الفصل الأربعون
فصل الخطاب
مر على الأمير أحمد أيام لم ير أشد منها إلى أن خرج من حدود الشام ودخل بلاد حوران، ولم يكد يصل إلى تلك البلاد حتى التقى بجماعة من دروز لبنان، فعرفوه وساروا به إلى الشيخ إسماعيل الأطرش، فرحب به وأكرم وفادته وأنزله في أفخر بيوته، وأقام جماعة من رجاله على خدمته، والتف حوله كثيرون من دروز الجبل ومشايخهم الذين هربوا من لبنان، وكانت عيون الشيخ إسماعيل تتسقط الأخبار وتأتيه بها من كل ناحية، فلا يجري شيء في دمشق ولا في لبنان ولا في بيروت ولا في بلاد الجولان كلها؛ إلا ويأتيه خبره، وكان له أصدقاء في بيروت يرسلون إليه بما يبلغهم من أخبار الأستانة وأخبار البلدان الأوروبية، فيقف على أهم الأخبار السياسية، وقد بلغه كل ما حدث في مؤتمر بيروت، وما قر عليه قرار أعضائه من اختيار وال مسيحي للجبل من غير طوائفه، فأخذ يتداول مع الأمير أحمد في طريقه لإرجاع دروز الجبل إلى بيوتهم، فقر رأيهما على أن الأمير أحمد يكتب إلى قنصل الإنكليز الجنرال في بيروت يطلب منه أن يوسط أمرهم عند ولاة الأمور، فكتب إليه وأخبره عن أحوال بلاد حوران وما جاورها.
ولما بلغ الأمير أحمد ما حل بخالته وأولادها، بعث رسلا إلى الأمير حسان أمير بني صخر يتودد إليه ويخبره أن الأميرة هند خالته، ويطلب منه أن يطلق سبيلها وسبيل أولادها، وأرسل مع الرسل هدايا فاخرة من منسوجات دمشق وأسلحتها، وكان الأمير حسان غائبا في بعض مغازيه، فانتظره الرسل إلى أن عاد، وقدموا إليه الهدايا وسلموه كتاب الأمير أحمد، فلم يحفل به ولا قبل الهدايا؛ لأن الأميرة هند وأولادها كانوا يسمعونه مر الكلام، فاضطر الرسل أن يعودوا فارغين، ثم أوعز إلى بعض أعوانه فاقتفوا أثرهم، وقتلوا واحدا منهم وسلبوا ما معهم، فعادوا وأخبروا بما جرى لهم فأرغى الشيخ إسماعيل وأزبد، وكتب إلى الأمير عمر أمير عرب الفضل أنه ينجده بخمسمائة من فرسان حوران إذا قام لمحاربة بني صخر، ودارت المراسلة بينهما، ثم اجتمع الاثنان واجتمع الأمير أحمد معهما وقرروا خطة الهجوم.
وفي الوقت المعين خرج فرسان الدروز من حوران وواصلوا السير إلى أن بلغوا جبل عجلون، فالتقاهم الأمير عمر وأنزلهم على الرحب والسعة، وأولم لهم الولائم ثلاثة أيام حسب عادة الضيافة عند العرب، وقاموا في اليوم الرابع وساروا أربعة آلاف فارس، ومعهم الجمال تحمل الزاد والماء، وقصدوا البلقاء، وكانت أخبارهم قد وصلت إلى الأمير حسان، فجمع رجاله وأحلافه وخرج للقائهم في سهل فسيح يبعد عن الجبل الذي كان ممتنعا فيه نصف مرحلة.
ونام الفريقان تلك الليلة في السهل يفصل بينهما غدير صغير وخرائب مدينة قديمة، نام الخليون وأما الشجيون فأحيوا الليل بين أحلام مرعبة وهواجس مزعجة، الأمير حسان متطير من تلك الواقعة؛ لأن غرابا مر عن يساره حالما خرج من مضربه، وزجره فلم يزدجر، والشاعر الذي غناه بالأمس ابتدأ نشيده بقوله: «يا دار غيرك البلى»، واليوم الذي اضطر أن يخرج فيه يوم الثلاثاء، وهو من نحوسه، وقال في نفسه: إن دارت الدائرة على رجالي، عدت إلى المضارب وقتلت سلمى وأمها وأخويها، ولو عيرني العرب أبد الدهر؛ لأنهم سبب هذه البلية. ثم أغمض جفنيه، وكانت يده على مقبض سيفه فارتخت أصابعها ووقعت، فحلم أن جواده عثر به في حومة الوغى فسقط عنه ونهض مذعورا، ثم عادت به الهواجس إلى فيافي الخيال، ففكر بالأميرة سلمى كما رآها آخر مرة تحلب النياق والدمع قد قرح جفنيها، فأدارت وجهها عنه خجلا منه أو غيظا، فشمت بها كما يفعل اللئام إذا رأوا الضعيف ذليلا بين أيديهم، وفكر بأخويها وقد صارت ثيابهما أخلاقا فلم تأخذه شفقة عليهما ولا رثى لحال أمهما، بل احتدم غيظا على زوجته؛ لأنه كان يعلم أنها ترسل إليهم من طعامها.
وبات الأمير عمر لا يفكر إلا بأخذ الثأر وكشف العار، وتخطر بباله الأميرة سلمى فيردد في نفسه قول من قال:
هي الشمس مسكنها في السماء
فعز الفؤاد عزاء جميلا
فلن تستطيع إليها صعودا
صفحه نامشخص