فأجابته بقولها: «شكرا يا سلمان، إني لا أنسى جميلك ولا غنى لي عن مروءتك.»
فقال: «إني رهين إشارتك.» ومضى.
وما كادت ميمونة تصل إلى غرفتها وتخلو إلى نفسها حتى جلست على البساط، ثم فتحت المنديل وأخرجت منه لفافة من الكاغد - وكان الكاغد قريب العهد بالاستعمال في التراسل، والفضل في ذلك لأبيها جعفر؛ فإنه أول من استخدمه في الدواوين بدل الجلود - ففضت الكتاب وقرأته فإذا فيه:
من المحب الذي تسمونه بهزاد إلى ميمونة بنت جعفر بن يحيى المقتول ظلما ...
أما بعد، فقد كنت أود أن أكتب إليك بلسان أجدادنا العظام لو كنت تفهمينه، ولكن قضت صروف الزمان أن نتفاهم بلسان أمة ظلمتنا وغلبتنا على أمرنا فقتلت رؤساءنا، واستخدمت قوادنا وحكامنا، واستبدت في شئوننا. وسيأتي يوم نقلب لهم فيه ظهر المجن ونأخذ بالثأر؛ فيعلم الظالمون أي منقلب ينقلبون. وكنت أحب أن أراك قبل سفري وأودعك وجها لوجه لولا خوفي أن يغلبني قلبي كما غلبني أثناء ذلك الاجتماع ففضح سرا كتمته عدة أعوام وكنت عازما على كتمانه حتى يأتي وقته فأبوح به في يوم آتي به عملا يؤهلني لحبك. ولكنك أبيت إلا أن أقول لك إني أحبك فقلت، وأقول: إني أحبك، إني أحبك يا ميمونة، أحبك حبا مبرحا ... أقول ذلك الآن وأنا لا أحاذر أن يحول قولي دون ما عقدت النية عليه منذ عرفتك وقبل أن أعرفك. ولو كنت بين يديك ما قلت ذلك مخافة أن يغلب علي الغرام فأطيعك، بل أطيع قلبي، فأضيع سعيا قضيت العمر في إعداده. أما وأنا في مأمن من ذلك فلا أبالي أن أبوح لك بمكنونات قلبي؛ فاعلمي يا منيتي أني أوقفت حياتي عليك وعلى الانتقام لأبيك. وما أنا بهزاد ولا أنا طبيب ولا كيميائي ولا أنا رسول من جماعة أو جماعات، وإنما أنا من ستعرفينه وتفتخرين بحبه. ولا أقول من أنا حتى تأتي الساعة، ودون الوصول إليها قطع الرقاب والاستهداف للحراب. إني ذاهب إلى خراسان لا بدعوة من المأمون ولا بأمر أحد من الناس، وإنما أنا ذاهب لإتمام أمر بدأت به ولا بد من إتمامه، إني ذاهب طوعا لصراخ صاعد من أعماق القبور ينادي أهل النجدة أن ينتقموا للمظلوم من الظالم. وأما الصندوق فقد كنت أحب أن أريك ما يحويه ولكنني أشفقت على قلبك. وسأفتح لك الصندوق كما فتحت لك قلبي ولكل أجل كتاب. أقيمي ببغداد في حراسة الله، وقد أوصيت غلامي سلمان أن يقوم على خدمتك، وهو أمين صادق فاعتمدي عليه وثقي به واحتفظي بما اطلعت عليه حتى يأتيك النبأ الصحيح من خراسان يوم تنقلب الأحوال وينتصر الحق على الباطل. وإذا لم يسعدني الزمان بما أرجوه فإني أموت ناعم البال وقد فعلت فعل الرجال. وغاية ما يستطيعه الإنسان أن يجود بنفسه في نصرة الحق. والله من وراء ذلك وهو على كل شيء قدير.
وما أتت على آخر الكتاب حتى امتقع لونها وتغيرت سحنتها وكادت تسمع نبضات قلبها بأذنها وخارت عزيمتها، وظنت نفسها في حلم. ولما تحققت من يقظتها طوت الكتاب وخبأته في جيبها، واستلقت على البساط واستغرقت في بحار الهواجس، فراجعت في مخيلتها خلاصة علاقتها ببهزاد منذ عرفته بالمدائن، وما كان من عنايته بها وبجدتها، وكانت تحسبه يفعل ذلك رغبة في الإحسان وأنه لا يعرف حقيقتها، وقد ظهر لها من ذلك الكتاب أنه كان مشغوفا بها عالقا بحبها؛ فندمت على ما أضاعته من فرصة البوح بالغرام.
على أنها تذكرت ما جاء في كتابه من الوعد والإشارة فاشتاقت إلى تلاوته فأخرجته وأعادت قراءته ثانية وثالثة وهي تحاذر أن يدهمها قادم أو يراها راء. ثم سمعت خطوات قريبة فأخفت الكتاب واستلقت وهي تتناعس ثم تباعدت الخطى وعاد السكوت فعادت إلى هواجسها، فراجعت ما ارتسم في ذهنها من عبارات حبيبها، فرأت أنه يعرض نفسه لخطر الموت فاختلج قلبها خوفا عليه وفضلت رجوعه عن عزمه وبقاءه معها تتمتع برؤيته. وتصورت عزمه على الانتقام لأبيها فسهل عليها الفراق، وخيل إليها أنه سيعود ظافرا منصورا فتفاخر به وتعوض عما قاسته من الذل والتستر.
على أنها تحيرت في أمره ومن عساه أن يكون إذا لم يكن بهزاد الطبيب ولا رسول الخرمية. ولما أعياها التفكير استسلمت إلى المقادير، وصبرت لترى ما تأتي به الأيام، ثم غلب عليها النعاس وكادت تنام وإذا بقارع يقرع الباب، فنهضت وفتحته فرأت دنانير وحدها فرحبت بها، فدخلت ضاحكة وقالت: «ما لي أراك وحدك يا بنية؟»
قالت: «استلقيت على هذا البساط لأستريح فغلب علي النعاس.»
فأظهرت أنها صدقت قولها وهمت بالخروج وقالت: «نامي يا حبيبتي تريه في الحلم.»
صفحه نامشخص