قال: «لا.» قالت: «أنا أقص عليك خبرها. كانت مراجل من جملة جواري مثل مارية وقاربة وغيرهما، فرأيت أباك مشتغلا عني بمغنية ليحيى وزيره اسمها دنانير، وصار يقضي كثيرا من وقته عندها، فشكوته إلى أعمامه فأشاروا علي بأن أشغله عنها بجوار أهديهن إليه، فأهديته عشر جوار منهن مراجل هذه وهي فارسية. فلما ولدت له عبد الله رباه جعفر من صغره على حب الفرس حتى جرى ما نعلمه؛ فكيف يكون هذا صنوك. أما العهد الذي أشرت إلى أنه معلق في الكعبة فابعث من يأتي به ومزقه لأنه كتب خداعا.»
فسري عن محمد وقال: «إذن أنت ترين أن أخلع أخي عبد الله من ولاية العهد؟»
قالت: «أولم تخلعه بعد؟ اخلعه قبل أن يخلعك.»
فاعتدل في مجلسه وقال: «قد كنت عازما على استطلاع رأيك في هذا؛ فالحمد لله على أن وافق رأيك رأي الفضل.»
فقالت: «اخلعه وبايع لابنك موسى وإن كان صغيرا، فتكون الخلافة أعرق في بني هاشم؛ لأنه لم يولد لبني العباس خليفة والداه هاشميان إلا أنت، فأولادك أعرق في النسب الهاشمي من سائر العباسيين.»
فانبسطت سرائر الأمين وسكت وأطرق فابتدرته قائلة: «ولنعد إلى تلك الفتاة الخائنة، فما أجدرك أن تقتلها وتتخلص منها.»
قال: «أقتلها؟ وأي ذنب أتت؟ وما الذي نخافه من بقائها حية؟»
قالت: «إنك غافل يا محمد عما يجري حولك، وقد شغلك اللهو عن دسائس المملقين. أما أنا فساهرة على شئونك وأعلم ما يجري في قصرك. وقد تبينت أن بقاء هذه الفتاة في قصرك أشد خطرا عليك من بقاء ولاية العهد لأخيك، فاقتلها!» فاستغرب الأمين تشديدها وهو لم ير في الفتاة ما يوجب ذلك فقال: «لا شيء علي إذا قتلتها، ومثلها مئات بل ألوف في قصري، ولكنني وعدت أم حبيبة بأن أحافظ عليها.»
فأفلت جأش زبيدة من يدها عند سماعها قوله، ونهضت وقالت: «إنك لا تزال ساذجا تجوز عليك الألاعيب، وإلا لأدركت من شفاعة بنت عبد الله فيها أن هناك ما يبعث على الشك. اعلم أن ميمونة هذه مخطوبة لأكبر أعداء العباسيين، وبينها وبينه مراسلة تشف عن تعمده الانتقام لأبي مسلم الخراساني وجعفر بن يحيى، وهو يعد العباسيين خائنين غادرين، وإذا كنت في شك مما أقول فاقرأ هذا الكتاب.» قالت ذلك وأعطته لفافة فيها كتاب بهزاد، فأخذ الأمين الكتاب وطفق يقرؤه ولم يصل إلى آخره حتى ارتجفت يداه وارتعشت أنامله لما حواه من الطعن في العباسيين والنقمة عليهم وتهديدهم؛ فنظر إلى أمه وكانت قد قعدت واتكأت على الوسادة وأخذ الغضب منها مأخذا عظيما، فالتفتت إليه وقالت: «أرأيت هذه اليتيمة المسكينة؟ هذا خطيبها يزعم أننا غلبنا بالغدر والخيانة، وأنه سينتقم لأبيها وذاهب إلى خراسان لهذا، فكيف تبقيها في قصرك وبين جواريك تطلع على أحوالك ومساعيك وأسرارك؟»
فدهش الأمين لسهر أمه على شئونه وقال: «كيف وصلت إلى هذا الكتاب ومن أتاك به؟»
صفحه نامشخص