فقال بهزاد: «ألم أقل لكم إنكم غافلون عن منافعكم؟ إن مساعي الفضل أوشكت أن تذهب أدراج الرياح بما هيأه هذا الغلام وأنصاره من أسباب الغدر؛ فكما أسس المنصور دولته بقتل أبي مسلم غدرا، وأنقذها الرشيد بقتل جعفر غدرا، فإن هذا الغلام عرقل مساعي الفضل بن سهل بخلع المأمون غدرا!»
فصاح الرجل: «هل خلعه؟»
قال: «نعم، خلعه ولا يلبث أن يقتل أنصاره وأنتم نيام. إن مساعي الفضل مؤسسة على الدهاء والسياسة، فإذا لم تبادروا إلى تأييدها ذهبت عبثا، فلا ينفعنا إسلامه ولا تقربه من المأمون.»
فقال الرجل: «هل أنت واثق من خلع المأمون؟»
قال: «لست نائما مثلكم، ولكني ساهر على صوالحكم منذ بضعة أعوام، وقد بثثت العيون والأرصاد حتى في بلاط الخليفة، وأعرف كل حركة تجري في بيت الأمين، وأعرف أهواء العامة وأغراض الخاصة، وقد علمت يقينا أن الأمين خلع أخاه المأمون، ولا ندري ما يفعله بعد ذلك. أما العامة فقوم طغام يباعون ويشرون وهم لا يعلمون، وأما الخاصة فأنتم عمدتهم؛ فبادروا إلى العمل؛ فقد بلغ السيل الزبى.»
فأطرق القوم هنيهة ثم وقف الرجل الجليل وقال بصوت هادئ: «أما وقد ثبت خلع المأمون، فالأمر خطير، ولكننا لا نفوز إلا بالتؤدة؛ فإن هؤلاء العامة لا يقادون إلا بالدين، وهذا أمر كان أوله في خراسان ولا يقوم إلا من هناك.»
قال: «إن تدبير ذلك سهل علينا، وخراسان سيفنا وذخيرتنا. وأما الدين فهو الوسيلة لجمع كلمة العامة، وهذا في أيدينا وسندبر ذلك في خراسان. إن هذه الأقبية الخضراء ستملك أمر الدين بإذن الله؟»
ففهم الرجل مراده من اتخاذه مذهب الشيعة سلاحا لنقل الخلافة فقال: «متى صارت الخضرة شعار الخلافة وذهب سواد العباسيين نلنا المراد، ولكن أنى لنا ذلك؟»
قال: «يكون لنا ذلك إن شاء الله في خراسان، ولا بد من إعمال السيف، فكونوا أنتم في يقظة من أمر شيعتنا في بغداد. وإذا أتت الساعة يحاسب كل منا على عمله.» ثم أشار إلى الصندوق وقال: «وأما شعارنا الحقيقي فهو ما رأيتموه في هذا الصندوق، وسأضيف إليه رأسا آخر إذا رأيتموه علمتم أنكم إذا بذلتم أموالكم وأنفسكم فإنما تبذلونهما في سبيل قويم. إذا كنتم من الخرمية فإنكم تنتقمون لإمام قديم ورجل عظيم؛ تنتقمون لأبي مسلم صاحب الرايات السود مؤسس الدولة العباسية، وهو يناديكم من أعماق قبره أن تقلبوا هذه الدولة وتعيدوا دولة الفرس وتؤيدوها بالشيعة العلوية أصحاب الدعوة الأصلية التي أضاعها المنصور بغدره ودهائه. وسيعلم الذي ظلموا أي منقلب ينقلبون.» •••
كان بهزاد يتكلم والعرق يتصبب من جبينه، وقد أخذت منه الحمية مأخذا عظيما، فاستنهض عزائم رفاقه وسحرهم بحماسته وبلاغته حتى تراءى لهم أن الإيوان عاد سيرته الأولى آهلا بالجيوش يزجيها كسرى أنو شروان. وكانوا يعرفون بهزاد طبيبا فارسيا ناقما على العباسيين، ولم يكن يخطر لهم أنه رسول «الخرمية» - من الأحزاب السرية القائمة في خراسان - وهم طائفة ظاهرها ديني واختلفت الأقوال في حقيقة مذهبها، ولكنها كانت حزبا سياسيا يستخدمها ذوو المطامع في طلب السيادة، ومنهم أصحاب أبي مسلم وأهله ولا سيما ابنته فاطمة؛ فإن الخرمية كانوا يقدسونها ويذكرونها في أدعيتهم. وللخرمية أثر كبير في تاريخ الإسلام، وكانوا إذا اشتدوا ظهروا وإذا ضعفوا اختفوا، وكانت لهم مخابرات سرية في المدن الإسلامية، يتعاونون ويتكاتفون، وفيهم المسلمون والزرادشتيون والمجوس، وإنما تجمعهم العصبية الفارسية.
صفحه نامشخص