قال: «لم أنتظر إلا قليلا.»
قال: «إني في شوق إلى رؤيتك ولولا ذلك ما استطعت المجيء إليك ولا سيما اليوم لغياب أمير المؤمنين الرشيد عن بغداد.»
فقال: «أليس ابنه الأمين مكانه؟»
قال: «بلى ولكن هذا الغلام - وأنت أعلم به مني - لا خبرة له بسياسة الدولة، ولعله أدرى بسياسة الجواري والغلمان والكأس والطاس؛ فتراني لا أخرج من منزلي إلا قليلا، وترى رسول صاحب الشرطة ذاهبا جائيا إلي يحمل إلي الأسئلة عما غمض عليهم كأني الملفان سعدون الصابئ الحراني أضرب المندل وأستطلع الغيب بالنجوم!» قال ذلك وضحك؛ فأدرك سعدون غرضه وتجاهل وقال: «العفو أيها الأمير، إن ما يستطيعه مقدم العيارين يعجز عنه مثلي، وأنا إذا عرفت شيئا فإنما يدلني عليه الكتاب والحساب، أما أنت فتعرفه بفراستك وشجاعتك.»
فسر بهذا الإطراء وقال: «قد أكون أعرف كل شيء، ولكنني أقر بعجزي عن معرفة مقرك؛ لأني ما بحثت عنك مرة واستطعت لقياك، اللهم إلا إذا ضربت لي موعدا.»
قال: «ليس هذا دليلا على عجزك، بل هو من سوء حظي؛ لأن اشتغالي بالكيمياء فضلا عن المندل والنجامة يقضي علي بالانزواء معظم الأيام؛ ولذا تراني تركت أهلي وهجرت حران لئلا يشغلوني عن عملي، وقد طال بعدي عنهم حتى أصبحوا لا يعرفونني ولا يدرون مقري، ولو سألتهم لأنكروا أمري.»
ففرح الهرش بتطرق الرجل إلى ذكر الكيمياء ليسأله عما فعله بقطعة من النحاس دفعها إليه منذ أيام ليحولها إلى ذهب، فقال له: «أظنك طبعا نسيت صديقك الهرش ولم ...»
فقطع سعدون كلامه قائلا: «كلا، إني لا أنسى مولاي المقدم، وأبشره بأن حظه في أسمى الطوالع؛ لأني وفقت في طبخ نحاسه توفيقا غريبا يندر مثله!»
فطرب الهرش إذ توقع الغنى القريب، وسأله: «هل صحت الطبخة؟»
فتبسم سعدون ومد يده إلى جرابه، فحل عقدته وأخرج منه سبيكة من الذهب الإبريز وقال: «نعم يا سيدي، وهذه هي القطعة التي جربتها، ومتى نضج الباقي دفعته إليك .» ثم قال له همسا وهو يناوله السبيكة: «وأظنني لا أحتاج إلى أن أوصيك بتكتم الأمر عن سائر الناس؛ فإني لا أحب أن ... وأنت تعلم السبب.»
صفحه نامشخص