١٤ - حَدَّثَنَا أَبِي، ثنا أَحْمَدُ بْنُ مُلَاعِبٍ، ثنا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ حَفْصِ بْنِ ⦗٣٥⦘ حُمَيْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رِضْوَانُ اللَّهُ عَلَيْهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِنِّي مُمْسِكٌ بِحُجَزِكُمْ عَنِ النَّارِ وَتَقَاحَمُونَ فِيهَا تَقَاحُمَ الْفَرَاشِ وَالْجَنَادِبِ، وَيُوشِكُ أَنْ أُرْسِلَ حُجَزَكُمْ، وَأَنَا فَرَطٌ لَكُمْ عَلَى الْحَوْضِ، فَتَرِدُونَ عَلَيَّ مَعًا وَأَشْتَاتًا - يَقُولُ جَمِيعًا - فَأَعْرِفُكُمْ بِأَسْمَائِكُمْ وَبِسِيمَاكُمْ كَمَا يَعْرِفُ الرَّجُلُ الْغَرِيبَةَ مِنَ الْإِبِلِ فِي إِبِلِهِ، فَيُذْهَبُ بِكُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ، وَأُنَاشِدُ فِيكُمْ رَبَّ الْعَالَمِينَ فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أُمَّتِي، فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، إِنَّهُمْ كَانُوا يَمْشُونَ الْقَهْقَرَى بَعْدَكَ، فَلَأَعْرِفَنَّ أَحَدَكُمْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُ شَاةً لَهَا ثُغَاءٌ يُنَادِي: يَا مُحَمَّدُ، يَا مُحَمَّدُ، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، قَدْ بَلَّغْتُ، وَلَأَعْرِفَنَّ أَحَدَكُمْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ يُنَادِي: يَا مُحَمَّدُ، يَا مُحَمَّدُ، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، قَدْ بَلَّغْتُ، وَلَأَعْرِفَنَّ أَحَدَكُمْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُ فَرَسًا لَهُ حَمْحَمَةٌ يُنَادِي: يَا مُحَمَّدُ، يَا مُحَمَّدُ، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، قَدْ بَلَّغْتُ، وَلَأَعْرِفَنَّ أَحَدَكُمْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُ قِشْعًا مِنْ أَدَمٍ يُنَادِي: يَا مُحَمَّدُ، يَا مُحَمَّدُ، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، قَدْ بَلَّغْتُ" قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: قَوْلُهُ «آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ عَنِ النَّارِ» الْحُجَزَةُ: مَشَدُّ الْإِزَارِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا، وَقَوْلُهُ «يُوشِكُ أَنْ أُرْسِلَ حُجَزَكُمْ» . يَقُولُ: يُوشِكُ أَنْ أُفَارِقَكُمْ وَيَحُولَ الْمَوْتُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، وَيُوشِكُ فِي مَعْنَى يُسْرِعُ، وَهُوَ بِكَسْرِ الشَّينِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر المنسرح]
يُوشِكُ مَنْ فَرَّ مِنْ مَنِيَّتِهِ ... فِي بَعْضِ غِرَّاتِهِ يُوَافِقُهَا
⦗٣٦⦘
وَقَوْلُهُ: «أَنَا فَرَطٌ لَكُمْ عَلَى الْحَوْضِ» . يَقُولُ: أَتَقَدَّمُكُمْ وَأَسْبِقُكُمْ إِلَيْهِ، وَفَارِطُ الْقَوْمِ الَّذِي يَتَقَدَّمُهُمْ إِلَى الْمَاءِ، وَفِعْلُهُ: فَرَطَ يَفْرُطُ فَرَطًا، وَقَوْلُهُ: «فَتَرِدُونَ عَلَيَّ مَعًا وَأَشْتَاتًا» . يَقُولُ: جَمِيعًا وَمُتَفَرِّقِينَ «فَأَعْرِفُكُمْ بِسِيمَاكُمْ» . السِّيمَا: الْعَلَامَةُ الَّتِي يُعْرَفُ بِهَا الْخَيْرُ وَالشَّرُّ مِنَ الْإِنْسَانِ. قَالَ اللَّهُ ﷿: ﴿سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ﴾ [الفتح: ٢٩] . وَقَالَ: ﴿يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ﴾ [الرحمن: ٤١] . وَالسِّيمَاءُ مِثْلُهُ مَمْدُودٌ وَأَنْشَدَنَا أَبُو خَلِيفَةَ قَالَ: أَنْشَدَنَا التَّوَّزِيُّ:
[البحر الطويل]
غُلَامٌ رَمَاهُ اللَّهُ بِالْحُسْنِ يَافِعًا ... لَهُ سِيمِيَاءُ لَا تَشُقُّ عَلَى الْبَصَرِ
وَقَوْلُهُ: «فَيُذْهَبُ بِكُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ» . يَعْنِي طَرِيقَ الْحِسَابِ وَالْعِقَابِ، وَقَوْلُهُ: «أُنَاشِدُ فِيكُمْ رَبَّ الْعَالَمِينَ» . يَقُولُ: أَطْلُبُ إِلَيْهِ وَأَسْأَلُهُ الْعَفْوَ عَنْكُمْ وَالتَّجَاوُزَ عَنْ سَيِّئَاتِكُمْ، وَهُوَ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: نَشَدْتُكَ اللَّهَ وَالرَّحِمَ. وَقَوْلُهُمْ: إِنَّهُمْ كَانُوا يَمْشُونَ الْقَهْقَرَى بَعْدَكَ، مَعْنَاهُ: كَانُوا يُخَالِفُونَ أَمْرَكَ وَيَسْلُكُونَ غَيْرَ سَبِيلِكَ، وَالْقَهْقَرَى: أَنْ يَمْشِيَ الْإِنْسَانُ مُوَلِّيًا ⦗٣٧⦘، وَقَوْلُهُ: «يَحْمِلُ شَاةً لَهَا ثُغَاءٌ» . الثُّغَاءُ: صَوْتُ الشَّاةِ، تَقُولُ: ثَغَتِ الشَّاةُ تَثْغُو ثُغَاءً، وَرَغَا الْبَعِيرُ يَرْغُو رُغَاءً. وَالْحَمْحَمَةُ: صَوْتُ الْفَرَسِ، وَهُوَ دُونَ الصَّهِيلِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: هُوَ صَوْتُ الْفَرَسِ لِلشَّعِيرِ. وَالْقِشْعُ مِنْ أَدَمٍ، وَرُبَّمَا اتُّخِذَ مِنْ جُلُودِ الْإِبِلِ يَحْرِزُ فِيهِ أَهْلُ الْبَدْوِ أَمْتِعَتَهُمْ، وَهُوَ مَوْضِعُ الْخِزَانَةِ مِنْ أَهْلِ الْحَاضِرَةِ. قَالَ مُتَمِّمٌ:
[البحر الطويل]
وَلَا بَرَمًا تُهْدِي النِّسَاءُ لِعِرْسِهِ ... إِذَا الْقَشْعُ مِنْ حَسِّ الشِّتَاءِ تَقَعْقَعَا
يَقُولُ: إِنَّهُ يَخِفُّ فِي الشِّتَاءِ لِلْمَحْلِ، وَهَذَا فِي الْغُلُولِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ ﷿: ﴿وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ تَوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ﴾ [آل عمران: ١٦١] . وَقَدْ تَضَمَّنَ هَذَا الْحَدِيثُ تَذْكِيرًا وَتَخْوِيفًا وَمَوْعِظَةً يَقَعُ خِطَابُهَا عَامًّا وَمَعْنَاهُ الْخُصُوصُ، وَعَلَى هَذَا سَائِرُ الْكَلَامِ الْمُؤَلَّفِ فِي الْخُطَبِ وَالْمَوَاعِظِ، كَقَوْلِ الْوَاعِظِ: كَأَنَّ الْمَوْتَ فِيهَا عَلَى غَيْرِنَا كُتِبَ، وَكَأَنَّ الْحَقَّ فِيهَا عَلَى غَيْرِنَا وَجَبَ، وَقَدْ نَسِينَا كُلَّ وَاعِظَةٍ، وَأَمِنَّا كُلَّ جَائِحَةٍ. وَهَذَا مِنْ كَلَامٍ يُرْوَى عَنْهُ ﷺ فِي خُطْبَةٍ لَهُ مَعْرُوفَةٍ، وَهُوَ مَنْ أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّ جُنُوبَهُمْ ⦗٣٨⦘ تَتَجَافَى عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا، وَأَنَّ قُلُوبَهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ، مِنْ هَذَا الْخِطَابِ خَارِجُونَ. وَقَالَ اللَّهُ ﷿: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ [يونس: ٢٣] . وَالُمُرَادُ بِهَذَا الْخِطَابِ أَهْلُ الْبَغْيِ، وَتَقْدِيرُهُ: يَا أَيُّهَا الْبَاغُونَ، فَأَمَّا التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ فَبُعَدَاءُ مِنَ الْبَغْيِ، خَارِجُونَ مِنْ هَذَا النَّعْتِ، وَإِنَّمَا اسْتَقَصَيْتُ الْقَوْلَ فِي هَذَا مَعَ وُضُوحِهِ وَظُهُورِهِ لِأَنَّ مِنَ الشُّيُوخِ مَنْ يَتَهَيَّبُ رِوَايَةَ هَذَا الْحَدِيثِ مُقَدِّرًا أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَمِّ الصَّحَابَةِ أَهْلِ الْهِجْرَةِ وَالنُّصْرَةِ. وَحَضَرْتُ مُوسَى بْنَ هَارُونَ وَهُوَ يَقْرَأُ عَلَيْنَا كِتَابَ الزُّهْدِ لِسَيَّارِ بْنِ حَاتِمٍ فَمَرَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ فَطَوَاهُ وَامْتَنَعَ مِنْ رِوَايَتِهِ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَنْ لَا يَتَعَلَّقُ مِنَ الْحَدِيثِ إِلَّا بِالرِّوَايَةِ، وَيَقُولُ فِيمَا يَقُومُ فِي نَفْسِهِ عَلَى تَزْوِيرِ الرُّوَاةِ وَالطَّعْنِ عَلَيْهِمْ، وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَزْعُمُ أَنَّ هَذَا الْخِطَابَ إِنَّمَا هُوَ لِأَهْلِ الرِّدَّةِ الَّذِينَ مَنَعُوا الصَّدَقَةَ، إِذْ كَانَ اللَّهُ قَدْ أَعْلَمَ نَبِيَّهُ أَنَّهُمْ يَرْتَدُّونَ وَيَمْنَعُونَ الصَّدَقَةَ، وَيَصْرِفُ قَوْلَهُ «يَحْمِلُ شَاةً لَهَا ثُغَاءٌ، وَبَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ» إِلَى هَذَا الْوَجْهِ، يَقُولُ: يَمْنَعُ حَقَّ اللَّهِ ﷿ فِيهَا، وَيَمْنَعُ حَقَّ اللَّهِ فِي فَرَسِهِ فِي ارْتِبَاطِهِ وَالْجِهَادِ عَلَيْهِ، وَفِيمَا يُحْرِزُهُ وَيَدَّخِرُهُ فِي قَشْعِهِ، وَعَلَى أَنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ قَدْ أَوْجَبَ الصَّدَقَةَ فِي الْخَيْلِ، وَهُوَ قَوْلُ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ ⦗٣٩⦘، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إِذَا كَانَتِ الدَّوَابُّ لِلْبَيْعِ فَفِيهَا الصَّدَقَةُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا كَانَتْ خَيْلًا فِيهَا إِنَاثٌ فَطَلَبَ نَسْلَهَا فَفِيهَا الصَّدَقَةُ، فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ فَرَسًا فَرَسٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي الْخَيْلِ السَّائِمَةِ أَنَّ الْمُصَدِّقَ بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءَ أَخَذَ مِنْ كُلِّ فَرَسٍ دِينَارًا، أَوْ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، وَإِنْ شَاءَ قَوَّمَهَا ثُمَّ أَخَذَ مِنْ كُلِّ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ. وَهَذَا الْقَوْلُ لِزُفَرَ. قَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ. وَفِي قَوْلِهِ: «يَحْمِلُ شَاةً وَبَعِيرًا وَفَرَسًا» . وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ حَمْلُهُ لَهُ عَلَى التَّمْثِيلِ وَالْمَجَازِ، بِمَعْنَى أَنْ يَحْمِلَ وِزْرَهُ وَيَبُوءَ بِإِثْمِهِ، وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنْ يَكُونَ عَلَى ظَاهِرِهِ، فَيُجْعَلُ حَمْلُهُ لَهُ عُقُوبَةً لَهُ. وَمِثْلُهُ كَمَا وَرَدَ عَنْهُ ﷺ فِي مَانِعِ حَقِّ اللَّهِ ﷿ فِي غَنَمِهِ أَنَّهُ يُبْطَحُ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ، تَطَأُهُ بِأَظْلَافِهَا، وَتَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا. وَقَالَ اللَّهُ ﷿ فِي مَانِعِ الزَّكَاةِ: ﴿يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ﴾ [التوبة: ٣٥]
1 / 34