فقالت: «أرسلك إلى صديقتي فريدة على أنك مربية ميمونة، وأوصيها بأن تقيمك معها، ولا أظنها إلا فاعلة.»
فأثنت عبادة على غيرتها ولبست ثيابها وودعتها، وركبت حمارا توجهت به إلى مدينة المنصور، ومعها رسول من دنانير إلى القهرمانة، فلما وصلا إلى قصر المنصور بعث الرسول بكتاب دنانير إلى القهرمانة، فأدخلت عبادة القصر، ولم تخف عليها حقيقة حالها، كما أنها لم تكن تجهل أمر ميمونة، لكنها تجاهلت في الحالين رغبة في إخفاء ذلك عن أهل القصر؛ لأنها كانت من جملة الذين غمرتهم نعم البرامكة وأجبروا على كتمان شكرهم، ولا تسل عن سرور ميمونة بجدتها حتى أصبحت لا يهمها أن يطول احتباسها هناك. ولم تجد بدا من إطلاعها على ما دار بينها وبين بهزاد وما تبادلاه من عواطف المحبة حتى بلغت إلى الكتاب فأخبرتها بضياعه. ولم تكن عبادة غافلة عما بين الحبيبين ولكنها كانت تتجاهل أحيانا، وقد ساءها ضياع الكتاب في القصر، وأصبحت تخاف العقبى.
أما سلمان فكان أثناء ذلك يغري الأمين بخلع أخيه، وكان يستعين على ذلك بالفضل بن الربيع وابن ماهان، وظل الفضل يلح على الأمين في ذلك مدفوعا بخوفه من انتقام المأمون منه إذا أفضت الخلافة إليه. وكان الأمين يتردد في الأمر إن لم يكن خوفا من العواقب فحفظا للعهد أو عملا برابطة الإخاء. فلما كثر إلحاح الفضل عليه زايله التردد وبقي عليه أن يشاور أمه زبيدة؛ لأنه كان يؤمن بسداد رأيها، وكانت تقيم يومئذ بقصرها «دار القرار» بقرب قصر الخلد، فتردد بين أن يركب إليها وبين أن يستقدمها إليه في قصر المنصور، وظل يفكر في ذلك حينا ثم غلب عليه حب اللهو فشغل بصيد السمك من بركة كبيرة في حديقة القصر فيها سمك مجلوب إليها فحمل قصبه وجعل يصطاد السمك من تلك البركة وحوله جماعات من الوصفاء الخصيان بألبسة النساء، يجرون بين يديه في تهيئة الصنارة أو تنفير السمك من بعض أطراف البركة إلى حيث يلقي صنارته، وبعضهم يحملون شباكا وآخرون يعدون القصب أو الصنانير أو غير ذلك. وهو مشتغل بلهوه معجب بنشاطه يداعب الوصفاء إظهارا لقوة عضله، فيلتقط أحدهم بيده ويرفعه حتى يلقيه في الماء، فيطري الحاضرون قوته الخارقة ويعربون عن عجزهم عن الإتيان بمثل ذلك. وكان الأمين فيما يقال قوي العضل بحيث يصارع الأسد فيصرعه.
وفيما هو في لهوه جاء بعض الغلمان يقول: «إن موكب مولاتنا أم أمير المؤمنين قادم.»
فسر بقدومها لرغبته في استشارتها، فأمر قيم القصر بالاستعداد لاستقبالها، وأمر قيمة القصر بترتيب الوصائف والوصفاء صفوفا وفي جملتهم فرقة من الجواري المقدودات الحسان كانت أمه زبيدة قد أهدتهن إليه لما رأت اشتغاله بالخدم والغلمان عن النساء، فاتخذت هؤلاء الجواري وألبستهن لباس الغلمان فعممت رءوسهن وجعلت لهن الطرر والأصداغ والأقفية، وألبستهن القراطق والمناطق فبانت قدودهن وبرزت أردافهن، وبعثت بهن إليه فاستحسنهن واجتذبن قلبه وأبرزهن للناس من الخاصة والعامة، فقلده بعضهم في ذلك. فلما سمع بقدوم أمه رأى أن يسرها بإشراك هؤلاء الجواري في استقبالها فأمر القيم بترتيب الغلمان صفوفا يرأسها كوثر الذي اشتهر بافتتانه به، فصفت فرق الخصيان والجواري، وفرق الغلمان الجرادية، والحبشان الغرابية، وكل فرقة في زي خاص وأشكال وألوان خاصة؛ فهناك القصير من الملابس والطويل، وهناك الأحمر والأزرق والسماوي والوردي والأصفر. وفيهم الغلمان بألبسة النساء، والنساء بألبسة الغلمان، يتخللهم العوادون وأصحاب الطنابير والمزاهر.
واصطفوا هكذا من باب القاعة إلى باب القصر الخارجي، وبين الصفوف غلمان بعضهم يحرق البخور وبعضهم يحملون الأزهار وآخرون ينشدون الأشعار، ومشى الأمين بين الصفين لاستقبال أمه بباب القصر ، وكانت في قبة من خشب الصندل منزلة بالفضة، والقبة قائمة على هودج يحمله بغلان عليهما سرجان من الفضة، يقودهما غلمان عليهم أقبية من الديباج المزركش، وقد نقشت عليها شارة الدولة لأنهم من الجند، وفاحت رائحة المسك عن بعد.
فلما وقف الهودج بباب القصر تنحى الواقفون إلا كبير الخصيان فأعان السيدة زبيدة على نزولها، ثم تقدم الأمين وقبل صدرها فقبلت رأسه، ومشت بخفين مرصعين بالجوهر وعلى رأسها نقاب محاك بالذهب في حاشيته صور مرصعة بالحجارة الكريمة، ويلوح من خلال النقاب عصابتها المرصعة وعقود الجوهر في عنقها والقراطق في أذنيها، وعلى كتفها مطرف ذهبي اللون التفت به فغطى منكبيها وجنبيها، وظهر تحته ثوبها الحريري الوردي يغطي قدميها من الخلف ولا يغطيهما من الأمام لتظهر خفافها المرصعة. وهي أول من رصع الخفاف بعد الإسلام. على أن من يلقى زبيدة لا يشغله لباسها الفاخر الثمين عما في محياها من الجمال الجاذب، وما يتجلى فوق ذلك من ملامح السيادة ودلائل الأبهة والجلال.
ولم تطأ قدماها باب القصر حتى انتشر خبر قدومها، فبلغ عبادة فارتعدت فرائصها، وخفق قلبها، وأحبت الانزواء لئلا يظهر ذلك عليها. أما ميمونة فكانت كثيرة الشوق لمشاهدة موكب أم الخليفة، وقد طالما سمعت عنها وعن عظمتها فأطلت من كوى القصر الخفية فأعجبت بجمال زبيدة وجلالها. •••
ظل الأمين وأمه سائرين إلى قاعة خاصة عملا بإشارتها؛ لأنها كانت تريد أن تسر إليه أمرا. وقبل جلوسها جاءت المواشط فنزعن عنها بعض ما يثقلها من الألبسة، ووقف بعض الوصائف والغلمان بالمراوح والمذاب بين يديها، واشتغل آخرون بإعداد الشراب والطعام، ولكنها قالت للأمين: «أحب أن أراك يا محمد على انفراد، ولا أرب لي في الطعام.»
فأشار الأمين فخرج الجميع ولم يبق غيرهما، فجلست على السرير وأشارت إليه أن يجلس بجانبها، فجلس وقال: «ما أسعد هذه الساعة يا أماه. كأنك جئت على موعد؛ فقد كنت هذا الصباح أهم بالذهاب إليك أو استقدامك لأستشيرك في بعض الشئون، فإذا بك تفاجئينني فتفاءلت خيرا.»
صفحه نامشخص