قام السر هنري عن العشاء، وأتم التقرير الذي شرع في كتابته للسفير، وأرسل صورته إلى نظارة الخارجية بعدما قرأها للقنصل، ثم دخل غرفته وأخذ قلما وقرطاسا وجعل يكتب لأمه، وكان كلام القزم لا يزال يرن في أذنيه، ولا سيما قوله إن الأميرة سلمى تحبه كما يحبها، فأخذ يصف لأمه ما شاهده من احتراق قرى لبنان وما رآه من أحوال سكانه الفارين منه ، وما سمعه عن الحرب التي نشبت ذلك اليوم.
ومما قاله لها: مهما أطنبت في جمال هذه البلاد لا أوفيها حقها من الوصف، فقد طفت اسكتلندا في أجمل فصول السنة، ورأيت بحيراتها وجداولها وجبالها ووهادها، ومررت على سويسرا في فصل الصيف وأقمت فيها نحو شهرين، ولكني لم أر أجمل من ربى لبنان وساحل بيروت في فصل الربيع، والناس هنا أهل جد ونشاط؛ الرجال يحرثون الأرض ويغرسون الأشجار، والنساء يغزلن ويحكن، وكلهم يربون دود القز ويستخرجون منه الحرير.
وأمراؤهم ليسوا على ثروة طائلة مثل أمرائنا، ولا قصورهم فخيمة مثل قصورنا، ولكنهم متمتعون بشيء من أبهة السيادة والاستقلال، وعندهم الخدم والحشم من العبيد والجواري والخيل والبغال، ويركب الأمير منهم ومعه خدمه بالسلاح الكامل، ويظهر لي أن البلاد غنية - على ما فيها من سوء الإدارة - ولكن مهما بالغت في قولي «سوء الإدارة»، فلا تفهمين مرادي؛ لأنك لا تستطيعين أن تتصوري أن حكومة تقسم شعبها قسمين، وتحرض القسم الواحد على الآخر لكي يفتك به ويخرب دياره، هذا هو الأمر الواقع الآن، وقد بذل الكولونل جهده لكي يمنعه، فما استطاع؛ لأن المغرين بالشر أقوى منا.
ومما يسوءني ذكره أن جيراننا عبر البحر مساعدون على هذا التحريض لكي يحتلوا البلاد، وقد ذهبت نصائحنا سدى، وكان اليوم يوما مشهودا رأيت فيه الدخان صاعدا من منازل السكان إلى عنان السماء، وشاهدت بالنظارة البحرية التي عندنا جماهير الأهالي بأثوابهم البيضاء والزرقاء وأعلامهم الحمراء والبيضاء ومعهم قليلون من الفرسان، وهم أمراؤهم ومشايخهم يجتمعون ويفترقون ويترامون بالرصاص ويتضاربون بالسيوف، ثم يهجم بعضهم على بعض، ويندحر بعضهم من أمام بعض، وجنود الحكومة معسكرة في الطريق تصد الفارين عن الفرار، وضلعها مع أحد الفريقين على الآخر، وهي لو أرادت لأطفأت هذه الحرب بكلمة يقولها قائدها أو مدفع يرمي به المعتدين.
ونزلت بعد الظهر إلى شوارع المدينة وأحيائها، فرأيت ما تتفتت له الأكباد؛ رأيت النساء جالسات تحت أشجار التوت أو في عرصات البيوت يندبن وينحبن، وأولادهن يبكون طالبين ما يسد الرمق. ورأيت بعض الرجال واقفين حيارى لا يدرون ما يفعلون، ولا كيف يعولون عيالهم وعيال الذين قتلوا من إخوانهم، وقد نهبت أمتعتهم وحرقت منازلهم. ورأيت امرأة بديعة الجمال ومعها ولدان كأنهما بدران، وهي تندب ندبا أبكى الترجمان، فترجم لي كلامها، فإذا هي تقول «إنها ذهبت إلى القبر تطالبه بحبيبها، فأجابها أن حبيبها ملقى على الطريق تأكله طيور السماء وتنهشه وحوش البرية.»
نحن باذلون جهدنا الآن لنجمع من المال ما يخفف بعض الكرب عن هؤلاء المساكين، ولو بتقديم الخبز لهم، فابذلي جهدك لتجمعي لنا ما يمكن جمعه من إحسان المحسنين، وقولي لإفلين إن هذا يومها، فأرسلوا لنا نقودا وثيابا إن أمكن، والنقود أحسن؛ لأن إرسالها أسهل بتحاويل على الصيارفة، ولا بد ما تزيد الحاجة؛ لأنه يبلغنا أن الأوامر صدرت بقتل كثيرين في أنحاء سورية، أو حيثما يمكن الإيقاع بهم، ويصعب علينا أن نصدق هذا الخبر لغرابته، ولكن ما حدث اليوم يدل على صحته وسنرى ما تفعله حكومتنا في هذه الحال.
أخبرتك في تحرير سابق عن الأميرة سلمى التي رأيتها في بلدة قرب بيروت، وقد رأيت اليوم النار مضطرمة في دار أبيها، ثم بلغني أن أباها ارتحل بها إلى بلدة تبعد نحو يومين عن بيروت، ولا أظن أنها في مأمن هناك، ولا أخفي عليك يا أماه أن لهذه الفتاة في نفسي منزلة لا أراها لغيرها، نعم، إني لم أنس إفلين وحبها لي، ولكنني كنت أشعر دائما أنها لا تنظر إلي كما أنظر إليها، وقلبي يحدثني أنها نسيتني الآن، أو أنها كانت تحبني محبة الصداقة أو محبة الأقرباء بعضهم لبعض، وهذه الأميرة لم تكلمني كلمة تدل على الحب، ولا أنا ذاكرتها في هذا الموضوع لا صريحا ولا تلميحا، ومع ذلك كنت أشعر من قلبي أني وقعت في نفسها كما وقعت في نفسي، وبقي هذا الاعتقاد في مبنيا على التصور لا غير إلى اليوم، فسمعت اليوم ما حقق لي ظني؛ وذلك أنني عثرت على القزم المهرج الذي رأيته في دارهم، فأخبرني بأمور وفي جملتها أنه عارف عن ثقة أن هذه الأميرة تحبني، وأن ابن خالتها طلب الاقتران بها فرفضته، وهو الأمير أحمد الذي أخبرتك عنه قبلا، فهذا الخبر وذهابها مع أهلها إلى حاصبيا في هذه الأوقات بلبلا أفكاري ولا أعلم ما يأتي به الغد، لا داعي لإخبار إفلين بشيء من هذا القبيل، بل يكفي أن تخبريها بحاجة الناس هنا إلى مساعدتها وكرمها، ولقد أعطاها الله ثروة وافرة لتساعد بها المحتاجين، فلجي عليها لتتصدق بكل ما يمكنها التصدق به، وأنا أراقب توزيعه على مستحقيه بنفسي، ثم التفت إلى أمور أخرى خصوصية من حيث أملاكهم وريعها وراتبه، وطلب في الختام رأيها في أمر الأميرة السورية.
الفصل الحادي والعشرون
الشهابيون في بيروت
وصل الأمراء الشهابيون إلى مدينة بيروت بخدمهم وحشمهم، واستأجروا بيوتا نزلوا فيها، فرأوا أن نفقاتهم اليومية زادت عما كانت وهم في دورهم؛ لأن أكثر مواد الطعام لهم، والعلف لخيلهم ودوابهم؛ كانت تأتي من أملاكهم فلا يدفعون ثمنها، أما الآن فاضطروا أن يشتروا الحنطة واللحم والسمن والزيت والزيتون والحبوب على أنواعها والشعير والتين، وكان لا يزال عندهم قليل من النقود من ثمن الحرير الذي باعوه أو أنزلوه معهم إلى بيروت، فأنفقوه في أيام قلائل وجعلوا يستدينون ممن اعتادوا الاستدانة منهم من تجار بيروت وصيارفتها، فاعتدل الدائنون أولا في معدل الربا، ثم زادوا رويدا رويدا يوما بعد يوم.
صفحه نامشخص