حين دخلت سميحة الحفل التقطتها عينا يسري فسارع إليها، وكانت اللحظات التي مرت بها قبل أن يصل إليها عصيبة؛ فقد هالها ما ترى ووجف قلبها وتسمرت مكانها تبحث عن يسري؛ فقد خيل إليها أنها تغرق في بحور من الفخامة والنور لم تتعودها. نظرت إلى أخيها فوجدته فاغرا فاه مذهولا فازداد اضطرابها ولم تجد شيئا تفعله إلا أن تنظر إلى أخيها. - اقفل بوزك.
وانتبه فتحي إلى نفسه وأقفل فمه، ولكن التعبير الذي في عينيه لم يستطع التغلب عليه. لحظات ولكنها مروعة ومخيفة، وأدركهما يسري: أهلا. - الحقنا. - اثبتي. - أنا لا أعرف أحدا هنا. - الحمد لله. - ماذا أفعل! - تعالي أولا أقدمك إلى نديرة. - ماذا ستقول لها؟ - تعالي. ••• - فتحي بك فاضل من رجال الأعمال، والسيدة أخته سميحة هانم فاضل.
ونظرت إليهما نديرة نظرة عميقة ولكنها كافية لأن تعرف أنهما غريبان عن هذا الوسط جميعه. ولكنها لم تشك في شيء، فزوجها يستطيع أن يعرف في الحياة العامة أناسا من طبقات مختلفة. - أهلا وسهلا، شرفتم، تفضلوا.
10
هن يقبلن لزيارتي ويقدمن الإجلال والاحترام، سيدات معروفات بذواتهن لا يتغيرن، حديثهن معاد لو كان طليا لفقد طلاوته، فما الخطب وهو من أول أمره حديث ثقيل لا رواء فيه ولا جاذبية؟ وهو يأبى أن أترك القصر إلا لزيارات يعرفها، وهو حريص على أن يعرفها، ثم هو حريص بعد ذلك على أن يتأكد منها بطريقة أو بأخرى؛ فالسائق من القصر، ولالا ألماظ ولالا بشير رقيبان لا تفتر لهما همة ولا يهن لهما نشاط، وماذا يصنعان إن لم يرقبا؟ لقد عرفا منذ وقت طويل أن الوظيفة الوحيدة التي يستطيعان أن يقوما بها هي المراقبة والحديث عن الغير، وهو أيضا وليد المراقبة.
لقد نفذ نامق اتفاقه، ومن أدراني أنه نفذه؟ إنني لا أستطيع أن أفرض عليه من العيون مثلما يفرض، كيف أعرف أنه حين يذهب إلى الإسكندرية يذهب للعمل وحده؟ إن قصره هناك على البحر يستطيع أن يستقبل فيه من يشاء، وأنا هنا أطمئن نفسي أنه نفذ اتفاقه.
كيف أستطيع أن أبث حوله العيون مثلما يبثها حولي؟ إن الكوة الوحيدة التي أطل منها على العالم الخارجي هي كريمة، وهو لا يجسر أن يقصيها عني حتى لا تفشي من سري ما يريد له أن يظل سرا.
أين ذلك الهمس الأثيري الذي كان يشيع في أرجاء المكان حين أطل عليه؟ رءوس النساء تتمايل، وعيون الرجال تثبت، ويتهامس الجميع، ويشعر المكان أن شيئا جديدا حدث فيه، وكان دائما جديدا، هذه النشوة التي كنت أحس بها مزيجا من الزهو والفرح والإعجاب بنفسي والرضا عن الناس، كنت أحس أنهم يقبلونني بعيونهم، وكنت أحب أن أرد لهم هذه القبلات، وكنت أحاول بعيني أن أفعل.
طالما الأمد على هذا جميعه، وكان لا بد للأمد أن يطول، تزوجت من ناظر الوقف، وجاء نادر. لا يمكن أن أذهب إلى الحفلات ونادر في طريقه إلى المجيء، وقبل أن يظهر في الطريق كان هناك هذا الاتفاق بيني وبين نامق ألا خروج، وكان لا بد من الطاعة أو من التظاهر بالطاعة في أول الأمر؛ فقد كان نامق طوال هذه الفترة لا يستقر على حال؛ فهو حينا لطيف يعاملني برقة، وهو حينا خشن أحس القلق والخوف في عينيه، ليس هذا غريبا على الرجال مع المرأة التي تقدم نفسها قبل الزواج، إنه دائما يخاف ويرغم الخوف أن يستكين في البعيد من نفسه، ولكن الخوف لا يزال أبدا. حين جاء نادر كان يتفرس فيه، يريد أن يرى نفسه، فهو يبتسم حينا ويعبس حينا ويتفرس، لم يعبأ بالهمس في البيوت فلم يكن الهمس ليرقى إلى أذنيه، حاول صالح أن يشير ولكنه زجره في عنف فأمسك. لوى الحديث إلى المديح لي والإعلاء من شأني والإشادة بنقاء سمعتي وعراقة محتدي، إن نامق كثير الحديث عن صالح، يبدو أن صالح هذا ذكي يعرف كيف يرضيه ويعرف كيف يبدو صريحا كلما كانت الصراحة حبيبة إلى نفس نامق، أريد أن أعرف هذا الصالح، لقد جعلني نامق أفكر فيه كثيرا، كريمة رأته، إنها أيضا بحديثها العابر جعلتني أفكر فيه، على أي حال كان هو الوحيد الذي استطاع أن يرفع الهمس إلى أذن نامق، وكان هو الوحيد الذي يستطيع أن يفعل ذلك فهو يعرف كيف يدور بالحديث بعد ذلك. ••• - ألف مبروك يا سعادة الباشا. - بارك الله فيك يا صالح. - كم كنت أرجو أن تكون هذه التهنئة خالصة. - ولماذا لا تكون خالصة؟ - يهمسون. - إياك أن تذكر همسهم، للجرأة حدود. - ولكن سمعة الهانم وعراقة أصلها أخرست الألسنة الهامسة. - فلم يكن هناك ما يدعو إلى الحديث عنها. - ألم تطلب مني أن أنقل كل شيء إليك؟ - عليك أن تختار ما تنقله. - فعلا علي أن أختار ما أنقله. - أهذا أنا الذي يتحدث، لقد قلت لها إنني أخاف على نفسي، وقد كنت محقا أن أخاف. •••
يظن صالح نفسه صريحا، أريد أن أراه، وبعد هل أظل حبيسة هذا الاتفاق بيني وبين نامق؟ وإلى متى؟ - كريمة، أهلا، يومان لا أراك. - منيرة كانت متعبة. - بعد الشر، ما لها؟ - أمراض الأطفال لا تنتهي. - نادر الحمد لله. - عيني عليه باردة. - ماذا يقول الناس؟ - وماذا يمكن أن يقولوا بعد فتاوى المشايخ والأطباء؟ - هذا الموضوع انتهى إذن. - وظهر موضوع آخر. - خير؟ - تزارين ولا تزورين؟ - وماذا في هذا؟ - بعضهم يقول تكبر . - والآخرون؟ - يقولون أوامر. - وما رأيك؟ - فليقولوا ما يشاءون. - أنتركهم يقولون؟ - وأنت ما يهمك؟ - الحقيقة يهمني. - كلامهم؟ - لا ولكن هذا الحبس. - أتسمينه حبسا؟ - فماذا تسمينه أنت؟ - إنه يسمح لك بالخروج. - بعلمه. - كل الرجال كذلك. - إنه يسافر كثيرا، الآن مثلا هو مسافر منذ أسبوع ولن يعود إلا بعد أسبوع، وأضطر أنا أن أنتظر مجيئه، والإذن بالخروج لا أحصل عليه إلا بعد تقديم الأسباب والحيثيات. - تتكلمين مثل فتوح. - كيف هو؟ - بخير، لقد أوصاني أن أطلب منك شيئا. - خير؟ - وظيفة وكيل مديرية الشرقية خالية. - ويريد أن يكون وكيل المديرية. - إذا أوصى به الباشا يكون. - وتذهبين معه؟ - إنه مستقبله. - أليست هناك مديرية قريبة؟ - الجيزة. - وتبقين بالقاهرة؟ - أبقى طبعا. - فلماذا لا يكون وكيل مديرية الجيزة؟ - ليست خالية. - ينقل وكيل مديرية الجيزة إلى الشرقية. - يا حبيبتي يا نازك. - إياك أن تفكري في تركي. - وهل أستطيع العيش بعيدة عنك؟ - غبت عني يومين. - وسأغيب باكرا أيضا. - لماذا؟ - عندي ناس. - ناس، من هم؟ - أخاف أن أذكرهم تزعلي. - فلماذا دعوتهم؟ - فتوح، أنت تعرفين أنه صديق يسري مختار زوج نديرة. - أنا لا أكره نديرة. - كذا؟ - أبدا، ولماذا أكرهها؟ - نديرة يا ستي وزوجها وأختها خديجة وصالح عبد العال. - صالح عبد العال؟ - نعم ما الغرابة؟ إنه صديقهم جميعا. - كريمة، اسمعي. - ماذا؟ - ما رأيك لو ...؟ - إياك. - لا شأن لك. - إياك، أنا لا شأن لي؟ - لا شأن لك. •••
صفحه نامشخص