كيف استطاعت نازك أن تدبر هذا الإرهاب، إنها قادرة.
وها هي ذي فتاوى المشايخ تتوالى أن الجنين يمكن أن يمكث في بطن أمه أقل من ستة أشهر ثم يخرج إلى الوجود وليدا شرعيا يواجه الحياة في ثقة واطمئنان. إنه ابن العقد الشرعي وليس ابن اللحظة العابرة، إنه تدبيرها، ولم تنس الأطباء فأبحاثهم عن فترة بقاء لوليد جميعها تؤيد هذه النظرية التي وضع أسسها المشايخ، أطباء جدد يريدون أن يبدءوا طريقهم إلى الحياة بالغنى، ولكن لا يهم فإنهم أطباء على كل حال، إنه تدبيرها، فلو أن نامق فكر لاستدعى أكبر طبيب وطلب إليه أن ينشر بحثا يؤيد هذا الرأي، وسينسى نامق في غروره أن الطبيب الكبير لن يقبل؛ فسمعته عنده أعظم من سلطان الباشا الناظر، لم يلفته إلى صغار الأطباء إلا هي، إنها قادرة، ولكن لا أريد أن أتركها وشأنها، أريدها أن تجد الطريق حتى تسير فيه. - أحمد بك. - أفندم إلهام هانم؟ - متى تعود نديرة من شهر العسل؟ - أنت أدرى. - أظنها ستعود بعد أسبوع. - ربما، هل أرسلت إليك خطابا؟ - لقد قالت قبل أن تسافر إنها لن تغيب أكثر من شهرين؛ فهي تحب أن تقضي الشتاء في القاهرة. - لعلها تعود بعد أسبوع. - أريد أن أقيم لها حفلا. - ألم يقم لها أبوها فرحا ما زالت القاهرة تتحدث عنه حتى الآن؟ - ولكنني أنا لم أقم لها حفلا. - وما البأس؟ نقيم لها حفلا. - أريده حفل الموسم. - وليكن حفل الموسم. - أرجو أن تأمر بالإعداد له. - ألا نحدد موعده؟ - بعد عودتها بأسبوع. - ما اسم الموظف الذي تقول إنه عين في الوقف وأصبح ذا حظوة لدى نامق؟ - إنك لا شك تعرفين اسمه؛ فقد نال شهرة واسعة منذ كشوفه في الصحراء. - أتحاسبني على النسيان؟ ما اسمه؟ - صالح عبد العال. - آه تذكرته. - لماذا تسألين؟ - أريد أن أدعوه. - ما المناسبة؟ - بلا مناسبة. - إلهام هانم، هل لديك مشاريع لا أعرفها؟ - تستطيع أن تعرفها إذا شئت. - إني أشاء لا شك. - تعرف أنني لا أنال نصيبي كاملا في الوقف، وأنا أستكبر أن أتحدث إلى نامق. - إلهام هانم، أعتقد أن هناك سببا آخر. - أليس هذا سببا وجيها؟ - وجيه حتى أعرف السبب الحقيقي. - ما دام هذا السبب يكفيك فادعه. •••
كانت الثريات تكاد تضيء وحدها حتى ولو لم تصل إليها الكهرباء؛ فهي من الكريستال الثقيل الذي يطلقون عليه باجيس، كرات ضخمة من البلور كأنها الماس تخطف الأبصار خطفا. وكانت البسط من النوع الصيني الذي يكتنف القدم جميعا حتى ليقتلع السائر عليها أقدامه منها اقتلاعا. وكان الأثاث فخما غاية الفخامة؛ فهو جميعه من الأوبيسون الذي صنعته في فرنسا يد رقيقة من خالص الحرير في عهود الملكية الباذخة لفرنسا، وكانت الستائر أيضا من الأوبيسون.
وكان المدعوون جميعا في أفخر ملابسهم؛ فالرجال في ملابس السهرة السوداء، والنساء في ذروة افتنانهن بفساتينهن، والجواهر تتلألأ تحت الثريات كأنها ضياء من الضياء، والمعاطف والأوشحة الفرير الزبلين التي تقذف بها أيد ناعمة في غير اكتراث عند المدخل، فكأنما الناس قد صنعوا لهذا الأثاث، أو كأنما الأثاث قد صنع لهؤلاء الناس؛ فالأثاث والآدميون جميعا أجزاء من صورة رائعة الفخامة ولا يكتمل قوامها إلا بوضع هذه الأجزاء بعضها إلى بعض.
وإلهام تمر بالمدعوين تحييهم في عظمة وأدب وفي مران، والمدعوون يعرفون ما يصنعون فلا يروعهم مما حولهم شيء ولا يبهرهم مما يحيط بهم بذخ أو فخامة، ونديرة تمر بين القوم وقد وضعت على شفتيها ابتسامة تريدها أن تكون سعيدة فتنجح في ذلك نجاحا لا بأس به، ويسري يسلم على المدعوين شاردا؛ فعيناه إلى المدخل لا تريمان عنه، أكان لا بد لسميحة أن تصر على المجيء؟ تريد أن ترى بيتي؟ معها حق، كيف تستطيع أن تراه إلا في حفل كهذا؟ ماذا أفعل لو أحست نديرة؟ وما الذي يجعلها تحس؟ أيستطيع أخوها أن يتصرف كما يتصرف هؤلاء القوم؟ أتستطيع هي؟ أكان لها أن تجيء؟ وما البأس أن تجيء؟ لا أحد يعرف صلتي بها، إنها ذكية، ونديرة ذكية، ابنة ناظر الوقف، يستطيع أن ... ولماذا، ولكن تأخرت سميحة، ترى ما نصيب نديرة من الوقف؟ إن لها نصيبا عن أبيها ونصيبا عن أمها، وما الفائدة؟ الوقف لا يباع، ولكنه يدر ريعا عظيما، أتفكر في المال الآن؟ سميحة طلباتها لا تنتهي.
وصالح واقف ينفض الحفل بعينيه، أصبح له أصدقاء بين هؤلاء الناس، فكثير منهم سعى إليه لما له في الوقف من نفوذ، إنه لا يبحث عن هؤلاء الذين سعوا إلى نفوذه. إنه يريد هؤلاء الذين يعجب بهم من أبناء الفلاحين الذين صنعوا أنفسهم بأيديهم وبما قدموا لبلادهم من تضحيات، هؤلاء الواحات الذين يراح إليهم في صحراء الأرستقراطية، وقبل أن يعثر على أحد منهم. - أهلا صالح بك. - إلهام هانم لا شك؟ - ذكاؤك لا شك فيه. - أنا سعيد بلقائك. - اليوم أرجو أن تتمتع بالحفل، ولكني أريد أن أراك في فرصة هادئة فإن لي معك حديثا. - أنا دائما تحت أمرك. - استمتع الليلة بالحفل وسوف أرسل إليك قريبا. - تحت أمرك.
وتنصرف عنه إلهام وتعود عيناه تجوسان في الناس، ولكن عينين أخريين كانتا تنظران إليه دون أن يحس، إنه أنيق في غير تصنع، لا تكلف في ملبسه، ولكنه يبدو وكأنه يهتم بأناقته خير الاهتمام، إن قوامه الرشيق يتيح له هذه الطبيعة النادرة من الأناقة البالغة التي تبدو وكأنها مخلوقة معه، لم يبذل في خلقها جهدا أو تفكيرا، ويقولون إنه يجيد الحديث، ولا شك أنه يتقن فن الحياة؛ فالرجل الذي ينتقل من إنجلترا إلى الصحراء رجل يتقن فن الحياة. ما الذي يجعله واقفا وحده هكذا؟ - وحدك؟ - أبحث عن صديق. - ألا تعرف أحدا من هؤلاء؟ - أعرف جميع الرجال تقريبا. - فلماذا أنت وحدك؟ - لأني أبحث عن صديق. - ألا يعجبك منهم أحد؟ - وأنت؟ - أنا صاحبة البيت. - أعرف ذلك. - كيف عرفت؟ - لأنك تفضلت ببدء الحديث معي. - فقط؟ - ولأني أعرف أن لإلهام هانم ابنة أخرى غير نديرة هانم. - فأنت لا تحتاج إلى أن أقدم نفسي. - خديجة هانم لا تحتاج إلى تقديم نفسها؟ - ولكنك تسألني إن كان المدعوون يعجبونني أم لا؟ - أرى في وجهك شيئا لا أراه في وجوه الآخرين. - أمديح هذا أم ذم؟ - ماذا تعتبرينه أنت؟ - إن من تراهم هم صفوة الأرستقراطية المصرية. - ومع ذلك أسألك ماذا تعتبرين قولي؟ - يصعب أن نطلق حكما عاما. - ما زلت مصرا على السؤال. - إنك تريدني أن أذم هؤلاء المدعوين. - هل تعتبرين إبداء رأيك فيهم ذما؟ - أنت تستدرجني للذم. - ربما. - يسهل جدا أن أكسب إعجابك بي بذمهم. - على أن يكون هذا رأيك. - إن ذمهم ظلم كبير. - أتعتقدين ذلك؟ - إنهم أبناء بيئتهم ، ورثوا ما لا يعجبك فيهم مع الثروات التي ورثوها. - ولكنهم عاشوا في مصر عمرهم جميعا فلم يستطيعوا أن يكونوا مصريين أبدا. - ماذا تقصد بمصريين؟ - يكفي أن تسمعي لغتهم. - ألم أقل لك إنهم ورثوا بيئتهم؟ - كانوا يستطيعون على الأقل أن يتعلموا لغة بلادهم. - وهل اللغة في رأيك هي دليل المصرية؟ - أساس من أهم الأسس. - بعضهم يتكلم العربية. - أيرضيك هذا؟ - لا أريد أن أظلمهم؟ - ولكنك أنت تجيدين العربية. - أصدقائي جميعهم من المصريين. - ويحدثونك بالعربية؟ - أجيبهم بالعربية. - لماذا لم يصنع هؤلاء مثلك؟ - لا أدري، ولكنني صممت منذ طفولتي على أن أتقن العربية. - ونجحت. - إنني أحفظ شعرا. - لا أصدق. - أنت تحب شوقي؟ - حتى هذا تعرفينه؟ - إنني أقرأ الصحف بانتظام. - لماذا ذكرت شوقي؟ - لأني أحفظ قصيدة له في وصف مرقص كهذا الذي نحن فيه. - المؤكد أن شوقي لم يتصور أن قصائده في وصف المراقص ستذكر في أثناء هذه المراقص. - لك حق، لقد وصفها لنفسه ولم يصفها ليقرأها الراقصون. - الراقصون لا يقرءون العربية. - ولكني أحفظ القصيدة. - أي قصائد المراقص تحفظينها؟
لكنهم عاشوا في مصر عمرهم جميعا فلم يستطيعوا أن يكونوا مصريين أبدا. - جميعها. - جميعها؟ - حتى:
مال واحتجب
وادعى الغضب
صفحه نامشخص