وأمي تسأل في كل مناسبة أو غير مناسبة. امتقع وجهها حين أخبرتها أنها لن ترى أبناء لي؛ لأني لا أنجب لضعف الخصوبة عندي. منذ أن عادت إلى قحافة، بعد زواج أخي الصغير، بدأت صحتها تعتل. أزورها كل أسبوع. وبمساعدة صديقي الحميم «أحمد مرسي»، والذي كان على علاقة بالطبيب «إبراهيم بدران»، أكبر متخصصي القلب في مصر، وقد قبل مشكورا أن يذهب إلى القرية للكشف عليها وفحصها بعناية. قال لي : «شوف يا نصر، الست والدتك ليس عندها حاجة خطيرة، هي صمامات القلب، وممكن نعمل عملية تغيير الصمامات، لكن هذه السيدة كأنها قررت أن تموت، شعرت أن رسالتها قد تمت، فممكن العملية تنجح مائة بالمائة طبيا، لكن الأهم هو رغبة المريض في الحياة. وهي ست تحب النظافة والتطيب؛ فلو دخلت المستشفى، ولم تلق رعاية نظيفة ممكن نفسيا تموت، فأحسن ألا تتبهدل جراحيا.»
دخلت عليها وكان وجهها شاحبا من تأثير المرض، حاولت أن أحييها، فطلبت مني نقودا فقلت: «فيه إيه يا ست أم نصر، كل ما تشوفيني تطلبي فلوس، هو محمد قصر معك؟ ولا أنت نويتي تتزوجي؟» فقالت: «إنت بتغلبني ليه؟ أنا ربيتكم وتعبت، وعادي إني أطلب منكم فلوس.» - ما فيش حاجة لكن هو حد قصر معك، وبعدين أنت لازم تأخذي بالك من أكلك، أنت غالية علينا، ولا أنت زعلتي منا. - أنت أحسن ما تجيش تزورني، خليك في مصر وريحني، هو انت هتمشيني على مزاجك، آكل إيه ولا ما كلشي إيه؟
تحسبا لأي مكروه مفاجئ، عملت جمعية مع بعض الأصدقاء، أقبضها الأول. وصلت يوم زيارتي الأسبوعية من القاهرة، فوجدت حشدا من الناس يجلسون أمام البيت، توجهت إلى حيث توجد، وحاولت أن أكشف عن وجهها الساكن الآمن، وقبلت جبينها. آه يا أمي، وشريكة مشواري، مشيناه ربع قرن، كنت في الخامسة والثلاثين وأنا في الرابعة عشرة، أنفقت شبابك وجمالك وصحتك حتى تصل المركب إلى شاطئ الأمان، وفارقتنا قبل أن نرد بعضا من عطائك. ماذا أخذت من هذه الحياة؟ أعطيت بلا انتظار لعائد. شعور ليس مثله شعور، حتى يوم فراق أبي. رغبة شديدة في البكاء تمالكت نفسي، وذهبت إلى أخي محمد لأعطيه نقود الجمعية لإجراءات الدفن والعزاء، فقال: «أمك امبارح بالليل نادت علي، وقالت يا محمد لو مت صلوا علي الجمعة، وعايزة صوان ومقرئين مشهورين وجنازة محترمة.» وأخرجت خمسمائة جنيه وأعطتها لي تكلفة الجنازة. أدركت من حياة هذه السيدة زيف مسألة الرجل والمرأة في ثقافتنا، وفي فهمنا للنصوص الدينية وتأويلها للتمييز بين الرجل والمرأة، وقوامة الذكر على الأنثى؛ فكفاحها بعد موت زوجها، وخروجها للعمل حتى تستطيع العبور - بأسرة من ستة أطفال - إلى شط الأمان، في نموذج يضعف عنه الكثير من الرجال، حتى أدبنا العربي لا يحتفي بهذه الأم المكافحة التي تواجه الحياة، ويكتفي فقط بصورة الأم التقليدية.
صفحه نامشخص