قال: «صدقت يا صاحبي، إننا نأخذ رواتبنا ولكنها لا تفي بنفقاتنا ومن نعول. وهل يقوم بالجندي غير الغنائم في الحرب أو ...» وتوقف وأخذ يهمس حذر سامع؛ فسبقه العيار وقال: «أو عند وقوع تغيير أو انقلاب في قصر الخلافة؛ إذ تنالون أجوركم أضعافا مضاعفة، ناهيك بحق البيعة ... طب نفسا فإن ذلك قريب.»
فوضع الجندي يده على فم صاحبه يريد إسكاته حذرا من الفضيحة. وكان سمعان يسمع كلامهما ولا يهمه مما يسمعه إلا ما يتوسم من ورائه استيفاء دينه ؛ فلما رآهما يحاذران الكلام وهما بالباب تقدم إليهما وقال: «تفضلا وادخلا.» وأشار إلى الحصير كأنه يدعوهما إلى الجلوس، فدخلا ومد العيار يده إلى البربط المعلق على الحائط فتناوله ودفعه إلى الخمار، ثم جلس وقال: «علمت أنك تحسن الغناء والضرب على البربط لقرابة بينك وبين برصوما الزمار، فأسمعنا.»
فتناول سمعان البربط وهم بإصلاحه وهو يقول: «يا ليتني كنت من أقارب برصوما؛ فإنه من المقربين إلى مولانا أمير المؤمنين يستمتع برفده وجوائزه.»
فقال الجندي: «لو كنت تحسن النفخ في المزمار لكنت أصبت مثل حظه، أو حظ إبراهيم الموصلي المغني، أو ... ولكن اشكر الله على حالك؛ فإن التقرب من القصر لا يخلو من الخطر؛ فمهما تصادف من نعيم فلن يكون خيرا من نعيم البرامكة، وأنت تعلم مصيرهم!»
فقطع العيار كلامه قائلا: «أراك يا صاحبي من الفلاسفة ورجال الزهد، أما أنا فأدخلني قصر الخلد واجعلني مغني الخليفة أو زامره أو شاعره، ثم ليكن بعد ذلك ما يكون، أو اجعلني جنديا مثلك على الأقل؛ تأخذ أجرك وأنت قاعد، وإذا ذهبت في حرب عدت بالغنائم والأسلاب والسبايا من النساء الجميلات!»
فابتدره قائلا وهو يهز رأسه: «إذا عدت حيا!»
فقال له العيار: «ولماذا لم تذهب في الحملة التي سار فيها أمير المؤمنين إلى سمرقند منذ بضعة أشهر لمحاربة رافع بن الليث، ألا تتوقع منها فوزا؟»
قال: «علم المستقبل عند الله، وليس لنا رأي في تجنيدنا، وإنما الأمر لقوادنا. ولقد خرج الرشيد في هذه الحملة يشكو مرضا وأناب عنه ابنه الأمين في بغداد. والأمين كريم الخلق جواد لا يخشى بأسه مثل أبيه. وهذا من حسن حظكم أيضا؛ لأني أرى كبيركم الحسن الهرش مقربا من البلاط كأنه صار من رجال الدولة.»
فقال العيار: «يظهر ذلك، ولكن حظنا لا يتم إلا ...» وتلفت يمينا وشمالا، ثم واصل كلامه وقد خفض صوته فقال: «إلا متى صار الأمين خليفة؛ فقد تحسدني عندئذ على العيارة، كما أحسدك الآن على الجندية.» ثم حول وجهه فجأة نحو البستان وقال: «إني أشم سمكا يشوى.»
وكان الخمار أثناء هذا الحديث قد انهمك في إصلاح البربط، والليل قد أسدل نقابه فظهرت النار الموقدة والدخان يتصاعد عنها، فلما سمع العيار يذكر رائحة السمك المشوي توقف ووضع البربط من يده وصاح: «نسيت السمكة على النار.» ثم تقدم نحو سراج من الخزف موضوع على مسرجة مسمرة بالحائط، فأصلح فتيلتها بسبابته، وأخذ في إنارتها، فأتى بالقداحة والصوانة والعطبة أو الصوفانة، فوضع الصوفانة على طرف الصوانة، وضرب عليها بالقداحة فخرجت شرارة أشعلت الصوفانة، فأتى بعود رأسه مغموس في الكبريت وأدناه من رأس الصوفانة فاشتعل الكبريت وأشعل العود، فقربه من الفتيلة فأوقدها فأضاء السراج. واغتنم العيار فرصة اشتغال الخمار بعمله وأسرع إلى السمكة فتناولها من النار بيده لا يبالي حرارتها، وهرول إلى الجندي فوضعها على رغيف بين يديه وصاح بالخمار: «إلي بقدحين من النبيذ القطربلي.»
صفحه نامشخص