فاطرق برهة يفكر في أمره، ثم قال لعلي باشا: نحن أصدقاء منذ عهد طويل ولي عليك جميل لا تنكره، فإذا كان لا بد لك من العمل حسب أمر الدولة، فأرجو من فضلك أن تنذرني قبل إرسال القوة العسكرية بنصف ساعة، حتى أخرج النساء والأطفال من دار القنصلية. فقال له علي باشا: وهل مرادك أن تقاومنا بالقوة؟
فقال القنصل: حتما ولا بد لي من الدفاع عن شرف القنصلية، ولا يمكن أن تمسوا أحدا من كل الذين في حمانا ما دمت في قيد الحياة، وأنت تعلم ما يفعل أناس مسلحون مثلنا إذا وقعنا في اليأس، ولا يخفى عليك أن الدولة الإنكليزية لا تدع نقطة من دمنا تذهب هدرا، فإذا شئت أن تلقي دولتك في المشاكل فافعل ما تشاء.
ثم نهض وهم بالخروج، فطلب إليه علي باشا أن يتمهل، وأخذ يفكر في أمره، ثم قال له: إني أعرف الإنكليز وأعرف مقدرتهم، ولا أريد أن أكون سببا للخلاف بينهم وبين دولتنا العلية، فآخذ العهدة على نفسي وأوقف الأمر العالي، وغاية ما يصيبني العزل أو الإبعاد، وهما أهون من حرب دولية.
ثم أمر بأن يطلق سبيل الشيخ يوسف عبد الملك، فعاد إلى دار القنصلية بين ستة من القواسة، واجتمع أهالي دمشق يرون مقدرة قنصل الإنكليز ويعجبون بها.
قال المتكلم: وبقينا في دار القنصلية سبعة أشهر؛ لأني كنت في جملة من لجأ إليها إلى أن جاء العفو من الأستانة، وقد بلغنا أن العفو صدر منها بواسطة سفير الإنكليز، فإذا كان قناصل الإنكليز وسفراؤهم يحموننا ويدافعون عنا أينما كنا، فكيف لا نسمع مشورتهم ولا نعمل حسب إرادتهم؟!
وكان المتكلم شيخا جليلا مسموع الكلمة، وكانت هذه الحادثة معروفة عند بعض الحضور، فشهدوا بصحتها، وكاد ينفض الاجتماع على أن لا يحركوا ساكنا، ولا يأتوا عملا من شأنه إثارة حرب أهلية في البلاد، ولكن قال واحد منهم قبل انفضاض المجلس: هب أن خصومنا اعتدوا علينا وتكرر اعتداؤهم، فهل نصبر على الضيم؟ فأجاب أكثر الحضور: كلا كلا. ثم اتفقوا على أن يرسلوا خبر ما قر عليه قرارهم إلى الخلوات كلها في الجبل ووادي التين وحوران.
ستأتي البقية ...
الفصل الخامس
سورية في البارلمنت الإنكليزي
غطى الضباب مدينة لندن، ووقفت المركبات عن السير والناس عن المشي، ولم تعد المصابيح ترى في الشوارع، فلم يصل الأعضاء إلى دار البارلمنت إلا بشق الأنفس، ولما انتظم عقدهم وجلس كل في مكانه حسب درجته، دارت المجادلات على نتائج الحرب بين النمسا وسردينيا، ومعاهدة زورك، وتنازل إمبراطور النمسا عن لمبرديا للإمبراطور نبوليون الثالث الذي أعطاها لسردينيا، وعلى ماجريات الحرب الأميركية الأهلية، والقبض على جون برون الذي غنم الترسانة الأميركية بعد أن قتل نصف رجاله، وعلى ما جرى لسفراء إنكلترا وفرنسا وأميركا في بلاد الصين وهم ذاهبون إلى بكين فصدوا عن دخولها، وطال البحث في هذه المسائل إلى ما بعد نصف الليل.
صفحه نامشخص