في الإجازات الصيفية كان الباشا يأتي إلى لندن وكانت تأتي معه نازك ونادرة وكان يتفضل فيصحب أسرة صالح. ولم تكن طبيعة الأمور تمكن نازك من الاتصال بصالح إلا بصورة رسمية، ولكن عين خديجة لاحظت شيئا، شيئا واهنا لم يكن كافيا حتى لأن تفاتح صالح بشأنه، ولكنها أحسته على كل حال وطوته في نفسها.
ولم يشأ صالح في هذه الإجازات أن ينغص على خديجة وجودها معه، فهو يظهر أنه سعيد بمقامه لا يضيق بشيء إلا ببعده عنهم. وفي هذه الإجازات كانت نازك لا تترك نادر لحظة إلا حين تحس أنه يحب أن يسهر مع نعيم سهرة خاصة؛ فهي تهيئ له هذه الفرصة وترجو أباه أن يتيح له التمتع بسهرة بعيدة عن أبيه وأمه، قليلا ما كانت تتم هذه السهرات لأن الباشا لم يكن ليسمح لها أن تتكرر كثيرا.
وفي الإجازات الأخيرة لاحظ صالح للوهلة الأولى أن صحة الباشا ليست على ما يرام، فانتهز فرصة ذهب فيها الباشا إلى حجرته ليستريح بعد الغداء وبقيت نازك مع صالح وخديجة في بهو الفندق.
واستطاع أن يعربد ما شاء أن يعربد. - صحة الباشا. - كان متعبا هذا العام. - وماذا قال الأطباء؟ - ليسوا راضين عن صحته كل الرضا. - ولماذا لا يرى الأطباء هنا؟ - أظنه سيفعل.
وفعلا عرض الباشا نفسه على أطباء إنجلترا وكان صالح معه دائما، وأحس أن مرض الباشا ليس بالشيء الذي يستهان به، وانقضت الإجازة وعاد الباشا ونازك وأسرة صالح إلى القاهرة، واستمر صالح بلندن يمارس عمله الكريه. ولكنه في هذه المرة أصبح تودده لنادر أكثر من ذي قبل؛ فراح يعامله كسيد له أن يأمر وعلى من سواه أن يطيع. وأحس نادر هذه النغمة الجديدة، وكان تفسيرها حاضرا في ذهنه؛ فهو فعلا السيد وصالح موظف عنده، عنده أو عند أبيه، الفرق لا يذكر، كان نادر دائما يجد التفسير القريب لكل ما يصادفه في حياته؛ فإقبال النساء عليه لأنه جميل وشاب، أما أنه غني فهذا ما لم يفكر فيه أبدا؛ والتصاق نعيم به في رأيه أمر طبيعي، أما أن نعيم يحب نادرة ويفكر في شأنها تفكيرا خاصا فهذا ما لم يخطر له ببال. والحق أن هذا لا يمكن أن يخطر على بال أحد مهما يكن عميق النظرة بعيد الغور.
فإن صالح مثلا وخديجة ونازك - وهي من هي - لم تلحظ أثناء زيارتها إلى لندن أن ثمة لمحة يمكن أن تثير في نفسها نوعا من الشك، وكيف للشك أن يثور ونعيم مسيحي، وأبوه يعمل موظفا بالدائرة ونادرة ابنة الباشا جميعا.
معذور إذن نادر حين لا تخطر له هذه الفكرة بشأن نعيم ونادرة، ولكنه على كل حال من هذا النوع من الناس الذين يفسرون الأمور من أقرب وسائلها، ولعل الأمور كانت تتيح له هذه النظرة القريبة الميسورة؛ فهو جميل لا شك في ذلك، فارع الطول، سمح القسمات، لا تستطيع فتاة أن تراه وتعبره دون اهتمام، وهو في حديثه بسيط جذاب، وجد حياته كالجدول الرقراق لا تعترضه صخور أو عقبات فهو في نفسه صافي الخلجات، ينطلق منه الحديث في غير تكلف أو تصنع، نوع من الحديث لا تجده الفتيات عند كثير من الشباب الذي عانى وسار على الشوك وشق طريقه بين الصخور مستخدما كل آلات النفاق والتكلف والمخادعة، وهي أدوات لم يكن نادر يعرفها، وإنما عاش عمره يريد فينال، ويقول فيسمع، ويسير فالورد والزهور طريقه، كل ما عليه أن يقرأ وأن يستمتع، وقد كان يقرأ ويستمتع، وكان يعلم أنه يقرأ ليكون مثقفا؛ فهو في غير حاجة إلى شهادة لتكون سلاحا له في الحياة؛ فقد كان سلاحه الطبيعي أقوى من أي شهادة، إنه ناظر الوقف المنتظر، أما أن يكون مثقفا فهذا شيء لا يحب أن يستغني عنه؛ لأنه استطاع أن يجلس بين المثقفين، واستطاع أن يدرك في بساطة أنه بغير ثقافة ولو بسيطة لن يستطيع أن يجلس مع أحد. وقد كانت الثقافة في رأيه أن يتقن اللغات فأتقن كثيرا منها. ولكن كما كانت حياة نادر ميسورة رقيقة كانت ثقافته أيضا ميسورة رقيقة؛ فهو يتقن اللغات ولكنه لا يقرأ إلا ما تريده المدرسة أن يقرأ؛ فهو لم يكن هاويا للثقافة وإنما كان ممارسا لها؛ فلم يستطع - أو هو لم يرد - أن يتعمق موضوعا بذاته أبدا، فإن شاء أن يعرف معلومات عن أمر من الأمور كلف صالح فإذا كل ما يريده حاضر بين يديه. وقد كان يجد من العبث بعد ذلك أن يبحث هو نفسه بنفسه. والقراءة في ذاتها لم تكن متعة له في يوم من الأيام. إنه يعرف متعاته، ويجيد معرفتها، ولم تكن القراءة من بينها. وقد خيل إليه بعد ما أجاد من لغات أنه لم يعد في حاجة إلى مزيد من الثقافة، وخيل إليه أيضا أنه يستطيع الآن أن يجلس مع من يشاء. وقد كان يعرف دائما أنه يستطيع أن يقول ما يشاء؛ فالاستحسان ينتظر شفتيه أن تنفرجا، أما ما قد يقوله السامعون إذا انصرفوا فلم يكن يعنيه في شيء، بل هو في الواقع كان يظن أن المديح الذي كانوا يطلقونه على مشهد منه هو نفسه الذي يطلقونه بينهم وبين أنفسهم أو بينهم وبين بعضهم البعض.
عاد نادر متأخرا إلى البيت الذي يسكن فيه مع صالح فوجد صالح ينتظره واقفا في البهو. - برقية أن تعود فورا إلى مصر.
16 - ظلت تؤجل حتى مات. - الظروف كانت صعبة. - وأصبح نادر اليوم ناظر الوقف. - المصيبة أنه محبوب من جميع المستحقين. - جميع النظار محبوبون في أول الأمر. - وهل ننتظر حتى يصبح مكروها؟ - لا حيلة لنا إلا أن ننتظر. - قل لي يا يسري أما زالت أحوالك المالية مرتبكة؟ - ألا تعرف يا شوكت بك؟ - لم تترك سميحة. - سننا أصبحت لا تحتمل الترك. - وأصبحت تحتمل القمار. - نحن في الهوى سوا. - أنا لست قاضيا. - القمار مرض لا يفرق بين قاض أو غير قاض كما لا يفرق بين كبير وصغير. - نعم معك حق. - أظنك تعرف ما أرمي إليه. - حسام ابني لا يفرغ من القمار إلا ليبحث عن النساء. - إذن فأنت تعرف. - ومن أين تظنه يأتي بالمال؟ - إذن فلا بد من عمل شيء. - الآن؟! - فلننتظر قليلا. - ننتظر نعم، ولكن إياك أن تقطع صلتك بأولئك الخبراء. - أتعتقد أننا سنحتاج إليهم؟ - إن لم تكن لنا بهم حاجة للتنفيذ فلا شك أننا سنحتاج إليهم للتهديد. - وهل سنحتاج إلى التهديد؟ - الأيام دائما حبالى. - ونحن الذين نولدها. - لا بد ممن يساعد على الولادة. - إن صلتي بمن تريد دائما قائمة. - واترك للأيام أن تكمل مواقيت ولادتها . - إني منتظر. •••
كان حزن نازك في ظاهره شديدا؛ فقد أرادت له أن يبدو شديدا، أما نادر ونادرة فقد كان حزنهما طبيعيا لا أثر فيه لافتعال.
صفحه نامشخص