وكانت عبادة جالسة مطرقة، فدخلت دنانير وأغلقت باب القاعة وراءها وجلست إلى أم جعفر تهش لها وترحب بها وقد سرها أن تواسيها وتخدمها قياما بما تشعر به من فضلها عليها، فضلا عما تبعث عليه حالها من الشفقة لما أصابها من الذل بعد ذلك العز. والإقرار بالإحسان فرض يسر أهل الفضل أن يأتوه وأن يكرموا صاحبه إلا طائفة من الناس ساءت سريرتهم وسفلت طباعهم وصغرت نفوسهم؛ فهؤلاء ينكرون فضل الفضلاء وقد تحملهم الكبرياء على إيقاع الأذى بالمحسنين إليهم، ولا سيما الذين ولدوا في الفاقة وخفض العيش ثم ساعدتهم الأقدار على الارتقاء؛ فإن أنفسهم الأمارة بالسوء ربما سولت لهم قتل من يحسن إليهم. أما دنانير فكانت كبيرة النفس صافية السريرة؛ فسرها أن تخدم مولاتها اعترافا بفضلها. فلما خلت إليها تنهدت عبادة تنهدا عميقا، ونظرت إلى دنانير والدمع يتلألأ في عينيها وقالت: «آه يا دنانير! إن النظر إليك يذكرني أيام عزي، وإني لأشكرك على ما لقيته من مواساتك وتلطفك في حين أن أقرب الناس إلينا نسونا أو تناسونا. ولكن ما لنا وذاك، إن الأمر الذي جاء بي إليكم الليلة لجد خطير.»
فقطعت دنانير كلامها ووضعت يدها على كتفيها وهي تنظر إليها مبتسمة وتقول: «قولي ما عندك يا سيدتي، إنك صاحبة الأمر وعلينا الطاعة.»
فتنهدت وقالت: «أنت طبعا تعرفين الفضل بن الربيع.»
فلما سمعت دنانير الاسم أدركت عظم الأمر لعلمها أن هذا الوزير هو الذي عظم ذنب جعفر لدى الرشيد حتى قتله وتولى هو الوزارة مكانه، فقالت: «نعم يا سيدتي أعرفه، فما خطبه بعد الذي أتاه؟»
قالت: «ليس الخطب خطبه الآن، وإنما نشكو من ابنه!»
قالت: «وماذا صنع ابنه؟»
قالت: «لا أدري كيف بلغه خبر ميمونة ولا أعلم أين رآها حتى فتن بجمالها، أو لعله لم يفتن بها وإنما أراد النكاية بنا، فبعث إلي منذ بضعة أسابيع قهرمانة دار أبيه يوسطها في خطبة ميمونة لنفسه، وقد تلطفت القهرمانة في الطلب ووعدتنا خيرا. فماطلته لأني أخاف إذا رفضت طلبه بتاتا أن يؤذينا، فلم يرجع عن طلبه وبالغ في المحاسنة وكرر الوعد بما ينويه لنا من الخير إكراما لميمونة لأنه مفتون بها. وقد أكدت لنا القهرمانة أنه يحب الفتاة حبا مبرحا، وأنه لا يريد لنا إلا السعادة إذا أجبته إلى بغيته. فاعتذرت من الإجابة أعذارا مختلفة، وتقدمت إليها أن تساعدني في دفعه فوعدتني، وظلت أياما لم ترجع إلينا. فظننتها أفلحت واطمأن قلبي، فلما كان مساء الأمس جاءتني بنبأ ذهب بصوابي وقطع حبل رجائي!» قالت ذلك وشرقت بدموعها فسكتت واشتغلت بمسح عينيها.
وكانت دنانير تسمع حديثها وهي تتطاول نحوها بعنقها، فلما رأتها تبكي قالت: «خففي عنك يا سيدتي. وماذا جرى بعد ذلك؟»
قالت: «جاءت القهرمانة هذه المرة تهددني بالسوء إذا لم أجب طلب ابن الفضل، وذكرت لي أنه أوصل أمري إلى علي بن ماهان صاحب الشرطة ووسطه في الخطبة، وأن عليا هذا يلح علي في إجابة الطلب على أن يضمن لي ما أريده من الخير، فإذا لم أفعل كانت العاقبة وخيمة علي وعلى ميمونة. فوعدت القهرمانة بأن أنظر في طلبها وأجيبها. وأنت تعلمين موقفنا من هؤلاء ولا سيما الفضل بن الربيع الذي كان سبب قتل ابني، فكيف أزوج ابنة ابني من ابنه وأنا لا أطيق سماع اسمه؟» قالت ذلك وأطلقت لدموعها العنان، فتفطر لها قلب دنانير وأدركت عظم ما يتهدد أم جعفر وحفيدتها لعلمها أن هؤلاء إذا قالوا فعلوا. فأطرقت وأعملت فكرتها حينا ثم قالت: «لا أنكر على مولاتي ما قالته من كرهها لذلك الرجل وابنه، ولكن ...» ورفعت كتفيها وقلبت شفتيها وسكتت.
فقالت عبادة: «لا أستطيع قبول زواج ابن الفضل بابنة جعفر. وهبي أني قبلت، فهل تظنين ميمونة تقبل وهي تعرف أن الفضل بن الربيع أصل بلائنا ومصدر مصائبنا؟ كلا، هذا لا يكون.»
صفحه نامشخص