أبطال الرواية
مراجع هذه الرواية
في خان سمعان
القصر المأموني
زينب ودنانير
دنانير وأم جعفر
ابن ماهان صاحب الشرطة
خلافة الأمين
ميمونة وابن الفضل
موكب ابن الفضل
الأمين والفضل بن الربيع
إلى المدائن
في إيوان كسرى
بين ميمونة وبهزاد
العودة إلى زينب
مجلس الفضل
ميمونة والأمين
بين زبيدة وعبادة
الفضل بن سهل
المأمون
ساحة الحرب
خلع المأمون
مقتل الأمين
بهزاد وميمونة
الخائن لا صديق له
أبطال الرواية
مراجع هذه الرواية
في خان سمعان
القصر المأموني
زينب ودنانير
دنانير وأم جعفر
ابن ماهان صاحب الشرطة
خلافة الأمين
ميمونة وابن الفضل
موكب ابن الفضل
الأمين والفضل بن الربيع
إلى المدائن
في إيوان كسرى
بين ميمونة وبهزاد
العودة إلى زينب
مجلس الفضل
ميمونة والأمين
بين زبيدة وعبادة
الفضل بن سهل
المأمون
ساحة الحرب
خلع المأمون
مقتل الأمين
بهزاد وميمونة
الخائن لا صديق له
الأمين والمأمون
الأمين والمأمون
تأليف
جرجي زيدان
أبطال الرواية
الأمين:
ابن هارون الرشيد.
المأمون:
ابن هارون الرشيد.
الفضل بن الربيع:
وزير الأمين.
الفضل بن سهل:
وزير المأمون.
زبيدة:
زوجة الرشيد.
زينب:
بنت المأمون.
دنانير:
مربية زينب.
عبادة بنت محمد:
أم جعفر البرمكي.
ميمونة:
بنت جعفر البرمكي.
بهزاد:
حفيد أبي مسلم الخراساني.
طاهر بن الحسين:
قائد المأمون.
مراجع هذه الرواية
هذه هي المراجع التي اعتمد عليها المؤلف في تأليف الرواية ووقائعها التاريخية:
تاريخ التمدن الإسلامي لجرجي زيدان.
العقد الفريد.
تاريخ ابن الاثير.
أبو الفداء.
سير الملوك.
معجم ياقوت.
كتاب البلدان لليعقوبي.
الأغاني لأبي الفرج.
تاريخ المسعودي.
في خان سمعان
كان المنصور قد بنى مدينة بغداد باسمه سنة 145ه، وجعلها معقلا له ولجنده ورجال دولته، وشيد في وسطها قصرا له سماه قصر الذهب وأقام بجانبه مسجدا عرف باسمه، كما أنشأ الأبنية فيما بقي من المدينة لأعمال حكومته، ولرجال خاصته، وأحاط المدينة بسور مثلث الجدران، فتح فيه أربعة أبواب سماها بأسماء الجهات التي تؤدي إليها؛ فسمى الشرقي الشمالي باب خراسان، والشمالي الغربي باب الشام، والشرقي الجنوبي باب البصرة، والغربي الجنوبي باب الكوفة. وأقطع رجاله ما يحيط بالمدينة من الأرباض فابتنوا فيها القصور وعرفت تلك الأرباض بأسمائهم. ولم يمض زمن حتى تكونت حول المدينة أحياء عرفت بأسماء خاصة بها، أشهرها الحربية في الشمال، والكرخ في الجنوب. وقامت الأبنية شرق دجلة ونشأت هناك أحياء الشماسية والرصافة والمحرم وغيرها. وبنى خارج باب خراسان قصرا كبيرا عرف بقصر الخلد، وجعل بينه وبين ذلك الباب ميدانا كبيرا يمتد منه طريق يتجه نحو الشمال الشرقي إلى الجسر الأوسط القائم على دجلة، ثم يعرج شمالا ثم شرقا حتى يمر بين الرصافة والمحرم، ويعرف بطريق خراسان. ويتخلل تلك الأحياء كثير من القصور والحدائق والأنهار (أو الترع) المتفرعة من دجلة إلى كل الجهات.
وكان من بينها نهر يجري من دجلة شرقا حتى يخترق الرصافة والشماسية، عرف بنهر جعفر. وعلى جانبي هذا النهر أو الترعة وراء الرصافة بساتين فيها الأغراس والأشجار وبعض الأبنية، وهناك بستان واقع على طريق خراسان من جهة وعلى ذلك النهر من جهة أخرى، اتخذه بعض الخمارين من أنباط السواد خانا ينزل به القادمون إلى بغداد من الغرباء. وجعل فيه مما يلي الطريق بيتا يبيع فيه الخمور والأنبذة ويصنع فيه الأطعمة لمن شاء من الغرباء أو البغداديين.
وكان لبعده عن العمارة ووقوعه على قارعة الطريق يقصده الراغبون في ترويح النفس أو تناول الخمر من طبقات العامة لرخص الأثمان وقرب التناول، ومن بعض الخاصة الراغبين في شرب الخمر خفية خشية الرقيب أو فرارا من العار.
أما صاحب هذه الحانة فكان في حدود الستين، عركه الدهر، ولانت نفسه حتى كادت تسيل رقة. وقد عاصر ثلاثة من خلفاء بني العباس، هم: المهدي، والهادي، والرشيد. وشهد كثيرا من الأهوال آخرها نكبة البرامكة منذ ستة أعوام، ظل ثلاثة منها يشاهد جثة جعفر منصوبة على جسر بغداد.
والخمارون يعتادون دماثة الخلق بما يعرض لهم من مخالطة الناس في أحوال سكرهم ولهوهم، ولاضطرارهم إلى مجاراتهم في طباعهم؛ فيهون عليهم احتمال الضيم والصبر على الأذى مرضاة «لزبائنهم»؛ فلا عجب أن كان ذلك الخمار من ألين الناس عريكة وأطولهم بالا وأكثرهم اطلاعا على نقائص البشر وأكتمهم لأسرارهم. وكانت حرفته هذه تكاد تكون خاصة بأهل الذمة من اليهود أو الأنباط سكان البلاد الأصليين؛ وذلك لتحريم شرب الخمر وبيعها على المسلمين.
وكانت حانة ذلك النبطي غرفة من ذلك البيت، في أرضها حصير عليه وسائد من الخيش محشوة بالقش، وفي جدرانها كوى فيها دنان الأنبذة والخمور مما صنع من العنب أو التمر أو التفاح أو غيرها من الثمار، وفوق الكوى رفوف عليها زجاجات أو أباريق وأقداح من الزجاج أو الخشب يكيل بها الخمر أو النبيذ، ومن بينها ما يسع رطلا أو نصفه أو ربعه. وعلق على صدر الغرفة بربط، وعود، ودف. ترغيبا للمترددين عليه في أسباب السرور. ويغلب أن يكون الخمار رخيم الصوت يحسن الضرب على بعض هذه الآلات أو كلها. وكان بعض الخمارين في بغداد يجعلون في حانتهم قينة رخيمة الصوت حسنة الصنعة جميلة الطلعة يشرب الطلاب على صوتها.
ففي يوم من أيام سنة 193ه، مضى النهار على ذلك الخمار دون أن يقصد حانته أحد؛ لبعدها عن مركز المدينة. وكان أكثر ارتزاقه من المارة الغرباء، وهو يؤثرهم على أهل المدينة لأنهم يجهلون الأسعار، ولا يميلون إلى المساومة كأهل البلد؛ فلا يبالي أحدهم أن يؤدي ثمن الرطل من النبيذ خمسة دراهم على حين أن ثمنه لا يزيد على درهمين. فلما انقضى النهار ولم يأته أحد أوقد في بعض جوانب البستان نارا ليشوي سمكة أعدها لعشائه. وفيما هو ينفخ في الوقود، والدخان يتصاعد على وجهه حتى يتخلل لحيته ويغشى عمامته، وقد استوفز وشمر قفطانه وشكه من أطرافه بزنارة. سمع صوتا من قبل باب الحانة يناديه: «يا معلم سمعان.» فخفق قلبه سرورا وأسرع ليرى مناديه فوجده من العيارين، وهم كثيرون يومئذ في بغداد، ومعظمهم من أهل البطالة الذين يعيشون من الدعارة والنهب. وكان معه رفيق له، فلما رآهما استعاذ بالله، ولكنه كان قد تعود الكظم في مثل هذا الموقف، وعلم ألا مفر من استقبالهما حتى لا يصيبه أذى فتجلد وتقدم باسما مرحبا.
وكان العيار لابسا خوذة من الخوص، وعلى صدره دراعة من الجلد المدبوغ عليها نقوش ملونة، وهو عاري الذراعين، قد علق بكتفه اليمين مخلاة فيها حصى، وعلى حقويه سراويل من الخيش الثخين تكسوه إلى الركبتين، والمقلاع معلق بكوعه، وهو سلاح العيارين. وكان مكشوف الساقين حافي القدمين، يمسك بإحدى يديه عصا غليظة، وبالأخرى رغيفا أكل بعضه وفي فمه لقمة يمضغها وهو يقول: «اسقنا يا معلم.»
فرحب به الخمار وعمد إلى رطل صب فيه نبيذا وأعطاه إياه، ثم نظر إلى رفيقه فإذا هو بملابس الجند، وهي الدراعة على ظهرها طراز الدولة «فسيكفيهم الله وهو السميع العليم»، وعلى رأسه قلنسوة مستطيلة مدعمة بالعيدان. وقد علق السيف بمنطقته فوق قباء أسود. فتوسم الخمار منه خيرا لعلمه أن الجنود يؤدون ثمن ما يأخذونه إذا أخذوا رواتبهم. وطلب منه الجندي أن يعطيه رطلا؛ فبادر إلى إجابة طلبه ورحب به، فشرب الجندي واقفا، ثم تجشأ ومشى متبخترا. أما العيار فأخذ القدح وأدناه من فيه وهو يقول: «بورك فيك يا معلم سمعان، والله لأجعلنك عيارا عندي متى صرت عريفا أو مقدما.»
فقهقه الجندي وتقدم إلى سمعان فوضع يده على كتفه، وقال وفي لهجته عجمة، لأنه فرغاني الأصل من أبناء الجنود الذين استقدمهم المنصور في أيامه: «وأنا أعاهدك إذا حدث الانقلاب القريب وأخذنا مخصصاتنا على أن أعطيك ثمن هذه الأرطال مضاعفا. وأظنني مدينا لك بشيء من قبل، ولكن ما العمل؟ لا بد من الصبر!»
فقطع العيار كلامه وقال: «وأنتم أيضا تشكون القلة والفقر؟ ألستم من أصحاب الرواتب؟»
قال: «صدقت يا صاحبي، إننا نأخذ رواتبنا ولكنها لا تفي بنفقاتنا ومن نعول. وهل يقوم بالجندي غير الغنائم في الحرب أو ...» وتوقف وأخذ يهمس حذر سامع؛ فسبقه العيار وقال: «أو عند وقوع تغيير أو انقلاب في قصر الخلافة؛ إذ تنالون أجوركم أضعافا مضاعفة، ناهيك بحق البيعة ... طب نفسا فإن ذلك قريب.»
فوضع الجندي يده على فم صاحبه يريد إسكاته حذرا من الفضيحة. وكان سمعان يسمع كلامهما ولا يهمه مما يسمعه إلا ما يتوسم من ورائه استيفاء دينه ؛ فلما رآهما يحاذران الكلام وهما بالباب تقدم إليهما وقال: «تفضلا وادخلا.» وأشار إلى الحصير كأنه يدعوهما إلى الجلوس، فدخلا ومد العيار يده إلى البربط المعلق على الحائط فتناوله ودفعه إلى الخمار، ثم جلس وقال: «علمت أنك تحسن الغناء والضرب على البربط لقرابة بينك وبين برصوما الزمار، فأسمعنا.»
فتناول سمعان البربط وهم بإصلاحه وهو يقول: «يا ليتني كنت من أقارب برصوما؛ فإنه من المقربين إلى مولانا أمير المؤمنين يستمتع برفده وجوائزه.»
فقال الجندي: «لو كنت تحسن النفخ في المزمار لكنت أصبت مثل حظه، أو حظ إبراهيم الموصلي المغني، أو ... ولكن اشكر الله على حالك؛ فإن التقرب من القصر لا يخلو من الخطر؛ فمهما تصادف من نعيم فلن يكون خيرا من نعيم البرامكة، وأنت تعلم مصيرهم!»
فقطع العيار كلامه قائلا: «أراك يا صاحبي من الفلاسفة ورجال الزهد، أما أنا فأدخلني قصر الخلد واجعلني مغني الخليفة أو زامره أو شاعره، ثم ليكن بعد ذلك ما يكون، أو اجعلني جنديا مثلك على الأقل؛ تأخذ أجرك وأنت قاعد، وإذا ذهبت في حرب عدت بالغنائم والأسلاب والسبايا من النساء الجميلات!»
فابتدره قائلا وهو يهز رأسه: «إذا عدت حيا!»
فقال له العيار: «ولماذا لم تذهب في الحملة التي سار فيها أمير المؤمنين إلى سمرقند منذ بضعة أشهر لمحاربة رافع بن الليث، ألا تتوقع منها فوزا؟»
قال: «علم المستقبل عند الله، وليس لنا رأي في تجنيدنا، وإنما الأمر لقوادنا. ولقد خرج الرشيد في هذه الحملة يشكو مرضا وأناب عنه ابنه الأمين في بغداد. والأمين كريم الخلق جواد لا يخشى بأسه مثل أبيه. وهذا من حسن حظكم أيضا؛ لأني أرى كبيركم الحسن الهرش مقربا من البلاط كأنه صار من رجال الدولة.»
فقال العيار: «يظهر ذلك، ولكن حظنا لا يتم إلا ...» وتلفت يمينا وشمالا، ثم واصل كلامه وقد خفض صوته فقال: «إلا متى صار الأمين خليفة؛ فقد تحسدني عندئذ على العيارة، كما أحسدك الآن على الجندية.» ثم حول وجهه فجأة نحو البستان وقال: «إني أشم سمكا يشوى.»
وكان الخمار أثناء هذا الحديث قد انهمك في إصلاح البربط، والليل قد أسدل نقابه فظهرت النار الموقدة والدخان يتصاعد عنها، فلما سمع العيار يذكر رائحة السمك المشوي توقف ووضع البربط من يده وصاح: «نسيت السمكة على النار.» ثم تقدم نحو سراج من الخزف موضوع على مسرجة مسمرة بالحائط، فأصلح فتيلتها بسبابته، وأخذ في إنارتها، فأتى بالقداحة والصوانة والعطبة أو الصوفانة، فوضع الصوفانة على طرف الصوانة، وضرب عليها بالقداحة فخرجت شرارة أشعلت الصوفانة، فأتى بعود رأسه مغموس في الكبريت وأدناه من رأس الصوفانة فاشتعل الكبريت وأشعل العود، فقربه من الفتيلة فأوقدها فأضاء السراج. واغتنم العيار فرصة اشتغال الخمار بعمله وأسرع إلى السمكة فتناولها من النار بيده لا يبالي حرارتها، وهرول إلى الجندي فوضعها على رغيف بين يديه وصاح بالخمار: «إلي بقدحين من النبيذ القطربلي.»
فقال: «ليس عندي شيء من نبيذ قطربل، ولكنني أسقيكما نبيذا مصنوعا من الذوشاب البستاني مع العسل.» وجاءهما بخمر قوية مظهرا الترحيب بهما، بينما هو يستعيذ منهما وهما يضحكان لا يباليان، فلا يسعه إلا أن يشاركهما الضحك.
وفيما هم كذلك سمعوا رجلا ينادي في الطريق: «السمك الطري أربعة أرطال عند بيطار حيان.» وهي مناداتهم على السمك في ذلك العهد؛ فوثب العيار يقول: «لقد سنحت لنا الفرصة لنكافئك يا معلم سمعان.» ثم تناول حصاة من المخلاة وضعها في المقلاع، وخرج من باب الخمارة وقال: «أسرع والتقط السمك من الأرض.» فعلم سمعان أن العيار سيرمي ذلك البائع المسكين بالمقلاع، فأخذته الشفقة به، وأمسك العيار بيده فأوقفه عن الرمي، ثم تفرس في البائع وهو لا يكاد يراه في العتمة فوجده فقيرا عاري الساقين والذراعين لا يستره غير ثوب خلق وعلى رأسه فوق العمامة طبق من القش ظهر فوقه السمك. فجذب العيار يده من يد الخمار وقال: «دعني أعوضك عن سمكتك سمكتين.»
فقال: «أخاف أن تقتل الرجل، لا حاجة لي بالسمك.»
فضحك العيار وقال: «لا تخف، إني أرمي السمك فقط ولا أمس الرجل ولا طبقه، وسترى!» قال ذلك وأطلق الحجر من المقلاع فأصاب أعلى السمك فقط، فسقط بعضه والرجل ماش لم يشعر. وللعيارين مهارة عظيمة في رمي الحجارة. وكان بيد السماك رغيف فقال العيار للخمار: «وأرمي لك الرغيف إذا شئت.» فوقعت كلمته في أذني البائع فالتفت إليه، وما كاد يراه حتى ذعر ورمى الرغيف إلى الأرض وقال: «هذا هو الرغيف خذه ودعني.» ثم ولى هاربا؛ فأشار العيار للخمار أن يأخذ السمكتين والرغيف، ففعل وهو يعجب من مهارة رميه، ودخل ليشوي السمكتين وهو يدعو الله من قلبه عسى أن ينقذه من هذه الورطة.
وكأن الله استجاب دعاءه، فما عتم أن سمع وقع حوافر دابة عند باب بستانه، فالتفت نحو الباب وعيناه تدمعان ويكاد الدخان يحجب بصره، فرأى رجلا طويل القامة مع انحناء قليل تدل هيئته على السكينة والوقار، وعلى رأسه عمامة سوداء كبيرة الحجم، وقد ارتدى جبة طويلة تحتها ثوب عسلي اللون حوله زنار مشدود، وهو لباس أهل الذمة في ذلك العصر، وقد شك في الزنار دواة من الفضة. وكان وجهه صبوحا مع رقة ونحافة حتى كاد جلده يلصق بالعظم مع بروز الوجنتين، وعيناه سوداوان براقتان تدلان على الذكاء، وأنفه كبير منحن قليلا، وله لحية كثيفة مسترسلة قد دب فيها الشيب تتصل من الجانبين بسالفين كثين.
ودخل الرجل يتوكأ على عكاز بيمينه وقد تأبط بالأخرى شيئا تحت الجبة، فلما رآه الخمار أدرك أنه من وجهاء الصابئة أو أحد علمائهم، فاستغرب مجيئه إذ ليس للحانات نصيب من زيارة أمثال هذه الطبقة من الناس. وتنحى العيار والجندي للرجل بينما تقدم الخمار وانحنى كأنه يسأله ما يريد، فقال الرجل بصوت خشن هادئ: «أليس هذا خان المعلم سمعان؟»
فسر الخمار لاشتهار اسمه عند كرام القوم وقال: «بلى يا سيدي.»
قال: «وهل في بستانك مكان للاستراحة؟»
قال: «نعم يا مولاي، تفضل.»
ودخل الخمار مهرولا فتبعه الرجل وقال: «إذا سألك مقدم العيارين الليلة عن «الملفان» سعدون فقل له إني في انتظاره هنا.» والملفان رتبة علمية عند السريان تقابل رتبة دكتور أو علامة اليوم.
وكان العيار والجندي واقفين ينظران إلى الرجل ، فتذكر العيار أنه رآه من قبل، ولما سمعه يذكر مقدم العيارين أجفل وتذكر أنه شاهده معه غير مرة؛ فرأى من الحكمة أن يخرج من ذلك المكان قبل مجيء مقدمه، فتحول وخرج. وأما الجندي فأحب البقاء ليطلع على ما عساه أن يكون من أمر هذا الاجتماع الذي يندر في مثل هذا المكان خارج المدينة؛ فجلس على وسادة فوق الحصير بقرب الحائط وجعل سيفه في حجره والحائط بينه وبين البستان.
أما الخمار فسره قدوم الملفان سعدون وما يتوقعه من قدوم الهرش مقدم العيارين؛ فقد يتعشيان أو يشربان فينال منهما ما يعوض به خسارته ذلك المساء؛ فمشى بين يدي الرجل، وكان هذا لطول قامته يخاف أن تعلق عمامته ببعض الأغصان فمشى مطأطئ الرأس حتى وصل إلى مصطبة مطلة على نهر جعفر تظللها شجرة كبيرة، وفوق المصطبة حصير عليه وسادتان، فأجلسه الخمار هناك، ثم تركه ريثما عاد بالسراج الذي كان في الحانة فوضعه على أرومة شجرة بجانب المصطبة، وسأله هل يحتاج إلى شيء من طعام أو شراب، فقال: «لا.» ثم اتكأ على إحدى الوسادتين ووضع العصا بجانبه وأخرج من كمه جرابا صغيرا وضعه بين يديه، وتشاغل بتمشيط لحيته بأنامله، منصتا إلى صوت ساقية تدور في بستان قريب. فتركه الخمار إلى الحانة فأتى بسراج آخر أضاءه، والتفت إلى الجندي فوجده وحده هناك، فسأله عن رفيقه فقال: «فر خوفا من قدوم «الهرش» أميره.» ثم سعل وقال: «عسى هذا الصابئ أن يعوضك ما خسرته علينا!» فقال: «إن شاء الله!»
وساد الصمت لحظة، ثم عاد الجندي إلى الكلام فقال: «لأمر ما تواعد هذا الصابئ على اللقاء هنا مع الهرش مقدم العيارين؟»
فقال سمعان: «هؤلاء الصابئة أهل سحر ونجامة لا تخفى عليهم خافية، ولعل الهرش يستعين به على كشف المخبآت.»
فهز الجندي رأسه موافقا، وأوجس خيفة من أن يطلع سعدون بسحره على دخيلة أمره؛ فسكت واشتغل الخمار عنه بالتقاط ما وقع على أرض الحانة من آثار الأكل والشرب استعدادا لمجيء الهرش.
ثم سمعا جواد الصابئ يصهل صهيلا قويا، وكان مربوطا بجانب الطريق يحرسه غلام، فأجابه صهيل مثله عن بعد، فاستبشر الخمار بأن أناسا من أهل الوجاهة قادمون إليه، ثم اقتربت الأصوات واشتد وقع الحوافر وظهر على الباب فارس وبين يديه غلام بلباس العيارين ما لبث أن صاح مناديا: «يا معلم سمعان.»
فخف الخمار إلى استقباله مرحبا، وأخذ يتأمل في لباسه الفاخر وقلنسوته القصيرة كسراويله، وإلى سيفه المدلى على ساقيه اللتين يحيط بهما لفائف من الجلد حتى الكعب فوق النعال، ثم سأله الغلام: «هل جاءك الملفان سعدون؟»
فقال: «نعم، هو في البستان.» وأيقن أن الفارس هو الهرش مقدم العيارين، فتقدم وأمسك بلجام الجواد والركاب حتى ترجل الهرش. وكان هذا قصير القامة ممتلئ الجسم قويه لا يزال سريع الحركة رغم كهولته، إذا مشى تبختر تيها وخيلاء، غليظ الشفتين خفيف اللحية والشاربين أشيبهما، وعلى جبهته ندبة غائرة من أثر جرح أصابه في قتال كاد يقضي عليه في صباه، وهو يفاخر أقرانه بهذا الأثر. وكان كبير العينين لا يبرح الاحمرار ظاهرا فيهما كأنه صحا من رقاد عميق. فإذا علمت أن الرجل أمير العيارين سهل عليك الحكم على أخلاقه. والعيارون يرتزقون بالسرقة والاعتداء ونحوهما، ولا رقيب عليهم ولا حسيب، وكثيرا ما كانت الحكومة تستعين بهم، فإذا أخلصوا لها نفعوها؛ لأنهم أقدر الناس على كشف أخبار الدعارة وتتبع اللصوص. وكانت الحكومة يومئذ تستعين حتى باللصوص أنفسهم، وعندها طائفة منهم تابوا عن اللصوصية فسمتهم التوابين وأجرت عليهم الأرزاق لتستخدمهم في كشف السرقات على أنهم ندر أن أخلصوا لها الخدمة ولم يكونوا مع اللصوص عليها. وإنما تكثر أمثال هذه المفاسد في عهود الحكومات الاستبدادية إذا ضعف صاحبها وطمع رجاله في الأموال وفسدت النيات وأصبح الناس عيونا بعضهم على بعض.
دخل الهرش مقدم العيارين بستان سمعان، في حين وقف غلامه بالجواد في منعطف الطريق، وأسرع الخمار في أثر الهرش حتى أوصله إلى المصطبة، فوقف له الملفان ورحب به، فجلس إلى جانبه وأشار إلى الخمار ألا حاجة بهما إلى شيء؛ ففهم أنهما يريدان الخلوة، فرجع إلى الجندي وأشار عليه بأن ينصرف لئلا يكون وجوده باعثا على شك، فانصرف أسفا.
أما الهرش فنظر إلى رفيقه وتبسم قائلا: «أظنني أبطأت عليك.»
قال: «لم أنتظر إلا قليلا.»
قال: «إني في شوق إلى رؤيتك ولولا ذلك ما استطعت المجيء إليك ولا سيما اليوم لغياب أمير المؤمنين الرشيد عن بغداد.»
فقال: «أليس ابنه الأمين مكانه؟»
قال: «بلى ولكن هذا الغلام - وأنت أعلم به مني - لا خبرة له بسياسة الدولة، ولعله أدرى بسياسة الجواري والغلمان والكأس والطاس؛ فتراني لا أخرج من منزلي إلا قليلا، وترى رسول صاحب الشرطة ذاهبا جائيا إلي يحمل إلي الأسئلة عما غمض عليهم كأني الملفان سعدون الصابئ الحراني أضرب المندل وأستطلع الغيب بالنجوم!» قال ذلك وضحك؛ فأدرك سعدون غرضه وتجاهل وقال: «العفو أيها الأمير، إن ما يستطيعه مقدم العيارين يعجز عنه مثلي، وأنا إذا عرفت شيئا فإنما يدلني عليه الكتاب والحساب، أما أنت فتعرفه بفراستك وشجاعتك.»
فسر بهذا الإطراء وقال: «قد أكون أعرف كل شيء، ولكنني أقر بعجزي عن معرفة مقرك؛ لأني ما بحثت عنك مرة واستطعت لقياك، اللهم إلا إذا ضربت لي موعدا.»
قال: «ليس هذا دليلا على عجزك، بل هو من سوء حظي؛ لأن اشتغالي بالكيمياء فضلا عن المندل والنجامة يقضي علي بالانزواء معظم الأيام؛ ولذا تراني تركت أهلي وهجرت حران لئلا يشغلوني عن عملي، وقد طال بعدي عنهم حتى أصبحوا لا يعرفونني ولا يدرون مقري، ولو سألتهم لأنكروا أمري.»
ففرح الهرش بتطرق الرجل إلى ذكر الكيمياء ليسأله عما فعله بقطعة من النحاس دفعها إليه منذ أيام ليحولها إلى ذهب، فقال له: «أظنك طبعا نسيت صديقك الهرش ولم ...»
فقطع سعدون كلامه قائلا: «كلا، إني لا أنسى مولاي المقدم، وأبشره بأن حظه في أسمى الطوالع؛ لأني وفقت في طبخ نحاسه توفيقا غريبا يندر مثله!»
فطرب الهرش إذ توقع الغنى القريب، وسأله: «هل صحت الطبخة؟»
فتبسم سعدون ومد يده إلى جرابه، فحل عقدته وأخرج منه سبيكة من الذهب الإبريز وقال: «نعم يا سيدي، وهذه هي القطعة التي جربتها، ومتى نضج الباقي دفعته إليك .» ثم قال له همسا وهو يناوله السبيكة: «وأظنني لا أحتاج إلى أن أوصيك بتكتم الأمر عن سائر الناس؛ فإني لا أحب أن ... وأنت تعلم السبب.»
فأخذ الهرش السبيكة وأدناها من لهيب السراج وتفرس فيها فإذا هي ذهب لا ريب فيه، على أنه خاف أن يكون في الأمر خداع وهو قد اعتاد بحكم منصبه أن يسيء الظن بالناس وأن يرى الغش حيث تطلع وأين مشى؛ فجعل يزن السبيكة بيده ليمتحن وزنها، فلما رأى سعدون شكه قال بهدوء ورزانة وفي صوته لهجة العتاب: «لا تشك يا سيدي، وتستطيع أن تبيعها في سوق الصياغ غدا فتعلم صدق قولي. ولا ألومك على الشك؛ لأن الناس لم يتعودوا الصدق ولا علموا نجاح الكيمياء إلا قليلا، ويغلب فيمن يصح طبخه أن يستأثر بالذهب لنفسه.»
فخجل الهرش من هذا التوبيخ اللطيف وازداد احتراما للملفان سعدون وثقة به؛ فبادر يعتذر وقال: «حاشا لي أن أرتاب في صدقك، ولست حديث العهد بمعرفتك؛ فكم كشفت لي من المخبآت، وأعلمتني من الأسرار حتى صرت أعدك أخي، بل أعز من أخي!»
فقال: «أتكون مسلما ويكون أخوك صابئا؟ هل ترضى ذلك لنفسك؟» وضحك وهو يلف درجا كان يقلبه في أثناء الحديث وجعله في الجراب الذي أخرج السبيكة منه.
أما الهرش فأدرك أنه يمازحه فقال: «إذا كان الصابئة كلهم مثل الملفان سعدون فإنهم إخوتي جميعا، وأكرم بها من طائفة عندها علم النجوم و...» وسكت مصغيا كأنه يسمع صوتا ثم قال: «كأنني أسمع قرقعة لجم البريد.»
وكان الصابئ قد ربط الجراب وتأبطه وتحفز للنهوض فقال: «هذا بريد خراسان يحمل خبرا مهما. ألا تراني أتهيأ للنهوض من قبل؟»
فازداد الهرش إعجابا بمقدرة سعدون في فنه حتى علم أن البريد قادم من خراسان بخبر مهم؛ فنهض يصلح قلنسوته وينقل سيفه وقال: «صدق من قال إن لقرقعة لجم البريد رهبة. دعني أذهب لملاقاة صاحب البريد لعلي أستطلع منه خبرا، إني أسمع الصوت يقترب منا.»
ومشى مسرعا وسعدون يتبعه على مهل، وقبل أن يصل الهرش إلى باب الخان رأى بغل البريد وقف بالباب، وراكبه بجانبه ملثما وقد شد وسطه بهميان عريض، والبغل يلهث من التعب وقد تصبب العرق عن صدره وأرغى بعضه تحت اللجام، ثم سمعه يقول للخمار: «اسقني يا سمعان.» فأسرع الرجل إلى كوب ملأها ماء ودفعها إليه.
وكان الهرش قد وصل إلى الباب، فلما وقعت عينا حامل البريد عليه ترجل قبل أن يشرب وهم بتقبيل يده، فأومأ إليه أن يشرب ففعل ودفع الكوب إلى الخمار، ثم اقترب من الهرش فأسر إليه كلمة وجعلا يتهامسان، وسعدون واقف على عتبة الحانة مما يلي البستان لا يسمع شيئا، ولكنه لحظ مما بدا على الهرش عند إصغائه للرجل أن الخبر الذي يحمله من خراسان عظيم الأهمية. ولم يطل تهامسهما فاعتذر صاحب البريد وركب البغل وأطلق له العنان؛ فتحقق سعدون عند ذاك أن صاحب البريد يحمل خبرا ذا بال منعه من إطالة الحديث مع مقدم العيارين؛ فدخل سعدون الحانة فرأى الهرش مقبلا عليه والدهشة ظاهرة في وجهه يمازجها ارتياح، وآنس ابتسامة حول فمه تنفي انقباض أسرته، فأدرك بفراسته أن الخبر ذو صلة بالرشيد؛ لأنه في خراسان، وقد ذهب إليها مريضا. وشاع أن المرض اشتد عليه ولا يرجى شفاؤه. فلما سمع قرقعة لجم البريد ترجح عنده خبر موت الرشيد، فلما رأى الهرش مقبلا عليه تبسم وهز رأسه وقال: «لكل أجل كتاب!»
فبغت الهرش لقوله وعده نبوءة وأمسك بيده وانتحى به مكانا منفردا وهمس يقول: «هل عرفت بموته؟ وكيف ذلك؟»
قال: «رحم الله الرشيد، إنه مات غريبا وقد كنت أتوقع موته يوم خرج في هذه الحملة. عرفت ذلك من طالعه، وأراك سررت بموته، ويحق لك السرور كما يحق لسائر الأمراء والأجناد؛ لأنكم ستأخذون رواتب جديدة خصوصا أنت؛ فإنك أوفر حظا من سائر الأمراء؛ لأن الأمين إذا تولى الخلافة زاد في تقريبك.» وتنحنح وتظاهر بأن السعال شغله عن إتمام كلامه.
فتناول الهرش الحديث عنه وقال: «ولكن حامل البريد مع ثقته بي ورغبته في إرضائي كتم عني خبرا آخر قال إنه على جانب عظيم من الخطورة ، واكتفى بأن ذكر أنني سأعرفه قريبا.»
فقطع سعدون كلامه وقال: «لا شك أنك ستعرفه؛ لأنه سينشر على رءوس الملأ، ولو كان كتاب المندل معي لاستطلعته في هذه الدقيقة ولكن ...» وتحفز للخروج وكأنه يهم بالذهاب لعمل المندل، ونادى غلامه أن يأتيه بالفرس فاستوقفه الهرش قائلا: «أراك مسرعا وأنا في حاجة إليك.»
قال: «إني رهين أمرك، ولكنني أحب الاطلاع على بقية الخبر.»
فقال: «ولكننا تواعدنا على الاجتماع هنا لنتكلم فلم يطل مقامنا، ثم إن أخانا علي بن عيسى بن ماهان صاحب الشرطة يجب أن يراك؛ لأنني كثيرا ما ذكرتك بين يديه وحكيت له عن معجزاتك.»
فقطع كلامه قائلا: «أخاف أن تكون ذكرت الكيمياء.»
فضحك الهرش وهو يتشاغل برفع حمائل سيفه وقال: «الكيمياء؟ كلا، ولكنني قصصت ما أنت عليه من المهارة في النجامة والمندل فرأيت منه ميلا لرؤيتك، وأوصاني بأن آتيه بك. وأظنه ينفعك؛ لأنه صاحب شرطة بغداد وله شأن كبير، ولا سيما بعد هذا الخبر؛ فإن مولانا الأمين يعول عليه ويحبه. وهذه فرصة لي أيضا لأكافئك على حسن صنيعك.»
فأطرق سعدون هنيهة وهو ينتف عثنونه وينكت الأرض بعكازه ثم قال: «دعني أذهب الآن على أن أعود إليك بالخبر الليلة.»
قال: «إذا كنت تعود إلي الليلة فلا بأس من ذهابك الآن، وأتني في أي هزيع من الليل تجدني في قاعة العيارين بالحربية وأنت تعرفها. ومتى جئت نذهب معا إلى دار صاحب الشرطة فسيكون ساهرا، ولا أظنهم ينامون الليلة إذا بلغهم ما بلغنا من أمر الرشيد؛ لأن موته سيحدث تغييرا خطيرا أرجو أن يكون منه نفع لي ولك.» قال ذلك ومد يده إلى يد سعدون كأنه يحييه، ثم نادى غلامه فجاء يحمل صندوقا صغيرا وعصا وملاءة مما قد يحتاج إليه في أثناء الطريق، فأشار إليه أن يعطي للخمار بعض المال، فدفع إليه صرة صغيرة بها دراهم فأخذها الخمار شاكرا وأكب على يد الهرش يهم بتقبيلها فمنعه، فالتفت سعدون إليه وقال: «هل جاء الأمير الهرش إليك الليلة؟»
فأدرك الخمار أنه يعرض برغبته في كتمان ذلك ؛ فأجابه: «كلا يا مولاي، ولا الملفان سعدون. كن مطمئنا.»
فالتفت الهرش إلى سعدون ضاحكا، فقال هذا: «اركب أنت قبلي، ثم أركب أنا حتى لا نترك أثرا لاجتماعنا.»
فقال الهرش: «أراك تبالغ في الكتمان يا صديقي وليس فيما أتيناه ما يوجب هذا التستر، لم يكن ثمة باعث على خروجنا إلى هنا لهذا الاجتماع.»
فقال وهو يخفض صوته: «يهمني كتم أمر الكيمياء فقط، وإني أرى للجدران آذانا وللطرق ألسنة فاعذرني!»
وركب الهرش ومشى الغلام في ركابه في طريق خراسان غربا نحو الجسر، ثم غربا جنوبيا نحو الحربية.
فلما تحقق سعدون ذهابه ركب وأدار شكيمة جواده جنوبا ثم شرقا نحو المحرم يلتمس قصر المأمون.
القصر المأموني
كان قصر المأمون على عهد قصتنا هذه في جنوبي القسم الشرقي من بغداد بعد قصر الأمين. وكان يسمى قبلا القصر الجعفري نسبة إلى جعفر البرمكي وزير الرشيد. والسبب في بنائه أن جعفرا كان شديد الشغف بالشرب والغناء، وكان أبوه يحيى رجلا جليلا ذا رأي وعقل يخاف على ابنه عاقبة هذا التهتك؛ فنهاه فلم ينته، وأوصاه بأن يستتر عملا بالحديث المأثور فأبى. فلما أعيته الحيلة فيه قال له: «إن كنت تأبى التستر فاتخذ لنفسك قصرا بالجانب الشرقي من بغداد لأنه قليل العمارة، واجمع فيه ندماءك وقيانك، لتكون بعيدا من عيون من يكره ذلك منك.»
فقبل جعفر النصيحة وأمر ببناء قصره بالجانب الشرقي وبذل في بنائه مالا كثيرا. فلما تم بناؤه سار إليه في جماعة من أصحابه فيهم صديق حكيم مخلص له اسمه مؤنس بن عمران، فطافوا القصر واستحسنوه، ولم يبق منهم أحد لم يقرظه بما يبلغ إليه إمكانه إلا ابن عمران؛ فإنه ظل ساكتا، فقال له جعفر: «مالك ساكتا لا تتكلم وتدخل معنا في حديثنا؟»
فقال: «حسبي ما قالوا.»
فأدرك جعفر أن هناك شيئا يكتمه فقال: «أقسمت لتقولن.»
فقال: «أما إذا أبيت إلا أن أقول فلك علي ذلك.»
قال: «نعم واختصر.»
فقال: «أسألك بالله إن مررت بدار بعض أصحابك ورأيتها خيرا من دارك فما كنت صانعا ؟» يشير إلى ما كان في نفس الرشيد من جعفر من إكبار ما بلغ إليه من الثروة والنفوذ.
ففهم جعفر مراده فقال: «حسبك قد فهمت، فما الرأي؟»
قال: «أرى إذا صرت إلى أمير المؤمنين وسألك عن تأخرك، فقل إنك كنت في القصر الذي بنيته لمولانا المأمون، واجعل أنك بنيته له.»
فأعجبه رأيه وأقام بالقصر بقية ذلك اليوم ثم ذهب إلى قصر الخلد ودخل على الرشيد. وكان الجواسيس قد نقلوا إليه خبر بناء هذا القصر، ولم يكن في قصور الخلفاء مثله، فقال له: «من أين أتيت وما الذي أخرك إلى الآن؟»
قال: «كنت في القصر الذي بنيته لمولاي المأمون شرقي دجلة.»
فقال الرشيد: «أللمأمون بنيته؟»
قال: «نعم يا أمير المؤمنين؛ لأنه ليلة ولادته جعل في حجري قبل أن يجعل في حجرك، واستخدمني أبي له فدعاني ذلك إلى أن اتخذت له بالجانب الشرقي قصرا لما بلغني من طيب هوائه ليصح مزاجه ويقوى ذهنه ويصفو.»
فلما سمع الرشيد قوله سري عنه وأسفر وجهه ووقع عنده موقع القبول وقال: «والله لا يسكنه أحد سواك، ولا أتمم ما يعوزه من الفرش إلا من خزائننا.» وزال من نفس الرشيد ما كان يخامره.
فلما أوقع الرشيد بالبرامكة سنة 187ه واستباح قصورهم وأموالهم، انتقل القصر إلى المأمون بن الرشيد، وهو ولي عهد المسلمين بعد الأمين، فأحبه المأمون وهو يومئذ في ريعان الشباب، وصار أحب الأمكنة وأشهاها لديه، وأخذ في توسيعه من جهة البرية، فأضاف إليه قطعة من الأرض جعلها ميدانا لركض الخيل والحلبة في أيام السباق واللعب بالكرة والصولجان، وبنى في جوانب القصر حظائر حبس فيها أصناف الوحوش من السباع وغيرها، وفتح له بابا شرقيا يشرف على البرية، وأجرى فيه نهرا ساقه من نهر المعلى، وابتنى قريبا منه منازل لخاصته وأصحابه وسمي القصر من ذلك الحين «القصر المأموني»، وعرفت تلك الجهة بجهة المأمونية، وصار فيها بعد ذلك طريق اشتهر بهذا الاسم في بغداد.
وكان المأمون وهو ببغداد أثناء ولاية العهد حتى سنة 192ه قد أسكن فيه الفضل بن سهل وأخاه الحسن، ولهذين الرجلين شأن في تاريخه. فلما طلب الرشيد خراسان لمحاربة رافع بن الليث فيما وراء النهر، وكان قد ثار على الدولة وعجز العمال والقواد عن إذلاله، حمل الرشيد عليه بنفسه واستخلف على بغداد ابنه الأمين واليا عليها، وأمر المأمون أن يبقى فيها وكان قد أوصى له بخراسان يتولاها بعد موته.
وكان الفضل بن سهل فارسيا من سرخس، ذا مطامع في السلطان، وفي نفسه نقمة على الرشيد لغدره بجعفر البرمكي، كما نقم عليه سائر رجال الفرس وأجمعوا أمرهم فيما بينهم على الأخذ بالثأر؛ فتوجهت آمالهم إلى المأمون لأن أمه فارسية وقد شب في حجر جعفر البرمكي على الميل إلى الشيعة العلوية وهي جامعة الفرس. وكان يحيى أبو جعفر قد اختار الفضل بن سهل لخدمة المأمون، وكان مجوسيا فأسلم على يده طمعا في نصرة الفرس، وكان المأمون يجله ويقدمه.
فلما أزمع الرشيد الخروج إلى خراسان في تلك السنة وطلب إلى المأمون البقاء في بغداد، خاف الفضل أن يموت الرشيد في الطريق فيذهب سعيه سدى؛ فجاء إلى المأمون وقال: «لست تدري ما يحدث للرشيد، وخراسان ولايتك، ومحمد الأمين مقدم عليك في ولاية العهد. وأخشى أن يخلعك وهو ابن زبيدة وأخواله بنو هاشم، وزبيدة وأموالها كما تعلم، فاطلب إلى أمير المؤمنين أن تسير معه.» فطلب المأمون ذلك من أبيه فامتنع أولا ثم قبل، وذهب الفضل وأخوه الحسن معهما، وخلف المأمون بعض أهله في ذلك القصر ومعهم الخدم والعبيد وعليهم قيم يتولى شئون بيت المأمون وأمواله وضياعه.
وكان القصر المأموني نفسه على شاطئ دجلة الشرقي، تشرف واجهته على النهر ولها شرفات ورواشن، وفي قاعات القصر أنواع الفرش المذهبة والنمارق المقصبة المحمولة من الأنحاء البعيدة، وقد زخرفت أبوابه بالستائر وملئت خزائنه بأنواع الطرف مع ما تحتاج إليه القصور من الجواري والخدم والخصيان، وهم يعدون يومئذ من أدوات المنزل التي لا بد منها.
وكان للقصر مما يلي دجلة مسناة من رخام ترسو عندها السفن يعدون إليها من الماء بدرجات من الرخام عريضة يحدها من الجانبين جدران من أساطين غليظة (درابزون) يظهر مما عليها من النقوش الفارسية أنها كانت لبعض الأبنية الكسروية وحملت إلى هناك، والمسناة عريضة تمتد من حافة الشاطئ إلى سور القصر عند بابه الغربي. وعند الباب ردهة فسيحة ربما فرشوها بالطنافس ونصبوا في جوانبها المقاعد للجلوس إذا أرادوا مشاهدة مجرى دجلة وفيه السفن تمر صاعدة أو نازلة.
وكان المأمون قد خلف في القصر ابنته زينب لما سافر مع أبيه في ذلك العام، وتكنى أم حبيبة، وهي يومئذ في الثانية عشرة من العمر، وكانت مثل أبيها ذكاء ونباهة واستقلالا في الفكر، ومثل جدها الرشيد أنفة وتعصبا لبني هاشم، وكانت مع صغر سنها قوية الإرادة مستبدة برأيها، وقد عرف أبوها ذلك فيها، وهو لا يريد تلك العصبية لرغبته في اصطناع الفرس؛ فعهد في تربيتها إلى الجارية التي ربته هو، وأصلها من جواري البرامكة في إبان مجدها، واسمها دنانير. وذلك أن المأمون لما جعل في حجر جعفر عهد هذا في تربيته إلى تلك الجارية وأوحى إليها أن تنشئه على حب الفرس، فنشأ المأمون على ذراعيها وشب يحترمها ويراعي جانبها. ولما ترعرع أخذها إليه وجعلها في جملة جواريه. فلما رزق بابنته عهد إليها في تربيتها وأوصاها بأن تعودها حرية الفكر وحب الفرس، فبذلت جهدها في ذلك. وكان الرشيد مولعا بحفيدته هذه وهو الذي سماها زينب وكناها أم حبيبة، وكثيرا ما كان يستقدمها إليه في ساعات الفراغ ويداعبها ويهديها العقود والأساور، فكانت تشهد مجالسه الخاصة مع امرأته زبيدة، وهي كثيرة المفاخرة بنسبها الهاشمي، فكانت زينب تسمع ما يدور بينهما من إعظام بني هاشم فيغرس ذلك في ذهنها عفوا، فنشأت شديدة التعصب لهم رغم ما كانت دنانير تحاوله على خلاف ذلك. على أن زينب كانت تحب مربيتها وتحترمها وترتاح إلى حديثها، ولم تكن تكتمها أمرا يخالج ضميرها.
زينب ودنانير
كانت زينب سريعة النمو جسما وعقلا، يحسبها الناظر إليها تناهز السادسة عشرة وهي لم تدرك الثانية عشرة. وكانت صبيحة الوجه سوداء العينين براقتهما، صغيرة الأنف غائرة الشفتين بارزة الذقن، يدل مبسمها على الثبات ورباطة الجأش وقوة العزيمة، وعيناها تدلان على الذكاء وسرعة الخاطر. وكانت دنانير قد ربتها على سذاجة المعيشة، ونزهتها عما كانت الرغبة منصرفة إليه يومئذ من التبرج والبذخ؛ فكانت تقضي النهار وليس عليها من الثياب إلا رداء ساذج وقد ضفرت شعرها ضفيرة واحدة ترسلها على ظهرها.
أما دنانير فنشأت في منزل يحيى بن خالد البرمكي، وكانت صفراء صادقة الملاحة، أصلها لرجل من أهل البصرة خرجها وأدبها ورواها الشعر، ثم اتصلت بيحيى البرمكي وهي فتاة فربيت في منزله. وهي غير دنانير المغنية التي اشتهرت بالغناء وحفظ الشعر. أما هذه فكانت ميالة إلى المسائل العقلية. وكان مجلس يحيى لا يخلو من بحث أو مناظرة في علم أو أدب، وكذلك كان سائر البرامكة؛ فإنهم أول من نشط العلم في العصر العباسي. ولما هم يحيى بترجمة المجسطي إلى العربية استقدم المترجمين إليه، وكانت دنانير تسترق الاجتماع بهم، وكثيرا ما كانوا يرونها مصغية لتستمع ما يتذاكرون فيه من المسائل الفلكية وأحكام النجوم في أثناء الترجمة، ورفيقاتها الجواري يضحكن منها ويعيرنها برغبتها في علوم هي من قبيل الرموز الغامضة التي لا يقدم على حلها إلا قهارمة العلم من أهل الذمة. وكانت المسائل الفلسفية حديثة العهد يومئذ في العربية؛ إذ لم يكن قد ترجم منها غير علم النجوم وبعض كتب الطب في زمن المنصور والمهدي والرشيد. على أنها كانت تلم بتلك المسائل قبل نقلها إلى العربية مما يدور بين جلساء يحيى، واشتهرت بين جواري البرامكة بحب العلم والتعقل؛ ولذلك لما صار المأمون في حجر جعفر وعهد في تربيته إليها، كانت وهي تلاعبه في الحديقة تحمل معها قرطاسا أو ورقا عليه رسوم فلكية أو مسائل طبية تراجعها، وأول ما فتح عينيه وصار في سن الاستغراب والاستفهام لم يكن يسألها عن شيء إلا فسرته له بتعقل. ثم أخذت في تلقينه المسائل على قدر ما يتحمله سنه. لم تكن تفعل ذلك رغبة في تعليمه، بل تلذذا بالعلم؛ فإن محب العلم يلتذ بإلقاء الحقائق كما يلتذ بتلقيها.
ولما ترعرع المأمون وآن تسليمه إلى المعلمين، كان قد تولد فيه الميل إلى البحث عن الأسباب والتماس البرهان على كل شيء؛ فجره ذلك إلى الاعتزال والتشيع والرغبة في العلم والفلسفة حتى كان ما كان من نقله كتب الأقدمين على ما هو مشهور.
ونشأ المأمون على احترام دنانير احترام الولد لأمه، وكثيرا ما كان يجالسها في ساعات الفراغ ويباحثها في بعض المسائل ويسر من تعقلها؛ فلما رزق بابنته زينب سلمها إليها وهو على ثقة من أنها تربيها كما يحب. وكانت زينب كثيرة الشبه بأبيها من حيث الرغبة في البحث واستطلاع الأسباب؛ فلم تكن دنانير تدخر وسعا في ترقية مداركها، فشبت وهي تدعوها أمها، نظرا إلى أن أمها كانت متوفاة. وربما أحبتها أكثر من حبها لأبيها لاشتغال المأمون عنها بأموره. على أن الآباء قلما كانوا يعاشرون أبناءهم وإنما يعهدون في تربيتهم إلى الجواري، فربيت زينب تربية فلسفية ونشأت لا تبالي إلا بحقائق الأمور، وطرحت ما كان يتسابق إليه أترابها من اللعب والقصف. وبلاط الخلفاء مسرح واسع لأسباب اللهو يومئذ حتى في القصر المأموني نفسه؛ فقد كان فيه كثير من وسائل اللعب يتمتع بها الجواري والخدم، وزينب لا تميل إلى ذلك ولا تخالط من الخدم غير مربيتها؛ فكانت ألزم لها من ظلها تصاحبها حيثما توجهت؛ فتخرج معها إلى الحديقة لقطف الأزهار، وتعرج إلى بيوت السباع لتشاهدها في أقفاصها والسباعون يقدمون لها الطعام من قطع اللحم الكبيرة. فإذا أعوزها اللهو تشاغلت بالشطرنج، وكانت هذه اللعبة حديثة العهد في بلاط الخلفاء؛ لأن الرشيد أول من لعبها منهم، وكانت دنانير تجيد اللعب بها وربما شغلت بها زينب أحيانا، أو خرجت بها إلى الباب الغربي عند المسناة لتجلسا في روشن أو شرفة تتفرجان من بين الستور على السفن المارة في دجلة. وكثيرا ما يكون الجلوس هناك مطربا لكثرة من يمر من أهل القصف والطرب ومعهم المغنون والعوادون.
فاتفق في اليوم الذي بدأنا فيه روايتنا أن كانت زينب جالسة مع مربيتها في شرفة فوق المسناة تطل على دجلة، وعليها رداء وردي اللون، وفي عنقها عقد من اللؤلؤ أهداه إليها جدها الرشيد قبل سفره. ودار بينهما الحديث في مسألة تتعلق بالطوالع والأبراج، وأشكل فهمها حتى على دنانير فقالت: «إن هذه المسألة من المسائل العويصة، فمتى جاء طبيبنا سألناه عنها.»
فقالت زينب: «وهل يفهم الأطباء النجوم؟»
قالت: «يغلب في الطبيب أن يعرف كل علم، ولا سيما أطباء الفرس، وطبيبنا على الأخص؛ فإنه من نوابغ الفلاسفة وقهارمة الأطباء، و... و...»
فضحكت زينب ملء فيها ضحكة فتاة لا تعرف من الدنيا غير أسباب المسرات، وقالت والاستغراب باد في عينيها: «إذن هو أعلم منك؟» قالت ذلك لاعتقادها أن مربيتها أعلم أهل الأرض. وذلك شأن الناس فيمن يشبون في حجره أو يتلقون العلم عنه؛ فالأولاد يعتقدون الكمال في آبائهم أو مربيتهم، ويتوهمون أن معلميهم من كبار الفلاسفة ولو كانوا أجهل من قاضي جبل. فيروون عنهم ويستشهدون بأقوالهم ويعظمون من أمرهم، فإذا كان المعلم صغير العقل صدق تلميذه وظن في نفسه التفوق على العلماء والحكماء، وقد يكون علمه محصورا في مبادئ الصرف والنحو فيتوهم أنه لا يشق له غبار فيزداد غرورا.
وكانت دنانير تعلم حقيقة منزلتها، فلما سمعت زينب تطري علمها ابتسمت وقالت: «إني يا سيدتي لا أعرف شيئا، وإنما التقطت بعض المسائل من أفواه العلماء. وأما هذا الطبيب فقد تفقه في الطب والفلسفة في مدرسة «جندي سابور» المشهورة التي تخرج فيها ابن بختيشوع طبيب أمير المؤمنين. ولكنه أعلم منه بأمور كثيرة، ولا سيما بالكيمياء والنجامة، ولولا ذلك لم يهتم الفضل بن سهل بأمره حتى وصى مولاي المأمون به.»
فقطعت زينب كلامها وقالت: «الفضل بن سهل أوصى به؟ ومتى كان ذلك؟ أليس الفضل مع أبي الآن في خراسان.»
قالت: «بلى، هما معا هناك، ولكن هذا الطبيب جاءنا منذ بضع سنين بتوصية من الفضل بن سهل ذكر فيها أنه نابغة خراسان في الطب والعلم، حتى إنك لترين ذلك ظاهرا في وجهه.»
فقالت: «فلماذا لا يقيم عندنا دائما؟ هل منعه أبي من ذلك؟»
قالت: «كلا، ولكنه اعتذر لمولاي المأمون يوم مجيئه من أنه لا يستطيع الإقامة عندنا لأسباب ذكرها له.»
فقالت: «وأين يقيم إذن؟»
قالت: «بلغني أنه يقيم بالمدائن كأنه استأنس بجوار إيوان كسرى أعظم ملوك الفرس وأعدلهم. وطبيبنا فارسي ...»
قالت: «عرفت أنه فارسي من كلامه؛ فإنه لا يحسن النطق بالعربية حتى الآن، ولو أقام هنا لاعتاد النطق بمخالطة البغداديين.»
قالت: «والمدائن قريبة منا؛ فهي على بضع ساعات من هنا جنوبا.»
قالت: «وقد كان ينبغي له أن يسكن هنا بعد ذهاب أبي وانتقالنا إلى هذا القصر البعيد عن المدينة لنتقوى به؛ لأنه من الجبابرة كما يظهر من كبر هامته. ومع كثرة ترداده علينا لا أزال إلى اليوم أتهيبه لما يقبض على يدي ليجس نبضي.»
قالت: «صدقت، إنه طويل القامة ولباسه المستطيل يزيده طولا، على أنه لطيف اللسان حسن الأسلوب قريب من القلب. ولكنه يغيب عنا أحيانا بضعة أيام متوالية، ربما احتجنا إليه في أثنائها فلا نجده، والأطباء كثيرون ولكنني شديدة الثقة بعلمه.»
فقطعت زينب كلامها ووضعت يدها على كتفيها تدل بمحبتها وقالت: «قولي له أن يسكن في أحد القصور هنا.»
قالت: «سأطلب منه ذلك وعسى أن يجيب طلبي. إني أرى سفينة صاعدة من الجنوب لعله قادم فيها.»
وكانت زينب في أثناء الحديث تنظر إلى مجرى دجلة وعيناها تتأملان ما على الشاطئ الآخر من النخيل القائم كالأصنام الهائلة، يتراءى من خلالها في عرض الأفق بر فسيح تغشاه الأشجار والأعشاب، تتخللها أبنية متفرقة كأنها أحجار كريمة نثرت على ديباجة خضراء، وكانت الشمس قد مالت إلى الأصيل فوقعت ظلال النخيل على الماء واستطالت وتراءت في قاع النهر معكوسة كأنها نبتت جذورها عند الشاطئ وسعفها غائصة في الماء، وجذوعها بين ذلك تتموج بتموج سطح الماء وتظهر متعرجة كأنها مؤلفة من قطع مرصوصة بعضها فوق بعض على غير انتظام، فيتوهم من يرى تموجها أن الحياة قد دبت فيها فتلوت كالأفاعي تحاول الإفلات ممن قبض على أذنابها، أو أنها على وشك أن تتملص جذورها من الشاطئ لتنساب في الماء.
كانت زينب لاهية بهذا المنظر أثناء الحديث، فلما لفتت دنانير انتباهها إلى السفينة التفتت وقالت: «وهل يأتينا الطبيب في الماء أم في البر؟ إني أعهده يجيئنا على فرس.»
قالت: «من هنا إلى المدائن طريقان أحدهما في البر والآخر على الماء.»
وكانتا تتكلمان وهما تنظران إلى السفينة من خلال الستر فلم تعرفا من فيها. ثم توارت أثناء مجراها ببعض تعرجات النهر فاشتغلتا عنها قليلا. ثم ملت زينب الجلوس وهمت بالنهوض فإذا بها تسمع صوت ارتطام الماء على مقربة من القصر يتخلله نقر الهواء على الشراع فالتفتت فرأت قاربا صاعدا بجانب المسناة وفيه نوتيان قد أخذا في حل الشراع، وفي صدر القارب امرأتان التفت إحداهما برداء قديم قد غير الزمان لونه، وسترت رأسها بخمار، وظهر محياها وعليه ملامح الشيخوخة. والثانية عليها ثوب أسود فوقه خمار في لونه قد تلثمت به حتى لا يظهر من وجهها إلا العينان. وبعد هنيهة شد النوتيان القارب بحلقة من حلقات المسناة وألقيا خشبة بينها وبين القارب، ونهضت المرأتان ومشتا وهما تتساندان حتى عبرتا إلى المسناة ووقفتا في أسفل السلم، والعجوز تنظر إلى القصر وتجيل بصرها فيه كأنها تبحث عمن تريد أن تكلمه، فقال لها أحد النوتيين: «هذا هو القصر المأموني يا خالة.»
فنهضت دنانير لساعتها وتقدمت حتى وقفت بالباب وأطلت على القارب وتفرست في المرأتين وظلت زينب جالسة تنتظر ما يبدو منها، فما لبثت أن رأتها انحدرت على السلم مسرعة حتى دنت من العجوز واستقبلتها بين ذراعيها وأكبت على يدها وقبلتها بلهفة، ثم أعانتها على الصعود والفتاة في أثرهما. وكانت زينب تتوقع كلمة تسمعها من دنانير فتعرف القادمتين فلم تسمع شيئا، فظلت صامتة حتى أقبلت والعجوز تمشي معها تتوكأ على عكازها، ولما دنت منها تطاولت دنانير بعنقها وقالت بصوت ضعيف: «هلمي بنا يا مولاتي.»
فنهضت زينب ودخلن جميعا في دهليز بين الباب الغربي والقصر حتى وصلن إلى قاعة أمرت الجواري بالخروج منها، وأشارت إلى العجوز ورفيقتها بالدخول فدخلتا، وأجلستهما على طنفسة هناك، بينما جلست زينب على وسادة وأخذت تنظر إليهما وتتفرس فيهما وقد أزاحتا الخمار فظهر شعر العجوز وقد اشتعل شيبا، أما الفتاة فبان محياها فإذا هي في إبان الشباب كأنها ملاك في صورة إنسان، وكانت رشيقة القوام جميلة الطلعة قمحية اللون متناسبة الملامح تدل خلقتها على كرم المحتد والوجاهة، ويشف لباسها عن سذاجة وفقر زادا جمالها وضوحا، رغم ما يتجلى في وجهها من الكآبة والحزن ورغم ثوبها الأسود وما يتلألأ في عينيها من الدمع. وكانت في دخولها تمشي مطرقة كأنها تحاول كتمان ما في نفسها، فلما جلست رفعت عينيها وفيهما دعج وسحر فوقع بصرها على زينب، وكانت هذه تتفرس فيها متلهفة، فلما التقى بصراهما أحست زينب بجاذب إليها لم تعهد مثله في أحد تعرفه مع أنها فتاة مثلها، وشعرت بميل إليها وانعطاف، وظنت أنها قد تكون رأتها من قبل.
أما العجوز فكانت مع ما يبدو عليها من مظاهر الذل والحزن، ينم محياها عن الأنفة والعز. فلما استقر بهما الجلوس التفتت دنانير إلى زينب وقالت وهي تشير إلى العجوز: «ألم تعرفيها يا مولاتي؟»
فأجابت الفتاة بعينيها وشفتيها أن لا.
فقالت دنانير وهي تهز رأسها متحسرة: «إنها مولاتي أم جعفر.»
فتبادر إلى ذهن الفتاة لأول وهلة أنها تعني زبيدة زوج الرشيد؛ فدهشت لما تعهده في زبيدة من شباب باق وهي ترى بين يديها عجوزا طاعنة في السن فضلا عن فارق الملامح؛ فأدركت دنانير سبب دهشتها فقالت: «إنما أعني مولاتي أم جعفر الوزير، وهي عبادة بنت محمد بن الحسين بن قحطبة.»
وكانت زينب قد علمت أن جدها الرشيد اغتال وزيره جعفرا هذا وأباح منازله، ولم تسمع بأمه فكانت تحسبها ماتت. وغلبت العصبية الهاشمية على زينب فانقبضت نفسها وتراجعت، فابتدرتها دنانير قائلة: «إن لأم جعفر دالة على سيدي المأمون؛ لأنه ربي في حجرها، وكانت تخدمه وتحبه، وهو يحترمها، وكثيرا ما كان يذكرها بعد نكبة ابنها ويود أن يراها ليكرمها. ولو علم بوجودها على قيد الحياة لاستقدمها إليه وأكرم وفادتها وعزاها على ثكلها.»
وكانت أم جعفر في أثناء ذلك تمسح دموعها وتتجلد حتى تخفي بكاءها. أما زينب فلما سمعت قول مربيتها وشاهدت بكاء تلك العجوز رق قلبها وكادت تشاركها في البكاء لولا رباطة جأشها وما سبق إلى فؤادها من كره البرامكة. وكانت دنانير تعلم ما في نفس زينب، فأحبت أن تبالغ في استعطافها فقالت: «حتى أمير المؤمنين الرشيد، مع ما تعلمينه من أمره مع ابنها، يحترمها ويعلي قدرها لأنها أرضعته وربته بعد أن ماتت أمه وهو في المهد. وكان يشاورها ويكرمها ويتبرك برأيها، وطالما سمعته يناديها يا أم الرشيد!»
فلما سمعت الفتاة ذلك قالت: «هي إذن جدتي؟»
فقطعت عبادة كلامها قائلة: «بل أنا أمتك يا سيدتي، وإنما أكرمني أمير المؤمنين بذلك تفضلا منه. ولم يصبنا ما أصابنا بعدئذ إلا بتقدير العزيز الحكيم.» قالت ذلك وشرقت بدموعها.
فرق قلب زينب لحالها وقالت: «مسكينة يا أم جعفر! لماذا لم يرع جدي زمامك ويعف عن ابنك؟»
فقالت: «إن مولانا الرشيد فعل ما فعله بوشاية الأعداء؛ لأن بعض الحساد وشى بولدي وحسن له قتله، والرشيد حفظه الله إذا عزم على أمر بادر إلى إنفاذه لا يسمع فيه رجاء ولا استرحاما. ولكن كل ما يفعله أمير المؤمنين مقبول مطاع.» ثم التفتت إلى دنانير وقالت: «وقد تمكن الأعداء من إغراء الرشيد بزوجي يحيى وبابني الفضل فأخذهما وحبسهما، فشفعت إليه بحرمة اللبن أن يعفو عنهما ويأمر بإطلاقهما أو تسريح أحدهما فلم يفعل.»
فقالت دنانير: «وماذا فعلت؟» •••
مدت أم جعفر يدها إلى جيبها وأخرجت حقا من زمردة واحدة خضراء ونظرت إلى دنانير وقالت وهي تفتح الحق بمفتاح من الذهب: «قد تشفعت إليه بما في هذا الحق من آثاره.» وأخرجت من الحق خصلة شعر وبضع أسنان، ففاحت رائحة المسك حتى تضوعت القاعة، وقالت: «تشفعت إليه بهذا الشعر لأنه شعره، وبهذه الأسنان فإنها ثناياه. وقد حفظتهما منذ طفولته، ولكنه لم يقبل شفاعتي.»
فقالت دنانير: «وكيف ذلك يا مولاتي؟»
فبدا الاهتمام في وجه أم جعفر وعادت إليها أنفتها واعتدلت في مقعدها وقالت: «لما علمت بما أصاب ولدي جعفرا - وا حسرتاه عليه! - وأن الرشيد قبض على يحيى، قلت في نفسي لأذهبن إلى الرشيد أستعطفه ليعفو عن زوجي، لعلمي بما كان من إكرامه إياي وأنه كان لا يرد لي شفاعة في أحد؛ فكم أسير فككت وكم مستغلق فتحت وكم ...» قالت ذلك وغصت بريقها، ولكنها تجلدت وأتمت الحديث فقالت: «ذهبت إلى الرشيد وكنت أدخل عليه بلا إذن فاستأذنت فلم يأذن لي، وفشلت محاولاتي العديدة للمثول بين يديه، فلما يئست ذهبت إلى بابه ماشية حافية كاشفة عن وجهي، فلما رآني الحاجب على تلك الحال دخل عليه وقال له: «إن مرضع أمير المؤمنين بالباب في حالة تقلب شماتة الحاسد إلى شفقة.» ووصف له حالتي، فسمعته يقول له: «ويحك أجاءت ماشية؟» قال: «نعم يا أمير المؤمنين، وحافية.» فصاح فيه: «أدخلها؛ فرب كبد غذتها، وكربة فرجتها، وعورة سترتها.»
فلما سمعت قوله استبشرت بنيل مرادي، فعاد الحاجب وأشار إلي فدخلت، فقام الرشيد وتلقاني محتفيا بي، وأكب على تقبيل رأسي ثم أجلسني معه فقلت: «أيعدو علينا الزمان، ويجفونا خوفا منك الأعوان، ويحرضك علينا أبناء البهتان، وقد ربيتك في حجري، وأخذت برضاعتك الأمان من عدوي ودهري؟»
فقال لي: «وما ذلك يا أم الرشيد؟»
قلت: «جئتك في أمر يحيى ولا أصفه بأكثر مما علم أمير المؤمنين من نصيحته وإشفاقه وتعرضه للتلف في شأن موسى الهادي.»
فقطب الرشيد حاجبيه وقال: «يا أم الرشيد، ذلك أمر سبق، وقضاء حم، وغضب من الله نفذ.»
فقلت: «يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب».
قال: «صدقت، ولكن هذا مما لم يمحه الله.»
فقلت: «الغيب محجوب عن النبيين فكيف، عنك يا أمير المؤمنين؟»
فأطرق مليا ثم قال:
وإذا المنية أنشبت أظفارها
ألفيت كل تميمة لا تنفع
فقلت على الفور: ما أنا ليحيى بتميمة يا أمير المؤمنين، وقد قيل:
وإذا افتقرت إلى ذخائر لم تجد
ذخرا يكون كصالح الأعمال
هذا بعد قول الله عز وجل:
والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين .
فتشاغل هنيهة بقضيب كان بيده ثم قال: يا أم الرشيد،
إذا صرفت نفسي عن الشيء لم تكد
إليه بوجه آخر الدهر تقبل
فلما رأيته مصرا على عزمه قلت:
ستقطع في الدنيا إذا ما قطعتني
يمينك، فانظر أي كف تبدل؟
فقال لي: «رضيت.»
فقلت: «هبه لي يا أمير المؤمنين؛ فقد قيل من ترك شيئا لله لم يفقده.»
فأطرق مليا ثم رفع رأسه وهو يقول: «لله الأمر من قبل ومن بعد».
قلت: «ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم ... واذكر يا مولاي أليتك ما استشفعت إلا شفعتني.»
فقال: «اذكري يا أم الرشيد أليتك ألا شفعت لمقترف ذنبا.»
فلما رأيته صرح بمنعي، ولاذ عن مطلبي، أخرجت هذا الحق من جيبي وفتحت قفله وأخرجت هذه الذوائب وهذه الثنايا وقلت: «يا أمير المؤمنين، أستشفع إليك وأستعين بالله عليك وبما صار معي من كريم جسدك وطيب جوارحك ليحيى عبدك.»
فأخذ الحق مني ولثمه، واستعبر وبكى بكاء شديدا، وبكى أهل المجلس؛ فما شككت أنه مجيبي، ولكنه لما أفاق ألقى الحق وما فيه إلي وقال: «لحسن ما حفظت الوديعة.»
فقلت: «وأهل للمكافأة أنت يا أمير المؤمنين.»
فسكت وأقفل الحق ودفعه إلي وقال:
إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها .
قلت:
وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل . ويقول:
وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم .
فنظر إلي فعلمت من عينيه أنه يستفهمني عن مرادي، وكنت قد تعودت فهم مراده من النظر في عينيه، فقلت: «أما أقسمت لي ألا تحجبني ولا تمتهنني؟»
فلما تذكر عهده قال: «أحب يا أم الرشيد أن تشتريه محكمة فيه.»
فقلت: «أنصف يا أمير المؤمنين، وقد فعلت غير مستقيلة ولا راجعة عنك.»
قال: «بكم تشترينه؟»
قلت: «برضاك عمن لم يسخطك.»
فظهر الملل في وجهه وقال: «يا أم الرشيد، أما لي من الحق مثل الذي لهم؟»
قلت: «بلى يا أمير المؤمنين، أنت أعز علي وهم أحب إلي.»
قال وهو يتزحزح من مقعده: «فتحكمي في غير هذا.»
فلما تحققت أنه غير مجيبي نهضت وأنا أقول له: «قد وهبته وجعلتك في حل منه.» وخرجت ونسيت مصيبتي وجففت دمعتي، وأنت ترين دمعي الآن وكيف أني أكاد أختنق به ، أما في ذلك اليوم فلم تسقط لي دمعة.»
ولما فرغت أم جعفر من حديثها أقفلت الحق على ما فيه وجعلته في جيبها وقالت: «لم يبق لي مأرب الآن في الرجاء؛ فإن الذي كنت ألتمس رضى الرشيد عنه ارتاح من شقاء هذه الحياة فمات في حبسه، ومات بعده ابني الفضل بالأمس في سجنه بالرقة.» وصمتت هنيهة وهي تمسح عينيها، وأطرقت ثم قالت: «ولكن موته لا بد أن يعقبه أمر عظيم؛ لأني كثيرا ما كنت أسمعه يقول: «إن أمري قريب من أمر الرشيد.» ولكنني أطلب من الله أن يطيل عمر أمير المؤمنين.»
فخفق قلب زينب خوفا على جدها، ولكنها استحسنت استدراك أم جعفر بالدعاء له بطول البقاء، وعادت إلى التفكير في غرابة حديثها. •••
كانت عبادة أم جعفر تقص حكايتها بلهفة وفصاحة، وأم حبيبة مقبلة عليها بكل جوارحها وعيناها شاخصتان تراعي حركات شفتيها، وغلب عليها التأثر غير مرة وأحست كأنها تجهش بالبكاء. ولما أتت أم جعفر على آخر الحديث انقلب إشفاقها إلى إعجاب وإكبار، لما عاينته من أنفتها وعزة نفسها. وأحست بانعطاف إليها وشاركتها تألمها بما أصابها من الثكل والفشل، وإن كان مثلها لا يدرك كنه المصائب، ولكنها كانت كبيرة العقل والقلب تفهم وتحس أكثر مما تقتضيه سنها.
وكانت قد نسيت لهفتها لمعرفة رفيقة أم جعفر لاشتغالها بسماع الحديث، فلما انتهى أجالت نظرها في الفتاة وجعلت تتفرس فيها والحشمة تمنعها من الاستفهام، فأدركت دنانير ذلك وهي أشد لهفة منها لاستطلاع أمرها، وكانت أثناء الحديث تسترق اللحظ إلى الفتاة لعلها تستطلع شيئا من أمرها فلم تستطع، فصبرت نفسها إلى آخر الحديث. وكانت الشمس قد مالت إلى المغيب فأمرت الخدم أن يضيئوا الشموع القائمة على المنابر في جوانب القاعة، وهي شموع ضخمة كانوا يتأنقون في اصطناعها ويمزجونها بالعود، فإذا أضيئت فاحت رائحة العود وتضوع المكان بها. وعادت دنانير إلى التفكير في الغرض الذي جاءت أم جعفر لأجله ذلك اليوم بعد طول احتجابها، فأرادت أن تسوقها إلى التصريح بذلك عفوا فقالت لها: «إن حكايتك يا مولاتي غريبة، وأغرب منها احتجابك عنا كل هذه السنين والناس لا يعرفون مقرك؛ فأين كنت تقيمين؟»
فتنهدت وقالت: «كنت محتجبة لأن مثلي خليقة أن تدفن نفسها حية، ويا ليتني مت منذ عشر سنوات ولم أكابد ما كابدته من مرارة القهر والذل، أنت تعلمين يا دنانير حالي في بيت جعفر.» وغصت بريقها وأطرقت، فتناولت دنانير الحديث نيابة عنها وقالت لزينب: «نعم يا سيدتي، إني أعلم الناس بما كانت عليه في أيام عزها، وأذكر في عيد النحر من بعض السنين أن مولاتي عبادة هذه كانت في بيت ابنها الوزير وعلى رأسها 400 جارية!»
فقطعت عبادة كلامها قائلة: «وكنت مع ذلك أعد ولدي عاقا، وقد مرت علي في محنتي هذه أيام لا أجد جلدي شاتين أفترش واحدا وألتحف الآخر، على أني لم أكترث لهذا كله اكتراثي للأمر الذي جئتكم لأجله الليلة، وأظنني ثقلت على مولاتي أم حبيبة.»
وكانت زينب قد أحبت عبادة واحترمتها، ونسيت ما يكسوها من الأثواب البالية - على عادة الناس في الحكم على جلسائهم لأول وهلة، فإنهم يقدرونهم أولا بما يظهر من لباسهم وحلاهم، فإذا اختبروهم قدروهم بمواهبهم وقواهم - فخاطبتها باحترام وقالت لها: «معاذ الله يا سيدتي، فإنك تنزلين عندنا على الرحب والسعة ولك كل ما تحتاجين إليه.» ثم التفتت إلى دنانير وقالت: «أعطيها كل ما تحتاج إليه!»
فوقفت عبادة وقبلت رأس زينب وقالت: «شكرا لك على إحسانك يا سيدتي، ولكن الأمر الذي جئت به إليك أهم عندي مما تفضلت به وإن كنت لا أستحق هذا ولا ذاك.» فبادرت إليها دنانير قائلة: «قولي فإن لك كل ما تريدين، هذا ما أمرت به مولاتنا حفظها الله.»
قالت: «سألتني يا دنانير عن احتجابي كل هذه السنين عن بغداد ... كيف أقيم في مدينة أرى فيها جثة ولدي معلقة على جسورها وقد شطروا الجثة شطرين، صلبوا شطرا على أحد الجسور والشطر الآخر على الجسر الثاني وعلقوا الرأس على الجسر الثالث ليراها المارة صباح مساء، ألم تبق جثة جعفر معلقة على هذه الجسور سنتين وبعض السنة حتى عاد الرشيد من الري سنة 189ه فأمر بإحراقها؟ وكأنه شعر بفظاعة الأمر فهجر بغداد من يومه وسكن الرقة وما زال فيها حتى خرج هذا العام إلى خراسان، وهبي أني رضيت المقام، فعيون الرقباء ساهرة وأمر الخليفة مشدد بالنقمة على كل من يذكر البرامكة بخير، فكيف لو عرفوا بوجودي، ألا يسرعون إلى تقطيعي إربا إربا. وما أنا بخائفة من الموت فإنه أيسر ما أقاسيه، ولكنني رغبت في الحياة من أجل هذه الفتاة.» وأشارت إلى رفيقتها وتحولت الأنظار إليها.
فخجلت الفتاة وتوردت وجنتاها وتلألأت عيناها الدعجاوان وظهر فيهما الدمع وأطرقت، فاغتنمت دنانير هذه الفرصة وقالت: «كنت منذ دخولك علينا أفكر في هذه الفتاة الجميلة وأتفرس فيها فلم أعرفها.»
قالت: «إنها بنت الشقاء ونتاج المصائب، وليس في بغداد من يعرف حقيقتها غيري، وقد كتمت أمرها عن كل إنسان خوفا على حياتها، وإنما أردت البقاء على قيد الحياة لأجلها. وهذه أول مرة أبوح باسمها فهل أقول ذلك وعلي الأمان؟»
فقالت دنانير: «لم يبق داع للحذر بعد ما شاهدته من انعطاف سيدتي الحبيبة إليك، ومن ذا يسمع حديثك ولا يشعر بشعورك؟ قولي لا تخافي واطلبي ما تحتاجين إليه فإنك نائلة ما تريدين.»
فتنهدت وهي تصلح نقابها على رأسها وقالت: «إن هذه الفتاة ربيبة التعاسة، إنها بنت الوزير المقتول ... ابني جعفر.»
فبغتت دنانير وأعادت نظرها إلى الفتاة لعلها تتذكرها، ثم قالت: «لا أذكر أني أعرفها.»
فقالت: «نعم، إنك لا تعرفينها؛ لأنها ولدت بعد خروجك من بيتنا إلى بيت مولانا المأمون. وكان هذا من حسن حظك؛ لأن البيت الذي كان مقصد السائلين ومقر الوافدين وملاذ الخائفين أصبح بلاء على أهله؛ فغدا ذكرهم تعسا على الأقرباء والمريدين.» وغلب عليها البكاء فسكتت ريثما تسترجع رشدها، ثم قالت: «إن حفيدتي هذه ولدت بعد خروجك، ولما نكب أبوها كانت لا تزال صغيرة، واتفق أنها كانت قد خرجت ذلك اليوم مع إحدى الجواري إلى بعض ضياعنا في ضواحي بغداد، فلما صادر الرشيد ضياعنا فرت بها جاريتها إلى قرية بعيدة عن أعين الرقباء، وظلت هناك حتى علمت بأمرها فاحتضنتها وخرجت بها هائمة على وجهي بعيدا عن بغداد، وأقمنا بالمدائن عند جماعة لا يعرفوننا وإنما آوونا إكراما لوجه الله؛ فقضيت هناك عدة أعوام في مأمن من وشاية الواشين. وسخر لنا الله رجلا لا نعرفه، فكان أحن علينا من الوالد وأشفق من الأخ، وكان يقيم ببيت مجاور لمنزلنا في المدائن. وهو غريب لا نعرف أصله ولا فصله، ولكن العناية ساقته إلينا من حيث لا ندري، فكان يتردد علينا ينظر حوائجنا ويأتينا بما نحتاج إليه عفوا لا يلتمس على ذلك أجرا ولا شكورا. وقضى هذه الأعوام في إعالتنا ونحن لا نعرف من هو؛ فخيل إلينا أنه رسول من السماء بعثه الله رحمة منه بنا.»
وكانت دنانير في أثناء الحديث ترمي ببصرها إلى الفتاة إعجابا بجمالها، فلما بلغت جدتها إلى ذكر ذلك الرجل تشاغلت الفتاة بإصلاح خمارها لتخفي ما كاد يبدو في محياها من الاحمرار. ولو انتبهت دنانير إلى تورد وجنتيها لأدركت ما تكنه جوارحها وتحاول إخفاءه، ولكنها كانت في شاغل عنها بغرابة الحديث.
فلما بلغت في حديثها إلى ذكر ذلك الغريب غلب الإعجاب به على دنانير فقالت: «إن الدنيا لا تخلو من المحسنين، وقد سمعنا عن مثل هذه الشمائل في البرامكة ولم نعهد مثلها في سواهم. ألم تعرفي من هو ذلك المحسن؟»
قالت: «لم نعرف من هو، ولكن يظهر أنه فارسي الأصل، وقد جاء المدائن منذ بضعة أعوام وهو يتكتم أمره، فإذا دخل أغلق بابه وقضى يوما أو بضعة أيام لا يراه أحد، حتى كثرت أحاديث الناس بشأنه؛ فمن قائل إنه يشتغل بالكيمياء، وقائل إنه ساحر، وزعم آخرون أنه من كبار أهل الثروة وقد جمع ثروته من كنز عثر عليه في منزله؛ لأنه يقيم ببيت مبني على أنقاض إيوان سابور الذي كان الخليفة المنصور يقيم به قبل بناء بغداد.»
فقالت دنانير: «وما اسمه؟»
قالت: «يسمونه بهزاد الجند يسابوري.»
فتذكرت زينب طبيبهم الخراساني، لأنها تظنه يقيم بالمدائن، فقالت: «لعل طبيبنا يعرفه؛ لأنه يتردد على المدائن، فإذا أتى الليلة سألناه عنه.»
فقالت: «ما أظن أحدا يعرفه، ومهما يكن من أمره فإنه جدير بكل ثناء، فعسى الله أن يقدرنا على مكافأته. ولكن الأقدار لا تصفو لأحد، أو لعلها عملت على مطاردتنا منذ أفل نجمنا، فهي لا تدعنا نتنسم الراحة حتى تخلق لنا بلاء جديدا.»
فقالت دنانير: «وكيف ذلك؟»
قالت: «ما كدنا نظن الناس نسونا وأغفلوا أمرنا حتى رأيناهم عادوا إلى النكاية بنا.»
قالت دنانير: «ومن هؤلاء الذين أرادوا النكاية بكم؟» •••
فالتفتت عبادة إلى حفيدتها ثم حولت وجهها عنها، فاحمر وجه الفتاة. وأدركت دنانير أن الحديث يتعلق بها، وظنت أن أم جعفر تتحاشى التصريح بذلك أمامها، فأحبت أن تشغل الفتاة بشيء يصرف انتباهها عن الحديث فقالت لها: «أظننا أبطأنا عليكما بالعشاء، فهل تأمر مولاتي بأن تتناول الطعام؟»
ففهمت عبادة غرضها من هذه الدعوة فقالت: «إني لا أشعر بالجوع الآن، ولكن أظن أن ميمونة في حاجة إلى الطعام الآن.»
فلم يفت الفتاة الغرض من ذلك وسكتت، فنهضت دنانير وهي تقول لمولاتها أم حبيبة: «هلمي يا مولاتي إلى المائدة مع هذه الضيفة الكريمة.» فأطاعتها كعادتها وخرجت الفتاتان للطعام وقد استأنست ميمونة ببنت المأمون وأحبتها لجمالها وذكائها. وكفى بالإحسان باعثا على المحبة، فقد قيل: «أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم.»
أما دنانير فرافقت الفتاتين إلى حيث أمرت الخدم بإعداد الطعام وعادت إلى عبادة وقد اشتد شوقها لسماع الحديث.
وكانت عبادة جالسة مطرقة، فدخلت دنانير وأغلقت باب القاعة وراءها وجلست إلى أم جعفر تهش لها وترحب بها وقد سرها أن تواسيها وتخدمها قياما بما تشعر به من فضلها عليها، فضلا عما تبعث عليه حالها من الشفقة لما أصابها من الذل بعد ذلك العز. والإقرار بالإحسان فرض يسر أهل الفضل أن يأتوه وأن يكرموا صاحبه إلا طائفة من الناس ساءت سريرتهم وسفلت طباعهم وصغرت نفوسهم؛ فهؤلاء ينكرون فضل الفضلاء وقد تحملهم الكبرياء على إيقاع الأذى بالمحسنين إليهم، ولا سيما الذين ولدوا في الفاقة وخفض العيش ثم ساعدتهم الأقدار على الارتقاء؛ فإن أنفسهم الأمارة بالسوء ربما سولت لهم قتل من يحسن إليهم. أما دنانير فكانت كبيرة النفس صافية السريرة؛ فسرها أن تخدم مولاتها اعترافا بفضلها. فلما خلت إليها تنهدت عبادة تنهدا عميقا، ونظرت إلى دنانير والدمع يتلألأ في عينيها وقالت: «آه يا دنانير! إن النظر إليك يذكرني أيام عزي، وإني لأشكرك على ما لقيته من مواساتك وتلطفك في حين أن أقرب الناس إلينا نسونا أو تناسونا. ولكن ما لنا وذاك، إن الأمر الذي جاء بي إليكم الليلة لجد خطير.»
فقطعت دنانير كلامها ووضعت يدها على كتفيها وهي تنظر إليها مبتسمة وتقول: «قولي ما عندك يا سيدتي، إنك صاحبة الأمر وعلينا الطاعة.»
فتنهدت وقالت: «أنت طبعا تعرفين الفضل بن الربيع.»
فلما سمعت دنانير الاسم أدركت عظم الأمر لعلمها أن هذا الوزير هو الذي عظم ذنب جعفر لدى الرشيد حتى قتله وتولى هو الوزارة مكانه، فقالت: «نعم يا سيدتي أعرفه، فما خطبه بعد الذي أتاه؟»
قالت: «ليس الخطب خطبه الآن، وإنما نشكو من ابنه!»
قالت: «وماذا صنع ابنه؟»
قالت: «لا أدري كيف بلغه خبر ميمونة ولا أعلم أين رآها حتى فتن بجمالها، أو لعله لم يفتن بها وإنما أراد النكاية بنا، فبعث إلي منذ بضعة أسابيع قهرمانة دار أبيه يوسطها في خطبة ميمونة لنفسه، وقد تلطفت القهرمانة في الطلب ووعدتنا خيرا. فماطلته لأني أخاف إذا رفضت طلبه بتاتا أن يؤذينا، فلم يرجع عن طلبه وبالغ في المحاسنة وكرر الوعد بما ينويه لنا من الخير إكراما لميمونة لأنه مفتون بها. وقد أكدت لنا القهرمانة أنه يحب الفتاة حبا مبرحا، وأنه لا يريد لنا إلا السعادة إذا أجبته إلى بغيته. فاعتذرت من الإجابة أعذارا مختلفة، وتقدمت إليها أن تساعدني في دفعه فوعدتني، وظلت أياما لم ترجع إلينا. فظننتها أفلحت واطمأن قلبي، فلما كان مساء الأمس جاءتني بنبأ ذهب بصوابي وقطع حبل رجائي!» قالت ذلك وشرقت بدموعها فسكتت واشتغلت بمسح عينيها.
وكانت دنانير تسمع حديثها وهي تتطاول نحوها بعنقها، فلما رأتها تبكي قالت: «خففي عنك يا سيدتي. وماذا جرى بعد ذلك؟»
قالت: «جاءت القهرمانة هذه المرة تهددني بالسوء إذا لم أجب طلب ابن الفضل، وذكرت لي أنه أوصل أمري إلى علي بن ماهان صاحب الشرطة ووسطه في الخطبة، وأن عليا هذا يلح علي في إجابة الطلب على أن يضمن لي ما أريده من الخير، فإذا لم أفعل كانت العاقبة وخيمة علي وعلى ميمونة. فوعدت القهرمانة بأن أنظر في طلبها وأجيبها. وأنت تعلمين موقفنا من هؤلاء ولا سيما الفضل بن الربيع الذي كان سبب قتل ابني، فكيف أزوج ابنة ابني من ابنه وأنا لا أطيق سماع اسمه؟» قالت ذلك وأطلقت لدموعها العنان، فتفطر لها قلب دنانير وأدركت عظم ما يتهدد أم جعفر وحفيدتها لعلمها أن هؤلاء إذا قالوا فعلوا. فأطرقت وأعملت فكرتها حينا ثم قالت: «لا أنكر على مولاتي ما قالته من كرهها لذلك الرجل وابنه، ولكن ...» ورفعت كتفيها وقلبت شفتيها وسكتت.
فقالت عبادة: «لا أستطيع قبول زواج ابن الفضل بابنة جعفر. وهبي أني قبلت، فهل تظنين ميمونة تقبل وهي تعرف أن الفضل بن الربيع أصل بلائنا ومصدر مصائبنا؟ كلا، هذا لا يكون.»
فقالت دنانير: «إذا كنت مصرة على الرفض فأنا طوع إرادتك، وهذا القصر وأهله في خدمتك، فإذا شئت الإقامة به أقمت على الرحب والسعة. ولا أظن أحدا يجسر على إخراجك منه. وقد أفرحني ما آنسته من ارتياح مولاتي زينب إليك، وأنت تعلمين نفوذها عند أمير المؤمنين الرشيد، فمتى عاد وسطناها لديه وهو لا يرد لها طلبا؛ فانعمي بالا.»
فتنهدت عبادة وسكتت هنيهة ثم قالت: «أخشى يا دنانير أن يكون في إقامتنا هنا بأس على أهل هذا القصر؛ لأن النحس ملازم لنا، فلا أحب أن يلحقكم شيء منه.»
فتأثرت دنانير من قولها وأخذت تخفف عنها.
دنانير وأم جعفر
سمعت دنانير وقع خطوات مسرعة في الدهليز فنهضت إلى الباب وفتحته فرأت أحد الغلمان واقفا بالباب يقول: «جاء الطبيب يا سيدتي.»
فأبرقت أسرتها ولم تتمالك أن قالت: «الطبيب جاء؟ لقد أبطأ، دعه يدخل.» قالت ذلك ورجعت إلى عبادة وهي تبتسم وتقول: «جاء طبيبنا الخراساني الذي ذكرت لك أنه يتردد على المدائن، فعسى أن ينفعنا في معرفة صاحبكم الذي ذكرت أنه واساكم هناك.»
ففرحت عبادة بالبشرى، ولبثت تنتظر مجيء القادم بفارغ الصبر ولم تمض دقائق قليلة حتى سمعتا حركة ووقع أقدام، فرجعت دنانير إلى الباب لتستقبل القادم. فلما رأته مقبلا قالت: «لقد أبطأت علينا أيها الطبيب هذه المرة، جعل الله المانع خيرا.»
وكانت عينا عبادة على الباب وقد أصلحت خمارها، فسمعت الطبيب يقول: «لقد أبطأت عليكم لعذر قاهر، فهل أنتم في حاجة إلي؟» قال ذلك وفي كلامه عجمة، فلما سمعت عبادة صوته خفق قلبها لأنها عرفت فيه صوت جارهم بهزاد. ثم دخل الطبيب، فلما وقعت عيناها عليه تحققت أنه هو بعينه صاحبهم، فقالت: «هذا بهزاد!» أما هو فحالما رآها خلع نعاله وأسرع نحوها فصافحها وتلطف في السلام عليها وقال: «أنت هنا يا خالة؟»
فقالت: «نعم يا سيدي، وقد جئت لزيارة دنانير.» فبغتت دنانير لذلك الاتفاق وقالت: «إذن بهزاد صاحبكم هو طبيبنا؟ ما أجمل هذا الاتفاق. تفضل يا سيدي.» وأشارت إلى كرسي فمشى بهزاد بقدم ثابتة وخطى واسعة حتى جلس عليه، وكان طويل القامة عريض ما بين المنكبين كبير الجمجمة واسع الجبهة أبيض الوجه أسود العينين غائرهما، مع حدة وذكاء، خفيف اللحية صغير الشاربين. وكان في نحو الخامسة والعشرين من عمره، وقد تزمل بعباءة سوداء، وعلى رأسه قلنسوة قصيرة ليس حولها عمامة. وكان لطوله وعرض منكبيه إذا مشى تقلع كأنه ينحط من صبب، وإذا أقبل عليك حسبته من الجبابرة الذين يتحدثون بعظم هاماتهم، ورأيت في عينيه رقة ونفوذا يدلان على قوة الإرادة وصدق الطوية. وكان لا يرى إلا مقطبا والاهتمام باد في محياه، في غير جفاء أو خشونة. ويندر أن يضحك، كما أنه قليل الكلام كثير التفكير، يستأنس به جليسه ولكنه يهابه ويشعر بقوة سلطانه عليه.
فلما جلس ابتدرته دنانير قائلة: «لقد كنا نتحدث عنك ساعة الغروب ثم ذكرناك في عرض حديث جرى لي مع سيدتي أم جعفر. وأنا أحسبك غير بهزاد الذي ذكرته لي؛ لأني لا أعرفك بهذا الاسم. فأحمد الله على أنك أنت صاحب الجميل عليها!»
ولاحت من دنانير التفاتة إلى أم جعفر فرأتها تشير إليها برفع حاجبيها والعض على شفتها ألا تفعل، كأنها تنهاها عن التصريح باسمها.
فأدركت دنانير غرضها. أما بهزاد فإنه تجاهل مرادها وقال: «إن أهل المدائن لا يعرفونني إلا بهذا الاسم؛ لأنهم رأوني فارسي السحنة، فسموني بهزاد. وأما اسمي فهو عبد الله.» ثم حول نظره إلى أم جعفر بانعطاف واحترام وقال: «لا جميل لي يا خالة في شيء فعلته، ولا أعرف أني أتيت شيئا يستحق الثناء.» ثم التفت إلى دنانير وقال: «كيف مولاتنا أم حبيبة؟ عسى أن تكون في خير وعافية!»
قالت: «هي بخير، وتتناول العشاء مع ضيفة لها في غرفة المائدة، وقد كنت عازمة على الذهاب بها إلى الفراش كالعادة.»
فأظهر أنه لم ينتبه لعزمها، وقال وهو يخفي ما يخالج ضميره من الاهتمام ويتشاغل بإصلاح بند سيفه في منطقته: «هل أتى غلامي سلمان؟»
قالت: «كلا يا سيدي، لم أعلم أنه جاء. وهل أنت على موعد معه هنا؟»
قال: «نعم، كنت أتوقع أن يأتي نحو الغروب، وشغلت عن المجيء إليكم حتى الآن وأنا أحسبه في انتظاري هنا.» قال ذلك وهم بالنهوض وهو ينظر إلى الباب كأنه يريد الخروج، فقالت دنانير: «هل تحتاج إلى شيء يا مولاي؟»
قال: «كلا، ولكنني أحب أن أتحقق مجيء سلمان إلى القصر، فقد يكون أتى ودخل بعض غرف الغلمان.»
فمشت دنانير وهي تقول: «أنا أذهب للبحث عنه، تفضل واجلس.» وهمت بالخروج.
لكنها لم تدرك الباب حتى سمعت جلبة وقهقهة في الدهليز فعرفت أن زينب قادمة وهي تقهقه لأمر أضحكها؛ فضحكت دنانير سرورا بها وأطلت على الدهليز وهي تقول: «مولاتي! أنت هنا؟ ألم تذهبي إلى فراشك بعد؟»
ولم تتم كلامها حتى كانت زينب قد لحقت بميمونة فأمسكت بثوبها وراحت تشدها نحو الباب تداعبها، وميمونة تطاوعها إرضاء لها واستئناسا بها. فابتدرتها دنانير قائلة: «ما الذي أضحكك يا حبيبتي؟»
فصاحت الفتاة وهي تلتفت وراءها التفات مذعور مطمئن قائلة: «أضحكني غلام الطبيب، تعالي انظريه.» وأشارت بأصبعها إلى الدهليز، فخرجت دنانير فرأت رجلا في لباس وقيافة لا عهد لسلمان بهما، ثم عرفت أنه هو بعينه، ولكنه قد اتخذ لنفسه عمامة كبيرة، ولحية طويلة قد دب فيها الشيب، وعليه جبة مثل جبة أحبار اليهود؛ فلم تتمالك عن الضحك وقالت له: «ويلك، ماذا أصابك؟»
فانزوى سلمان في بعض منعطفات الدهليز، حيث اختفى لحظة ثم ظهر وقد عاد إلى هيئته العادية، بقبائه وسراويله وطاقيته، وعادت لحيته صغيرة لا شيب فيها؛ فزادها تغيره استغرابا، وذهبت إلى القاعة لتروي للطبيب ما شاهدته وتبشره بقدوم غلامه، فرأته قد خرج ليراه لأنه سمع ما دار بشأنه. ولكنه لم يكد يدرك الباب حتى رأى زينب داخلة تجر ميمونة وراءها وتضحك ولا تعلم أن الطبيب هناك. فلما وقع نظرها عليه تهيبت واستحيت وأطرقت وأسرعت للاستتار وراء ميمونة.
فلما رأى الطبيب استحياءها تبسم واقترب منها وقال: «كيف حالك يا أم حبيبة؟» ومد يده ليتناول يدها فازدادت حياء وتراجعت حتى اختفت وراء ميمونة. أما هذه فلما وقع نظرها على الطبيب بغتت وصبغ الحياء وجهها لسبب غير السبب الذي أخجل زينب، وتلعثم لسانها واصطكت ركبتاها وتحيرت بين الإطراق خجلا وبين أن تحيي ولي نعمتها والمحسن إليها. أما هو فلما رأى دهشتها وارتباكها تجاهل وحياها وتحول إلى زينب يتلطف في تشجيعها لترد عليه السلام.
ولحظت أم جعفر ارتباك حفيدتها فحسبته من لقائها بهزاد على غير انتظار، فإنها لم تكن تعلم ما يضمر قلبها ولم يتفق أن لحظت منها شيئا يدل على أن شعور قلبها نحو بهزاد يجاوز الشعور بفضله عليهما؛ فنهضت واقتربت من ميمونة وقالت: «هذا مولانا وصاحب الفضل علينا، ما بالك لا تسلمين عليه يا لمياء.»
فلما سمعتها دنانير تسمي حفيدتها لمياء، أدركت أنها تريد إخفاء حقيقة حالهما على الطبيب. أما ميمونة فلما سمعت جدتها تدعوها إلى السلام على الطبيب تجلدت ومدت يدها، فتناولها وشعر بارتعاشها وبرودتها، ولم تخف عليه حالها، ولكنه ظل على تجاهله وابتسم لها كعادته ابتسام تلطف وإكرام وقال: «وأنت هنا يا لمياء أيضا؟» وعاد إلى مداعبة زينب.
فأطرقت ميمونة وقد توردت وجنتاها، ولو رفعت بصرها لرأى بريق عينيها وشعر بما ترميه من حاجبيها من السهام. ولكنه تغافل وحول نظره إلى دنانير، فرآها تراقب حركات الفتاة ولم يفتها ما كان يتجلى في وجهها من دلائل الحياء، وأدركت بفراستها وتمرسها بالحياة أن هناك شيئا وراء ذلك، واستغربت ما أبداه الطبيب من الفتور كأنه خالي الذهن مما يجول في خاطرها؛ فتحيرت وتمنت لو تمكنها الفرصة من تحقيق ظنها، فما لبثت أن سمعت الطبيب يقول: «أين سلمان؟ سمعتكم تتحدثون عنه.»
فأشارت دنانير إلى الدهليز وقالت: «إنه هنا. هل أدعوه إليك؟»
قال: «بل أنا ذاهب إليه.» وصاح: «سلمان!» وخرج من القاعة وترك أهلها على ما ذكرناه من الاضطراب والارتباك. فأجابه الغلام: «لبيك يا مولاي، أنت هنا؟»
فقال وهو يحتذي نعاله ويهم بالمسير نحوه: «قد استبطأتك وقلقت لغيابك.» ومشى نحوه وقال لدنانير: «سأعود إليكم بعد قليل.» فعلمت أنه ذاهب إلى المنزل الذي اعتاد الإقامة فيه أو المبيت فيه إذا جاء القصر المأموني، وهو من جملة أبنية القصر الكبير. فظل ماشيا وسلمان يتقدم نحوه حتى التقيا وخرجا من الدهليز إلى البستان ومنه إلى ذلك المنزل. •••
كان الطبيب يمشي مطرقا وسلمان يسير في أثره مهرولا، ولكنه رغم هرولته وطوله لا يستطيع اللحاق به وهو يمشي الهوينى لسعة خطواته. فلما وصلا إلى المنزل تقدم سلمان وفتحه، ثم خلعا حذاءيهما ودخلا، وهم سلمان بسراج على مسرجة فأشعله وأغلق الباب وراءه، ووقف حتى جلس الطبيب على وسادة في صدر الغرفة فوق البساط وأمره بالجلوس بين يديه فجلس منتظرا أمره، فلما استتب بهما الجلوس قال الطبيب: «ما وراءك يا ملفان سعدون؟»
فقال: «وأنت أيضا تدعوني ملفانا؟» وضحك.
فقال: «إنك تبقى ملفانا حتى تنتهي مهمتنا من هذه الديار ونبلغ غايتنا. قل ما وراءك؟»
قال: «جئتك بخبر مهم لم يطلع عليه أحد في هذه المدينة، ولو عرفه أهلها لقاموا وقعدوا وتغيرت أحوالهم، فضحك قوم وبكى آخرون.»
فتنحنح الطبيب ونظر إلى سلمان بعينين حادتين، كأنه يخترق أحشاءه ويستطلع خفايا قلبه ، وقال: «هل عندك غير خبر موت الرشيد؟»
فأجفل وقال: «وهل عرفت ذلك؟ يا ألله! كيف عرفته وقد جاء الساعة ولم يعلم به أحد إلا صاحب البريد. ولو لم أشاهد اللوح النحاسي الذي يحمله سعاة البريد معلقا بالشرابة على صدره لما صدقته. فكيف عرفته؟»
قال: «عرفته ولم أر اللوح النحاسي ولا تحققت صدق الساعي. إن الرشيد مات يا سلمان، فهل عرفت خبرا غير هذا؟»
قال: «وهل هناك ما هو أهم من هذا الخبر؟ لقد أذهبت سعيي عبثا وكنت أحسبني جئتك بخبر تغبطني عليه، وأنا إنما عرفته اتفاقا وقد كلفني سبيكة من الذهب! إني لا أزال قليل النفع لك.»
قال الطبيب: «بل أنت كثير النفع لا يستغنى عن ذكائك ونشاطك، ويكفينا أنك تكشف لنا عن أغراض العامة وأقوالهم والعيارين ومقارفتهم.»
فقال: «ليس هذا مما يؤبه له، وأظنك عالما بالغيب فقل ما عندك مما يفوق موت الرشيد خطرا.»
قال: «أخطر منه ما أتاه أصحابه؛ فقد خلعوا المأمون ونكثوا البيعة له بعد أخيه. وسترى عاقبة ذلك عليهم.»
فدهش سلمان وقال: «نكثوا بيعة المأمون؟ يا لهم من قوم خائنين! لكن من فعل هذا أو أشار به؟»
قال: «الفضل بن الربيع.»
فقال سلمان وقد ذعر: «الفضل وزير الرشيد الذي سافر معه في حملته الأخيرة؟»
قال: «نعم، هو بعينه. إن هذا الرجل أقدم على أمر سيودي بهذه الدولة كما فعل بقتل الوزير المظلوم، وكل من الفعلين يسقط دولة، فكيف إذا اجتمعا؟» قال ذلك وقد بدا الغضب في عينيه.
فتهيب سلمان من غضبه وقال: «وكيف كان ذلك يا سيدي؟»
قال الطبيب: «لما سافر الرشيد في هذه الحملة اصطحب ابنه المأمون وأخذ له البيعة من جميع من في معسكره من القواد والأمراء ومن إليهم، وأقر له بجميع ما معه من الأموال وغيرها. وكان ذلك بسعي الفضل بن سهل صاحب الهمة الشماء.»
قال: «نعم يا مولاي إن الفضل بن سهل لجدير بهذا الوصف. ثم ماذا؟»
فقال: «وسار المأمون مع أبيه ليقيم بخراسان. ولا يخفى عليك أن الرشيد بايع بالخلافة بعده لولده الأمين المقيم في بغداد الآن، ثم للمأمون الذي رافقه في هذا السفر، على أن يتولى خراسان أثناء خلافة الأمين، وكان الرشيد مريضا يوم سفره ولكنه أخفى مرضه. وقد روى لي الصباح الطبري - ومكانته من الرشيد ما تعلم - أنه ذهب لوداعه يوم خروجه من بغداد، فقال الرشيد له: «ما أظنك تراني يا صباح أبدا.» فلما أعظم قوله وأنكر عليه ما يخافه، قال: «ما أظنك تدري ما أجد في صحتي.» قال الصباح: «لا والله.» فعند ذلك مال الرشيد إلى ظل شجرة في الطريق وأمر خواصه بالابتعاد. فلما خلا إلى الصباح كشف عن بطنه فإذا عليه عصابة حرير وقال: «هذه علة أكتمها عن الناس كلهم، ولكل واحد من ولدي علي رقيب، فمسرور رقيب المأمون، وجبرائيل بن بختيشوع رقيب الأمين. وما منهم أحد إلا وهو يحصي أنفاسي ويستطيل دهري. وإن أردت أن تعلم ذلك فالساعة أدعو بدابة فيأتوني بدابة عجفاء قطوف لتزيد علتي، فاكتم علي ذلك.» فدعا له الصباح، ثم طلب الرشيد دابة فجاءوا بها كما وصف، فنظر إلى الصباح وركبها وعاد الصباح من وداعه ولم يكتم ذلك عني.»
فاستغرب سلمان اطلاع مولاه على كل هذا وكيف كتمه عنه إلى تلك الساعة، وأحب أن يعرف خبر الفضل بن الربيع فقال: «وماذا فعل ابن الربيع؟»
قال: «سافر الرشيد ومعه الفضل، فأخذ هذا يراسل الأمين مخبرا إياه بكل ما يحدث، فلما كتب إليه بأن الرشيد اشتد مرضه، أعد الأمين كتبا وأمر أن يجعلوها في قوائم صناديق المطبخ المنقورة بعد تغطيتها بجلود البقر، ثم عهد إلى رجل من خاصته اسمه بكر بن معمر في إيصالها إلى أصحابها، وقال له: «احذر أن تطلع أمير المؤمنين أو غيره عليها، بل انتظر حتى تعلم بنبأ موته، ثم ادفع إلى كل إنسان كتابه.»
فلما وصل بكر هذا إلى مدينة طوس، حيث كان الرشيد مريضا، بلغ الرشيد قدومه فدعا به إليه وسأله: «ما جاء بك؟» فقال: «بعثني مولاي الأمين.» فسأله: «هل معك كتاب؟» فقال: «لا.» فلم يصدقه لعلمه بتكتمهم وأنهم شديدو الرغبة في موته؛ فأمر أن يفتشوا ما معه فلم يصيبوا شيئا، فلم يقتنع فأمر بضربه لعله يعترف، فضربوه ضربا مبرحا حتى خاف الموت، فقال للفضل: «عندي أنباء مهمة فاتركوني لأفضي بها إليكم.» ولكن الرشيد أمر بقتله، ثم اتفق لحسن حظ بكر أن أغمي على الرشيد فاشتغل الناس به، وما لبث أن مات فبعث الفضل إلى بكر بمن أخبره بموت الرشيد وسأله عن الكتب التي معه من الأمين فدفعها إليه، وهي كتاب إلى أخيه المأمون يأمره بترك الجزع وأخذ البيعة على الناس لهما، وكان المأمون يومئذ بمرو؛ وكتاب إلى أخيه صالح يأمره بتسيير العسكر، وأن يعمل هو ومن معه برأي الفضل؛ وكتاب إلى الفضل يأمره بالمحافظة على ما معه من الحرم والأموال وغير ذلك، وأقر كل من كان هناك على عمله. فلما قرءوا الكتب تشاوروا مع القواد فيما يفعلون بالعهود التي عليهم للمأمون في بغداد؛ فكان من رأي الفضل أن يلحقوا بالأمين وقال: «لا أترك ملكا حاضرا لآخر ما أدري ما يكون من أمره.» وأمر الناس بالرحيل إلى بغداد، ولن يلبثوا غير أيام حتى يصلوا إلينا وقد خلعوا المأمون وما خلعوه إلا لأن أمه فارسية وهم عصبة يزعمون أنهم ينصرون العرب، وما ينصرون إلا مطامعهم، وسيعلمون ما ينالهم من أخواله.» قال ذلك وقد تعاظم غضبه فازداد سلمان تهيبا من منظره رغم طول صحبته وما ألفه من أحواله، وظل مطرقا لا يجرؤ على النظر إليه مخافة غضبه، ثم أحب أن يكلمه فرآه يتحفز للنهوض ويقول: «لا بأس على ابن أختنا؛ فهو في خراسان بين أخواله، وفيهم الفضل بن سهل.»
ونهض بهزاد فنهض سلمان معه وقال: «ما الذي نفعله الآن يا مولاي؟»
فأطرق وهو يحك جبينه بسبابته وإبهامه ثم قال: «لا بد من ذهابي لأمر خطر لي لا يحسن تأجيله.»
فقال سلمان: «وهل أذهب معك؟»
قال: «كلا، بل أرى الذهاب وحدي لسبب ستعلمه!»
فقال وهو يهز رأسه إعجابا واستغرابا: «لقد أدهشتني بما تكتمه وما تظهره كأنك تستخدم الجان !»
قال: «لم أفعل شيئا غريبا .» وأخذ يصلح قلنسوته ويعدل بند سيفه استعدادا للمسير، فابتدره سلمان قائلا: «إذا كنت لا ترى حاجة إلي فإني أذهب لإتمام مهمتي التي بدأتها في غروب اليوم، ولولا تعجلي لاطلاعي على خبر الرشيد لأتممتها قبل مجيئي ولو علمت أنك تعلم الغيب و...»
فقطع بهزاد كلامه قائلا: «لا دخل للغيب فيما تراه، وستعلم أنه طبيعي، ولكنني تعودت ألا أقول شيئا قبل التثبت منه. وإنما يقدم على كثرة الكلام أهل الطيش فيجعجعون ويطنطنون ثم لا يأتون غير الكلام، وعندي أن إذاعة ما ينويه المرء من الأعمال يذهب بالعزم على إتمامه. وما أجمل ما قيل: «استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان».»
وكان سلمان يصغي إلى كلامه، فلما فرغ قال: «إنها عظة بالغة؛ ولذلك فإني ذاهب الآن لقضاء المهمة التي بدأتها، ومتى انتهت أطلعتك عليها، وأرجو أن تحسن في عينيك وألا تكون قد سبقتني إليها!»
فقال الطبيب: «اذهب في حراسة الله، وسنلتقي هنا غدا، وإذا لم آت فلا تستبطئني.» قال ذلك وترك سلمان ومشى نحو القاعة التي ترك القوم فيها. •••
كانت دنانير بعد ذهاب الطبيب قد أدخلت زينب إلى الفراش وسألت ميمونة إذا كانت تريد الرقاد أيضا فأجابت بأنها تؤثر البقاء للاستئناس بها وبجدتها، فأمرت الخدم بأن يعدوا لها ولعبادة طعاما فأكلتا، ولا حديث لهما غير بهزاد، وكل منهما تقص على رفيقتها ما تعرفه من غريب أطواره وأحواله، ولا سيما عبادة؛ فإنها أخذت تطري شهامته وأنفته وكرم أخلاقه، وكيف أن أهل المدائن يعدونه من الأولياء ويستغربون تكتمه. على أن التكتم زاده رفعة في أعينهم وزادهم تهيبا منه؛ لأنك لا تزال تخاف المجهول حتى تعلمه. وعلى هذا القياس ترى الصمت يرفع منزلة صاحبه وكثرة الكلام تقلل من هيبته، فإذا جهلت ما في خاطر المرء حسبت ما يكتمه شيئا عظيما، فإذا تكلم انكشف لك عن شيء تافه. والعقلاء يزين أقوالهم احتفاظهم بالكلام إلى حين الحاجة، مع تدبير ما يقولون فلا يلقون الكلام على عواهنه.
وكانت ميمونة تسمع حديثهما عن بهزاد وقلبها يرقص طربا تشعر به ولا تستطيع التعبير عنه؛ فقد عرفت هذا الشاب منذ عام وبعض العام، ورأت منه انعطاف المحسنين وغيرة الأقربين، فاحترمته وأعجبت به. ثم ألفت رؤيته حينا بعد آخر فأصبح إذا غاب استبطأته وشعرت بحاجة إلى رؤيته، ولا يطمئن قلبها إلا إذا رأته ولو مارا في الطريق. وقد زاد في ارتياحها إليه ما كانت تسمعه من إطراء جدتها له وامتداحها خصاله؛ فأصبحت إذا شاهدته أو سمعت صوته يخفق قلبها، وإذا كلمها صعد الدم إلى محياها واستولى الخجل عليها. ثم أصبح قلبها يخفق لسماع اسمه، وصارت تلتذ الحديث عنه، وإذا سمعت أحدا ينتقده أو يقبح أعماله شق عليها قوله وأخذت تدفع عنه بحماسة وغيرة.
كانت تفعل ذلك وهي لا تعلم أنها تحبه، ولو سئلت في ذلك لاستغربت السؤال وأنكرته. لا تفعل ذلك نفاقا أو رياء لكنها لم تكن تعلم أنها تحبه، خصوصا أنها لم تكن تسمع منه كلمة تدل على حبه لها. وكان إذا جاء المنزل كلم جدتها، فإذا عرضت له حياها وهو ينظر إلى شيء آخر، وربما سألها عن حالها سؤالا لا مبالاة فيه أو اكتراث، فلم يمنعها ذلك من الاسترسال في حبه؛ لأنها لم تفكر في هل تحبه أم لا، ولو فعلت ذلك لاحترست من التورط؛ لأنها لم تكن ترى منه ميلا ولكنها أحبته عفوا، وهي لا تعرف دلائل الحب.
وما زالت على ذلك حتى التقت به تلك الليلة فجأة ثم رأته يلاطف زينب ويداعبها؛ فتحركت الغيرة في قلبها مع علمها أنه فعل ذلك تلطفا ومجاملة، وأحست كأن سهما أصابها في قلبها. على أنها تراجعت وحاولت أن تقنع نفسها بأن ليس ثمة داع للغيرة فاقتنع عقلها، وأما قلبها فما زال في اضطراب. وأخذت من تلك الساعة تتساءل عن سبب هذا الشعور، فاغتنمت اشتغال جدتها ودنانير بالطعام والحديث، وطفقت تفكر في سبب هذا الشعور، وكلما همت بأن تسأل نفسها هل تحبه غلب عليها الحياء وأنكرت ذلك؛ لأنها لا ترى من أعماله ما يجرئها عليه؛ فتعللت بأنها إنما تحبه إقرارا بفضله وإحسانه.
ثم رأت ذلك لا يغني فتيلا؛ لأنها تحس بانعطاف إليه غير انعطافها إلى جدتها مثلا وهي أكثر الناس إحسانا إليها؛ فتحققت أنها تحبه لغير الإحسان. ولما تصورت ذلك ولم تر مندوحة عنه انقبضت نفسها؛ لأنها لم تلحظ منه شيئا من غير هذا القبيل نحوها. وعادت إلى ذكرى الماضي فراجعت تاريخ معرفتها به وما كان يبدو من حركاته وأقواله؛ فلم تر دليلا على أن عنده مثل ما عندها. على أنها حملت ذلك منه على رغبته في التكتم.
وهكذا كانت عبادة ودنانير تتناولان الطعام وتتحادثان، وميمونة غارقة في هذه الأفكار. وبعد الفراغ من الطعام قالت دنانير: «هل تريدان الذهاب إلى الفراش فإننا في أواسط الليل؟»
فقالت عبادة: «أما أنا فلا أشعر بالنعاس، ولكن ميمونة تنام.»
فلما سمعت ميمونة قولها تذكرت أن بهزاد وعد بألا يبطئ في العودة، وشعرت بميل إلى أن تراه قبل الرقاد، ولا سيما بعد ما ناجت به نفسها من حبه لعلها تؤانس منه إشارة أو تسمع كلمة تستدل منها على ميله إليها. فلما سمعت قول جدتها حدثتها نفسها أن تعصيها ولكنها لم تجرؤ؛ إذ لم تألف مخالفتها، فوقعت في حيرة وارتبكت في أمرها. ولحظت دنانير ارتباكها وأدركت سببه دون عبادة؛ إذ كانت لا تعلم شيئا عن عواطف حفيدتها، فلم تكن تتوقع منها غير النهوض، ثم سمعت دنانير تقول: «ما لنا وللرقاد الآن؟ دعي ميمونة معنا فإن هذه الليلة عندي من ليالي العمر لشدة فرحي بكما.» ثم مدت ذراعيها إلى ميمونة وضمتها إلى صدرها وقالت: «ولا سيما حبيبتي ميمونة؛ فإنها كنز لقيته؛ فدعيني أتمتع برؤيتها.»
فأشرق وجه ميمونة، ولما ضمتها دنانير وقبلتها أجابتها بقبلات حارة وضحكت من شدة الفرح.
فأثنت عبادة على عطف دنانير ومجاملتها. ولم يستتب بهن المقام حتى سمعن وقع أقدام الطبيب؛ فخفق قلب ميمونة ولكنها تجلدت. ونهضت دنانير لاستقباله فإذا به لا يزال بلباسه وزاد عليه كوفية اعتم بها وأرخى أطرافها حول رأسه كأنه على سفر، فابتدرته دنانير قائلة: «ما لي أرى الطبيب يهم بالسفر؟»
قال : «لا بد من ذهابي الآن لأمر ذي بال، وكنت أود البقاء عندكم لولا الضرورة، ولكنني سأعود في الغد إن شاء الله.»
وكانت عبادة قد وقفت لاستقباله وميمونة بجانبها، فلما سمعتا قوله تقدمت عبادة حتى التقت به وهو داخل من الباب فقالت: «سر في حراسة الله يا ولدي، وأرجو أن تعود سريعا ولا تنسانا.»
فتقدم نحو عبادة ومد يده فصافحها باحترام وقال: «حاش لله أن أنساك.» والتفت إلى دنانير وقال: «إني أوصيك بهذه الخالة يا دنانير، وإن كنت لا أرى حاجة إلى ذلك لما آنسته من حبك لها.»
وكانت ميمونة أثناء ذلك واقفة وركبتاها ترتعدان وقد تولاها الخجل. وقد أعدت عبارة تقولها في وداعة فلما رأته نسيتها وتلعثم لسانها.
أما هو فلما فرغ من وداع عبادة تحول نحو ميمونة ومد يده فقبض على يدها وأحس برعشتها وبرودتها فضغط عليها ووجه كلامه إلى دنانير وقال: «وهل أوصيك بلمياء؟ كان يجب أن أوصي أم حبيبة بها، على أنني لا أرى حاجة إلى ذلك وقد رأيت من تحابهما ما لا حاجة معه إلى توصية، بل يجدر بي الآن أن أوسط لمياء لدى مولاتنا من أجلي.» ثم وجه خطابه إلى ميمونة وهو يضغط على يدها ضغطا ترافقه رعدة متبادلة وقال: «هل تتوسطين لي عندها؟ ما أسرع تسلطك على قلب مولاتنا حتى استأنست بك كأنها تعرفك منذ أعوام.» قال ذلك وابتسم وأبرقت عيناه وكادتا تبوحان بما في قلبه.
وأما هي فلا تسل عن حالها وما كان يتجاذبها من الخجل والامتنان والفرح، لما آنسته من تلطفه وما توسمته في خلال حديثه من الدلائل على حبه، فسكتت وأطرقت، وهذا أبلغ جواب من فتاة في مثل هذه الحال، لكنها لم تتمالك عن الابتسام وبان السرور في وجهها.
أما هو فكأنه انتبه إلى نفسه وندم على ما فرط منه فأفلت يدها وعاد إلى كتم عواطفه؛ فتحول عن ميمونة إلى دنانير فحياها وقال: «أستودعكم الله إلى الغد.» وخرج مسرعا.
وكانت دنانير قد لحظت ما بدا من اهتمام الطبيب بميمونة، وسرها ذلك بعد أن استاءت من فتوره ، للمرة الأولى، فودعته وعادت إلى ضيفتها فقالت: «ما أكثر ما يهتم له هذا الطبيب، وما أكثر شواغله؛ فإنه لا يلبث أن يكون جالسا حتى ينهض، إني لم أفهم سره.»
فقطعت عبادة حديثها قائلة: «هذا هو حاله معنا منذ عرفناه، فمع توالي إحسانه لا أذكر أنه جالسنا ساعة أو بعض ساعة؛ فلا أراه إلا مهتما مقطبا، وهذه أول مرة رأيته يبتسم ولم يطل ابتسامه فعاد إلى حاله.»
أما ميمونة فبعد أن اطمأن قلبها وفرحت بما لمحته من بهزاد، عادت إلى هواجسها عندما أفلت يدها بسرعة وتغير وجهه فجأة، ثم اشتغلن بالحديث حتى حان موعد الرقاد فذهبت كل واحدة إلى فراشها. •••
كان سلمان هو الذي تنكر باسم الملفان سعدون واختلط بالعامة وصاحب رئيس العيارين خدمة لمولاه بهزاد، وقد ترك الهرش على أن يعود إليه في تلك الليلة مهما يطل غيابه ليلقاه في قاعة العيارين. وكان قد أسرع إلى القصر ليخبر الطبيب بموت الرشيد، فلما رآه يعلم ما لم يعلمه هو من أمر البيعة وما تبعها رأى أن يعود بهذه الأخبار إلى الهرش لعله يدهشه فيزداد اعتقادا بصدق مندله.
فلما ودع مولاه الحكيم أبدل ثيابه وعاد إلى العمامة والجبة والسالفين واللحية، وأسرع إلى بغلته فركبها وسار قاصدا قاعة العيارين. وكان الليل قد انتصف وأغلقت المنازل وطاف الحراس يتنادون فإذا رأوا غريبا أوقفوه. أما سعدون فكان له من لباسه وقيافته شافع حتى بلغ جسر بغداد، ولم يكن له بد من المرور عليه إلى البر الغربي والحراس قائمون على طرفيه وقاعة العيارين بالحربية وراءه، فمر على الجسر ولم يعترضه أحد حتى دخل البر الغربي، وهو بغداد الأصلية مدينة المنصور وحولها الأرباض القديمة وفيها الطرق الضيقة علقت المصابيح في مداخلها، ووقف الحراس فيها بأسلحتهم، فأوجس خيفة منهم، ونادى أحدهم فأسرع إليه فقال له: «سر أمامي إلى قاعة العيارين.»
فلما سمعه الحارس يتكلم كمن له سلطان، ورأى لباسه ظنه أحد رجال أهل الذمة المقربين من الخليفة للطبابة أو النجامة أو نحوهما؛ فمشى بين يديه حتى أقبل على بناء فخم من ناحية الحربية ببابه عياران عليهما المئزر وعمامة من الخوص، فلما رأيا الملفان على بغلته عرفاه فتقدما إليه وأعاناه على النزول وقالا له: «إن مولانا الهرش ذهب إلى مكان قريب ولا يلبث أن يعود، وقد أوصانا بأن نرحب بك وندخلك القاعة تنتظره فيها.»
فترجل ومشى العياران بين يديه وسلمان يخطو وراءهما بعكازه، حتى استطرق من الدهليز إلى ميدان تطرق منه إلى قاعة كبيرة فيها عدة مصابيح مدلاة من سقفها كالثريا، وفي أرضها بساط عليه نقوش ووسائد ومقاعد، فدعاه العياران إلى الجلوس على مقعد إلى اليمين فجلس، وكانت هذه أول مرة دخل فيها قاعة العيارين، لكنه لم يدهش لما هناك من الأثاث الثمين، بل دهش لما رآه معلقا في جدرانها من ضروب الأسلحة وأدوات الحرب من مختلف أنواع السيوف والأقواس والرماح، ومن المقاليع بين مصنوع من الجلد أو مجدول من الشعر أو من الحرير، وإلى جانب كل مقلاع مخلاته والمخالي على أنواع. ورأى في بعض جوانب القاعة عصيا طويلة من خشب الشوم وغيره يثب عليها العيارون لقطع الأنهر، وبجانبها سلالم مصنوعة من الحبال تنتهي من أطرافها بكلاليب يرمونها على السطوح إذا أرادوا الوثوب عليها، ويقال لها سلالم التسليك. غير ما رآه من أدوات النفط التي يشعلون بها الخرق المبتلة بالنفط ويرمونها بالمجانيق. ولم ير هناك إلا منجنيقا واحدا صغير الحجم لرمي النبال أو النفط وليس مما ترمى به الحجارة الضخمة. هذا إلى ما رآه معلقا في صدر القاعة من الدبابيس وهي العصي وفيها المسامير من الحديد، وبعضها مساميره من الفضة أو الذهب. وهذا الدبوس لا يحمله إلا الرؤساء، وبينها دبابيس مصنوعة من الحديد. ورأى على رف هناك أرغفة من الرصاص يرميها العيارون على أعدائهم فتذهب بقوة عظيمة، وقد تقتل عدة أشخاص في رمية واحدة. ورأى كثيرا من أدوات القتل والكسر والنقب وضروبا من الحبال وغيرها مما يحتاج إليه العيارون.
ابن ماهان صاحب الشرطة
قضى سلمان نصف ساعة ظنها عدة ساعات لفرط قلقه وهو يراجع ما مر به تلك الليلة من الغرائب، ثم سمع ضوضاء بباب القاعة فعلم أن الهرش قدم فتحفز للقائه، وإذا بالهرش قد دخل مسرعا وفي أثره شاب جميل الصورة عليه قباء وسراويل وقلنسوة، وقد نبت عارضاه وبان عذاره، يلوح أنه من الرقيق الأبيض، فوقف الغلام بالباب وأسرع الهرش إلى سلمان، وكان قد وقف له فحياه وابتدره قائلا: «أبطأت عليك مرغما؛ فإن حامد (وأشار إلى الغلام) له حاجة عند صاحب الشرطة وأبى إلا أن أصطحبه الليلة إليه، فهل تأتي معنا؟»
قال: «إنما جئت عملا بإشارتك فقد ألححت علي بالرجوع. فإذا كنت لا ترى أن أذهب معك رجعت.»
فقطع الهرش كلامه قائلا: «بل أنا شديد الرغبة في الذهاب برغم أننا في آخر الليل. هيا بنا فإن الركائب معدة.» ثم التفت إلى الغلام وقال: «نحن ذاهبون مع الملفان سعدون إلى صاحب الشرطة، وسأوصيه بأن يخرطك في سلك الشاكرية؛ فذلك خير لك من أن تكون عيارا.»
ففهم سلمان أن الهرش وعد الغلام بإدخاله في ذلك السلك، وتبينه عن قرب فرأى فيه ذكاء وأنفة، فضلا عن الجمال، ولم يستغرب ذلك؛ فقد كان بين الرقيق المجلوب إلى بغداد أو المولودين فيها جماعة من أجمل خلق الله وأذكاهم ينخرطون في الجندية أو الحراسة، أو ينتظمون مع الشاكرية الذين يتولون نقل المراسلات في قصر الخليفة. فخرج الهرش وقد أمسك بيد سلمان احتفاء به، وفي خاطره أن يسأله عما لديه من الأخبار ولكنه استنكف من التعجيل.
فلما خرجا من القاعة ركب سلمان بغلته وامتطى الهرش فرسه ومشى في ركابيهما عياران، وركب الغلام حمارا وسار في أثرهما وهو يستغرب ما يراه من احتفاء الهرش بذلك الملفان. وكان كل همه أن يوفق إلى الالتحاق بالشاكرية عملا بإشارة مولاه؛ فقد ربي في كنفه ولم يكن يعرف وليا سواه. وكان يخلص في طاعته لما كان يلقاه من عطفه عليه، وكان الهرش يعامله معاملة الأب لابنه، وقد عني بتعليمه وتثقيفه على غير ما تعود العيارون.
ولم يكن منزل صاحب الشرطة بعيدا عن قاعة العيارين فما عتموا أن وصلوا إليه، فترجلوا بجانب باب كبير غلب النعاس على حارسيه، فلما سمعا قرقعة اللجم نهضا فرأيا الهرش فوسعا، فدخل الهرش والملفان سعدون إلى جانبه يتوكأ على عكازه، ومشى أحد الحراس بين يديهما بالمصباح في رواق مستطيل إلى قاعة عليها ستر مسدول. وعلى بابها حاجب خف إلى استقبال الهرش مرحبا، فابتدره قائلا: «هل مولاك هنا؟»
قال: «أظنكم على موعد من لقائه؛ لأني لا أعلم أنه يسهر إلى مثل هذه الساعة.»
فلم يجبه الهرش وظل سائرا حتى رفع الستر وأشار إلى الملفان سعدون أن يدخل، وأومأ إلى حامد أن يمكث في الرواق ريثما يستقدمه، أما الحاجب فأعلن قدوم الزائرين بقوله: «إن الهرش داخل يا مولاي.»
فدخل سلمان وهو فيما وصفناه من قيافته الملفانية بعد أن نزع حذاءه وترك عكازه بجانب الباب، فرأى ابن ماهان في صدر القاعة على وسادة وبجانبه رجلان مال أحدهما عليه كأنه يقص عليه حديثا مهما؛ فعرفه سلمان أنه سلام صاحب البريد جاء ليسر إليه خبر موت الرشيد، وكان ابن ماهان يتطاول بعنقه لسماعه وقد بدت الدهشة في عينيه.
وكان الرجل الآخر شابا في نحو الخامسة والعشرين من عمره، جميل الطلعة حسن البزة، وجهه مشرب حمرة، ويتلألأ في عينيه ماء الشبيبة، وعليه ثوب ثمين وحول قلنسوته عمامة مزركشة، وقد تربع وأخفى قدميه تحت سراويل من الخز الثمين. وقد تضوعت القاعة من طيبه. ولم يكن هذا الشاب أقل إصغاء لحديث صاحب البريد من ابن ماهان؛ فعرف سلمان أنه ابن الفضل بن الربيع، ولم يكن أحد من هؤلاء يعرف الملفان سعدون إلا بما سمعوه عنه من الهرش.
وكان ابن ماهان شيخا تقدمت به السنون ولكن مطامعه ما زالت في إبانها، وله لحية واسعة يخضبها بالحناء، وقد تغضن جبينه واتضحت الشيخوخة في وجهه، ولكن الكبرياء والغرور ما زالا ظاهرين في جلسته ولفتته وأسلوب خطابه. وقد زاده كبرا ما اختص به من الدالة على رجال الدولة لسبقه في خدمتها منذ أيام المنصور. فإنه لما توفي هذا الخليفة سنة 158ه، وأبى عيسى بن موسى أن يبايع لابنه المهدي ، كان ابن ماهان حاضرا فوضع يده على قبضة حسامه وقال له: «والله لتبايعن أو لأضربن عنقك.» فبايع فارتفعت منزلة ابن ماهان لدى الخلفاء العباسيين من ذلك الحين. وتولى عرش الخلافة في أيامه أربعة خلفاء آخرهم الرشيد. وكان قد حسد البرامكة ووالى الفضل بن الربيع واتفقا على معاداة الفرس ومن قال بقولهم؛ ولذا قربه الأمين وجعله صاحب شرطته فأصبح همه تأييد سلطانه.
وكان شديد القلق على مستقبل الخلافة بعد سفر الرشيد، وكاشف الهرش بذلك فأخبره بمقدرة الملفان سعدون على استطلاع الغيب ووعده بأن يأتيه به في تلك الليلة؛ فلبث ابن ماهان في انتظاره على مثل الجمر، فجاءه صاحب البريد أثناء ذلك وأسر إليه نعي الرشيد وجلسا يتباحثان فيما عساه أن يحدث من التغيير. أما ابن الفضل فكان يتردد على ابن ماهان ويجالسه بلا كلفة، فاشترك في سماع الخبر. فلما سمع ابن ماهان الحاجب ينبئه بقدوم الهرش التفت نحو الباب فرآه داخلا وسلمان إلى جانبه، فرحب بهما واصطنع ضحكة يتلاطف بها كما يفعل بعض المتغطرسين إذا أحب التظاهر بالتواضع. •••
لم يحفل سلمان (أو الملفان سعدون) بما بدا؛ فظل داخلا وسلم، ثم قال الهرش: «هذا الملفان سعدون قد جاء معي.»
فابتسم ابن ماهان وهو يمشط لحيته بأنامله ولم يتزحزح من مكانه وقال: «مرحبا بالملفان العالم المنجم.» وأومأ إليهما أن يجلسا، ثم التفت إلى صاحب البريد وقال: «قد كنت في قلق لاستطلاع الخبر الذي قصصته علي فأحببت أن أستعين على كشفه بعلم هذا المنجم، ولم يعد بنا حاجة إلى ذلك الآن.» ثم اعتدل في جلسته وقال: «ولكني سررت بلقائه، لعلي أحتاج إليه في فرصة أخرى.»
فأدرك الهرش أن صاحب الشرطة يحسب خبر صاحب البريد سرا عليهما، فنظر إلى الملفان سعدون نظرة فهم مراده منها، فالتفت إلى ابن ماهان وقال: «أرى صاحب الشرطة في شاغل مع صاحب البريد ومع مولانا ابن الفضل، وأخشى أن نكون قد ثقلنا بمجيئنا.»
فضحك والاهتمام باد في عينيه وقال: «لا يستغنى عن المنجمين في مثل هذه الحال، لا سيما إذا صدقوا في تنبئهم.» ثم وجه خطابه إلى سلمان وقال: «هل كشف لك شيء يهمنا أمره يا ملفان؟»
فقال مستخفا: «ربما كان ذلك.»
فتدخل الهرش وقال: «إن الخبر الذي تتسارون به كشف لنا منذ ساعات!»
فتجاهل ابن ماهان وقال: «أي خبر تعني؟»
فأشار الهرش إلى سلمان ففهم مراده فقال: «ليس موت الرشيد جديدا عندي، ولا أقنع به وحده؛ فلو أني عملت المندل هذه الليلة لرأيت ...»
فبغت ابن ماهان ونظر إلى صاحب البريد كأنه يستعينه، فتصدى ابن الفضل للسؤال وقال: «وهل من خبر غير موت الرشيد؟»
قال: «إن الرشيد رحمه الله كان مريضا قبل سفره، وكنا كلنا نتوقع موته، لكن المندل كشف لي أمورا إذا وعدتموني بكتمانها عن مولانا الأمين حتى يعرفها من غيري قلتها لكم.» قال ذلك وهو يرمي إلى أن يجعلهم يفشونها؛ وكذلك يفعل أهل الدهاء إذا أحبوا نشر مأثرة لهم فإنهم يتظاهرون بكتمانها ويبالغون في الحذر من نشرها بغية إذاعتها.
فلما أحس ابن الفضل تكتمه ازداد رغبة في الاطلاع على ما عنده وقال: «إذا كنت تعرف شيئا جديرا بالاهتمام فإن اطلاع مولانا الأمين عليه يدعو إلى رفع مقامك. وماذا عسى أن يكون لديك؟»
فقال: «اطلعت على سر يهم ابن الفضل أكثر من غيره.» فزحف ابن الفضل نحوه وقال: «وما ذلك؟ وكيف يهم ابن الفضل خاصة؟» قال ذلك وهو يظن أن الملفان لا يعرفه.
فقال سلمان: «إن الخبر يهم ابن الفضل لأنه يمس أباه الوزير؛ أي أباك.»
فعجب ابن الفضل لمعرفته إياه، ولكنه شغل عن ذلك برغبته في الاطلاع على الخبر، ونظر إلى ابن ماهان فالتفت هذا إلى الملفان وقال: «أرى دعواك عريضة، فقل ما عندك لنرى؛ فإذا صدقت ضمنا لك التقرب من مولانا.»
فقال: «إن التقرب من أمير المؤمنين نعمة وما نحن إلا عبيده.»
فاستغرب قوله: «أمير المؤمنين.» فقال: «كيف تدعوه أمير المؤمنين وغاية علمنا أنه ولي العهد؛ فهب أن الرشيد مات، فهل تصير الخلافة إليه؟»
قال: «بل قد صارت له وحده وقضي الأمر!»
فعلم إذ ذاك أنه يعرف شيئا جديدا فقال: «له وحده؟ وكيف ذلك؟»
فأشار بأصبعه إلى ابن الفضل وقال: «بسعي مولانا الفضل الوزير.»
فتطاولت أعناقهم لسماع الخبر، والهرش على رأسهم وابتدره قائلا: «ذلك شيء جديد علي فاقصص علينا ما علمت.»
فاعتدل في مجلسه وأخذ يقص عليهم ما سمعه من بهزاد وكأنه يقرأ في صحيفة بين يديه، والكل صامتون وقلوبهم تخفق دهشة واستغرابا، ولا سيما ابن الفضل؛ فإنه ازداد افتخارا بما أتاه أبوه للأمين، وكان قد اطلع على مقدمات من قبل، فلما سمع النتائج التي رواها سلمان تحقق صدقها، ودهش ولم يتمالك أن دنا منه وربت على كتفه استحسانا وإعجابا وقال: «بورك فيك، إنك منجم عجيب!»
أما ابن ماهان فأمسك عن الإعجاب، وقال: «هل أنت واثق مما تقول؟»
فقال: «هذا ما كشفه لي المندل ولم أعهده يخدعني من قبل.»
فصغر صاحب البريد في عيني نفسه واحتقر الخبر الذي جاء به فسكت، أما ابن ماهان فالتفت إلى الهرش وقال: «إذا صح ما جاءنا به الملفان فإن الأمر جد خطير، وإني أبشره برياسة المنجمين في دار الخلافة، فاكتموا الآن ما سمعتم لنرى ما يكون.» وتناول من تحت وسادته صرة من النقود دفعها إلى المنجم وقال: «هذا أجر طريقك وثمن البخور.»
فتباعد سلمان ويداه وراء ظهره مستنكرا، ويد ابن ماهان ممدودة بالصرة، فالتفت إلى الهرش مستغربا، فضحك هذا وتناول الصرة وأعادها إلى مكانها وقال: «إن منجمنا لا يتعاطى هذه الصناعة رغبة في أجر، وإنما يبذل علمه في سبيل صداقتنا.»
فازداد الجميع إعجابا به وقال صاحب الشرطة: «لا بأس، سينال أضعاف هذا بما أرجوه له من التقرب إلى الخليفة.»
وعند ذلك تحفز سلمان للوقوف وقال: «اعذرونا فقد أطلنا سهركم.»
فلم يتمالك ابن ماهان عن النهوض احتراما له، وقد ذهب كبرياؤه وأحس بافتقاره إلى علم الرجل، وذلك شأن الناس مع أهل المعرفة؛ فإنهم يبدءون باحترام الظواهر حتى تظهر المعرفة فتكون العاقبة لها، وقد تجالس رجلا لا تعجبك بزته فتحتقره، ثم يتكلم فإذا رأيت منه علما انقلب احتقارك احتراما، وربما دخل عليك فلا تأبه له فإذا عرفت فضله خرجت لوداعه وزودته بالثناء والإعجاب. كذلك فعل ابن ماهان بالملفان سعدون؛ فقد استقبله استقبالا فاترا ظنا منه أنه جاء يتزلف إليه، فلما رأى علمه وترفعه عن الإنعام احترمه ووقف لوداعه وشيعه إلى باب المجلس راجيا إليه أن يأتيه في الغد.
ولما ودع ابن ماهان الهرش بالغ في الثناء عليه؛ لأنه كان وسيط معرفته بالمنجم؛ فتذكر الهرش غلامه حامدا وكان لا يزال في انتظاره بالباب فقال: «إني لم أفعل ما يستحق الثناء وإن نعمتك متوالية علينا.» ثم نادى حامدا وقدمه إلى ابن ماهان وقال له: «هذا غلام أضن به، وأحب أن يكون في رجال الشاكرية في قصر الخليفة، فرجائي منك أن تدخله في جملتهم.»
فتقدم الغلام وأكب على يد ابن ماهان فقبلها ووقف متأدبا، فقال له: «ادخل الآن إلى دار الغلمان وفي الغد تكون في جملة الشاكرية.» والتفت إلى الهرش وقال: «كن مطمئنا؛ فسيكون على ما تحب.» فأثنى وخرج.
أما ابن الفضل فكان أكثرهم إعجابا وارتياحا، وتوسم في الرجل نفعا فرافقه حتى خرجا من الباب ولم يبق معهما غير الهرش فأسر إليه بأنه يود أن يكلفه أمرا لا شأن للخلافة فيه، وألح عليه أن يجيئه في فرصة أخرى.
فأشار مطيعا وخرج مع الهرش، ثم ودعه وركب بغلته وسار ولم يبق من الليل إلا القليل.
خلافة الأمين
كان أهل بغداد غافلين عما جرى، فأصبحوا في اليوم التالي وإذا بالمنادين يطوفون بالأسواق ينعون الرشيد ويترحمون عليه ويعلنون خلافة الأمين. واهتم الهاشميون ورجال الدولة بأخذ البيعة على عادتهم.
وبكر سعدون في الصباح التالي (19 جمادى الآخرة سنة 193ه) إلى دار الشرطة، فرحب به ابن ماهان وأركبه في حاشيته ليشهد الاحتفال بالبيعة. حتى إذا وصلوا إلى قصر الخلد ترجلوا ودخلوا في جملة الداخلين بين تزاحم الأجناد والأعيان. ولما أتوا دار العامة أذن لهم فدخلوا وسعدون وسلمان بجانب ابن ماهان.
وحضر البيعة شيوخ بني هاشم الذين كانوا في بغداد، والقواد وأكابر رجال الدولة، حتى غصت بهم الدار. وجلس الأمين على سرير الخلافة وكان قد بلغ الثالثة والعشرين من عمره وتخشن عضله واسترسلت لحيته واستطال عارضاه وبانت رجولته. وكان طويل القامة قوي العضل يلقى الأسد فلا يبالي، وكان مع ذلك جميل الصورة أبيض اللون صغير العينين أقنى الأنف سبط الشعر، وفي وجهه أثر الجدري. وكانوا قد ألبسوه حلة الخلافة فجعلوا العمامة المرصعة على رأسه والبردة على كتفه، وقد جاءه بها رجاء الخادم من عند أخيه صالح من طوس، وجاءه أيضا بقضيب الخلافة والخاتم، فتختم بالخاتم وحمل القضيب بيده فازداد جلالا وجمالا، والناس جلوس بين يديه: بنو هاشم على الكراسي، وسائر الناس على الوسائد أو على البساط وبعضهم وقوف. والكل منصتون مطرقون حزنا على الرشيد وإجلالا للأمين.
وكان أول من تقدم للأمين سلام صاحب البريد، فإنه أقبل فعزاه في أبيه وهنأه بالخلافة، ثم تقدم بنو هاشم فعزوه وبايعوه، ووكل سليمان بن المنصور شيخ بني هاشم بأخذ البيعة من القواد وكبار رجال الدولة، وفي جملتهم ابن ماهان وابن الفضل.
وكان الملفان واقفا في الجمع لم ينتبه له أحد، فلما فرغ الناس من المبايعة وقف الأمين فيهم خطيبا فأصغوا وتطاولوا بأعناقهم، فحمد الله ثم قال: «يا أيها الناس، ويا بني العباس، إن المنون بمرصد لذوي الأنفاس. حتم من الله لا يدفع حلوله، ولا ينكر نزوله؛ فارتجعوا قلوبكم من الحزن على الماضي، إلى السرور بالباقي، تحوزوا ثواب الصابرين، وتعطوا أجر الشاكرين.»
ولم يكن الناس يتوقعون هذه الجرأة منه فاستغربوا ذلك، ثم أمر أن يفرق في الجند رزق أربعة وعشرين شهرا، وكانت قد جرت العادة إذا تولى الخليفة أن ينعم على الجند بأرزاقهم ليكتسب ثقتهم.
ولما فرغ من مبايعة الناس تقدم الحسن بن هانئ (أبو نواس) شاعره، فهنأه بالخلافة وعزاه في أبيه فقال:
جرت جوار بالسعد والنحس
فنحن في وحشة وفي أنس
العين تبكي والسن ضاحكة
فنحن في مأتم وفي عرس
يضحكها القائم الأمين ويب
كيها وفاة الرشيد بالأمس
بدران بدر أضحى ببغداد في ال
خلد وبدر بطوس في الرمس
وكان ابن الفضل أثناء ذلك لا يشغله شاغل عن الأمر الذي يريد أن يسره إلى الملفان سعدون، فما كاد يفرغ من مشاهدة المبايعة حتى تلفت فرأى الملفان يتأهب للخروج، فاعترضه وسأله القدوم معه، فاعتذر إليه ووعده بأن يعود إليه في المساء. وكان عازما على البحث عن مولاه بهزاد ليرى ما يكون.
فقال له ابن الفضل: «عد إلينا في المساء إلى منزلنا بالرصافة.» فودعه ومضى يلتمس القصر المأموني. •••
كان أهل القصر قد علموا بموت الرشيد، فشق نعيه عليهم، ولا سيما زينب بنت المأمون، فلما سمعت الخبر بكت كثيرا. وتوقعت دنانير الانقلاب الذي يخشى حدوثه بعد موت الرشيد لاطلاعها على كثير من دسائس أهل البلاط وإن كانت لم تعرف بعد ما عرفه بهزاد من نكث بيعة المأمون. وأصبحت تنتظر خبرا من مولاها؛ لأنه إن كان سيتولى خراسان تنفيذا للعهد، فقد يبعث إلى ابنته وسائر أهله بالشخوص إليه. وشعرت وهي في اضطرابها بحاجتها إلى الطبيب بهزاد تستشيره أو يساعدها في التخفيف عن زينب؛ فإنها على صغر سنها اشتد حزنها على موت جدها وانقبض صدرها ولم تعد تفرح لشيء بعد أن كانت تضحك لأي شيء، فلازمت غرفتها ودنانير لا تفارقها. وأمسكت زينب عن الطعام حتى أثر الحزن في صحتها وأصابها دوار وامتقع لونها وعجزت دنانير عن تعزيتها. ولما شغل بالها على صحتها استأذنتها في استشارة بعض أطباء القصر فأبت. ولما ألحت عليها قالت: «وأين طبيبنا الخراساني؟» فمكثت تنتظر مجيئه بفارغ الصبر.
أما عبادة أم جعفر فساءها موت الرشيد؛ لأنه بمنزلة ولدها، فضلا عن ذهاب آمالها في وساطة زينب لديه في شأنها. ولكنها فكرت من الجهة الأخرى فيما عساه أن يكون من الانقلاب في أمر الخلافة مما قد يعود عليها بالخير. على أنها كانت ضعيفة الأمل لعلمها بما يسعى فيه أعداء المأمون، وهم أعداء الفرس وأعداؤها طبعا، ورأت حتما عليها أن تساعد دنانير في التخفيف عن زينب، فإذا خلت بها تباحثتا فيما سيكون.
وأما ميمونة فقد شغلت عن ذلك كله بما هاج في قلبها من الشوق إلى حبيبها. والحب يشغل صاحبه عما حوله من الشئون، فإذا غاب حبيبه طارت نفسه شعاعا وأصبح همه في أن يعود إليه، لا شيء ينسيه شوقه أو يعزيه على وجده. وإذا اشتغل بشيء فإلى أجل، وإذا اجتمع بالحبيب قام بينه وبين الحوادث سد منيع فيصبح أصم إلا عن سماع حديثه، وأبكم إلا في جوابه، وأعمى إلا عن رؤيته، وقد يسمع أو يرى ولكن كالسامع من وراء جدار أو الناظر في ديجور الظلام، وإذا وقعت حوله الطوارئ فإنما يهمه منها ما يقربه من الحبيب أو يبعده عنه. فلم يكن موت الرشيد ليهم ميمونة إلا من هذا القبيل، ولأنها كانت لا تزال في ريب مما في نفس بهزاد بعد أن ودعها بالأمس وخرج مسرعا على تلك الصورة ومضى معظم ذلك النهار ولم يرجع ولا جاء خادمه.
قضت النهار كله في قلق لا تبالي انهماك أهل القصر في الحزن، ولا ما أقام بغداد وأقعدها احتفالا بالبيعة، على أنها كانت تلهو بالجلوس إلى زينب وتخفف عنها بما يحضرها من عبارات التعزية وعيناها إلى باب الدار تترقبان بشرى بقدوم بهزاد، وأذناها مصغيتان لعلها تسمع وقع قدميه. ثم سمعت دنانير تكلم جدتها عنه وتستبطئه وتتمنى قدومه، فخفق قلبها ولكنها ظلت ساكتة.
ومالت الشمس عن خط الهاجرة وهي لم تذق طعاما وأهل القصر في شاغل عنها بشئونهم وأحزانهم. وفيما هي في ذلك رأت غلاما قادما وفي وجهه خبر، فتحفزت لملاقاته ثم أمسكت نفسها حياء لئلا يكون الغلام قادما إلى دنانير، فتظاهرت بأنها نهضت لبعض شئونها وتمشت على مهل حتى صارت بالباب، فرأت الغلام وقف وحيا دنانير وقال لها: «إن سلمان غلام الطبيب بالباب.»
فخفق قلب ميمونة وكادت الدهشة تظهر في محياها لسماع اسمه. أما دنانير فقالت للغلام: «يدخل سلمان وعساه أن يكون مبشرا بقدوم مولاه؛ فإننا في حاجة إليه اليوم.»
وبعد هنيهة أقبل سلمان بلباسه العادي يمشي متثاقلا متظاهرا بالحزن والانقباض، وميمونة تراعي حركاته. فلما أطل على القاعة حيا ووقف حتى يؤذن له، فابتدرته دنانير قائلة: «ما وراءك يا سلمان؟ أرأيت ما أصابنا؟» وخنقتها العبرات.
فأطرق ودخل حتى دنا من مجلس زينب وانحنى كأنه يريد تقبيل يدها وأجهش بالبكاء، ثم التفت إلى دنانير مظهرا الكآبة وقال: «إن المصاب جلل يا مولاتي. إن وفاة أمير المؤمنين ضربة كبيرة. أطال الله بقاء مولاي المأمون وأنجاله وجعله خير خلف لخير سلف.» وغص بريقه وتراجع حتى وقف في بعض جوانب الغرفة.
فأشارت إليه دنانير أن يقعد وقالت له: «أرأيت طبيبنا اليوم؟»
قال: «كلا يا سيدتي، لم أره منذ افترقنا بالأمس، وكنت أحسبه رجع إلى هنا.»
قالت: «لم يجئ يا سلمان. وكنا نتوقع مجيئه، وقد مرضت مولاتنا ولا ترضى طبيبا سواه.» قالت ذلك وفي كلامها غنة العتاب.
فقال سلمان: «عذر الغائب معه حتى يحضر، وأعتقد أنه لا يلبث أن يأتي ولا يغيب إلى الغد، أو ...»
فقطعت عبادة كلامها قائلة: «ألا تعلم أين ذهب؟»
قال: «كلا، وهل يعلم أحد بذهابه أو مجيئه؟»
فقالت دنانير: «لقد عودنا التخلف عنا يوما أو بضعة أيام ثم يعود إلينا على غير موعد، ولكن ...»
فقالت عبادة: «أتراه ذهب إلى بيته في المدائن؟»
فرفع حاجبيه وكتفيه وشخص بعينه كأنه يتنصل من تبعة علمه بمكانه.
وكانت ميمونة تسمع ما يدور من الحديث والحياء يمنعها من الدخول فيه، ثم غلب عليها حب الاطلاع فقالت وهي تتظاهر بالسذاجة وقلة الاكتراث: «أظنه الآن في بيته بالمدائن وقد أغلق بابه ليشتغل بالكيمياء أو إخراج الكنوز كما يقولون.» ومع ما حاولته من التجلد ما لبثت أن توردت وجنتاها، ولما وقع نظرها على دنانير رأتها تتفرس في وجهها وتبتسم، فازدادت خجلا وأطرقت وتحولت إلى وسادة في بعض جوانب الغرفة فقعدت عليها وتشاغلت بإصلاح خمارها.
فتجاهل سلمان ذلك كله وقال وهو يوجه كلامه إلى عبادة: «إن الناس يتهمون مولاي بأمور كثيرة هو بريء منها، وما انزواؤه في بيته أحيانا إلا للمطالعة في بعض كتب الطب أو الفلسفة. ولو وثقت بأنه هناك الآن لذهبت إليه واستقدمته. على أني ما أظنه يبطئ كثيرا؛ فإذا لم يأت هذه الليلة أو في صباح الغد عمدنا إلى البحث عنه في المدائن أو غيرها.»
وكانت دنانير تبالغ في إظهار القلق لغياب بهزاد إرضاء لزينب ومراعاة لإحساس ميمونة، لعلمها أن الحياء يمنعها من إظهار قلقها، فقالت هي عنها وتكلمت بلسانها، فلما سمعت قول سلمان قالت: «لا بد من البحث عنه الليلة.»
فتراجع وأطرق وقال: «إن أمرك مطاع يا سيدتي، وسأفعل ما تشائين وربما آتيكم به الليلة أو صباح الغد.»
فأثنت دنانير عليه وسكتت وهي تنظر إلى ميمونة فرأتها ترنو إليها ودلائل الشكر بادية في محياها، فابتسمت وحولت وجهها إلى عبادة وقالت: «ألا ترين ذلك؟»
فأجابت على الفور: «بلى، وإذا كان هناك ما يمنع سلمان من البحث فأنا أذهب للتفتيش عليه في المدائن؛ فإننا نعرف منزله حق المعرفة ومسيرنا إلى هناك سهل. وإذا رأيت أن يبحث سلمان في مكان آخر ونحن نذهب للبحث عنه في المدائن فعلنا.»
فلما سمعت ميمونة اقتراح جدتها أشرق وجهها ارتياحا لهذا الرأي؛ لأنه عبر عن إحساسها، كأنها نابت عنها في قول ما لا تستطيع هي التصريح به.
أما سلمان فإنما وعد بالبحث عن بهزاد حياء من دنانير؛ لأنه كان يرغب في الرجوع إلى ابن الفضل قياما بوعده ليغتنم فرصة ذلك الانقلاب عسى أن ينفعه فيما هو فيه. على أنه كان لا يرى موجبا للقلق لغياب مولاه لعلمه بكثرة شواغله. فاستأنف الكلام وقال: «ها أنا ذا ذاهب للبحث عن الطبيب والاتكال على الله.» وخرج.
ميمونة وابن الفضل
خرج سلمان من القصر المأموني بعد أن بدل ثيابه، وركب بغلته وسار إلى قصر الفضل بن الربيع. والقصر يومئذ في الرصافة بالجانب الشرقي من بغداد يشرف على سوق الميدان، وكان في الأصل إقطاعا أقطعه الرشيد لعباد بن الخصيب، فصار كله للفضل بن الربيع يقيم به مع أهله، وهو على مسافة بعيدة من القصر المأموني وإن كان كلاهما على الجانب الشرقي من بغداد. فقطع سلمان المخرم حتى دخل طريق الميدان، وهو يبتدئ من سوق الثلاثاء وينتهي بالشماسية ويعرف هناك بطريق الخضير. وكانت تحمل إليه المصنوعات الصينية وغيرها من الأواني الثمينة وتباع فيه.
فلما وصل إلى باب القصر عند الغروب، وجد ابن الفضل في انتظاره وقد أوصى الحرس بأن يدخلوه إليه، فلم يمهله الحارس حتى يترجل بل سارع إليه فابتدره قائلا: «الملفان سعدون؟» فقال: «نعم.»
قال: «إن مولانا في انتظارك ... اتبعني.»
فترجل سلمان ومشى في طريق الحديقة يضرب الأرض بعكازه ويتباطأ في مشيته مطرقا متمتما كأنه يتلو آية أو يقرأ تعويذة، وأسرع حارس آخر فسبقهما وأنبأ ابن الفضل بقدومه. فقطعا البستان حتى وصلا إلى باب القصر الداخلي فإذا بابن الفضل قد خرج لملاقاته والترحيب به، وصافحه ومشى بجانبه حتى اتصلا من الدهليز إلى قاعة استطرقا منها إلى غرفة لا يدخلها غير ابن الفضل وبعض خاصته، وفيها سرير بجانبه كرسيان، وفي أرضها بساط ثمين، وفي إحدى زواياها منارة عليها عدة شموع أناروها فجلس ابن الفضل على السرير ودعا سلمان إلى الجلوس على كرسي بجانبه قائلا: «مرحبا بالملفان سعدون.»
فجلس سلمان وما زال يتمتم وقد ألصق ذراعه بجنبه كأنه يتأبط شيئا يحرص عليه، فلما استقر به الجلوس أخرج من تحت إبطه منديلا من الحرير فيه كتاب هو درج من الرق قديم العهد تخرق من بعض جوانبه، وتمهل في حل الصرة وأخرج الدرج مبالغة في الحرص عليه، ووضعه في حجره فبانت من خلال الخروق كتابة بحرف لا يقرؤه الإنس ولا الجان. ثم رفع رأسه كأنه فرغ من القراءة أو التعزيم، ومسح وجهه من جبهته إلى لحيته، والتفت إلى ابن الفضل وأخذ يثني عليه لحسن وفادته فأجابه: «لقد أتيت أهلا ونزلت سهلا.» وبش له يستأنس به استعدادا لما ينوي كشفه له من أسرار.
فابتسم الملفان وقال: «لقد بالغت في إكرامي أيها الوزير.»
فغلب على وهمه أن الملفان إنما يدعوه وزيرا لما تبين له من علم الغيب في مستقبله، لكنه تجاهل وأحب أن يحقق ظنه فقال: «إنك تدعوني وزيرا والوزير أبي.»
فقال: «إن ابن الوزير وزير يا سيدي، مر بما تشاء.»
قال: «دعوتني وزيرا وأنا أدعوك رئيس المنجمين في دار أمير المؤمنين.» فأدرك سلمان أنه يعده بهذا المنصب وهو يستطيعه لعظم نفوذ أبيه ورضى الأمين عنهما؛ فأحب أن يثبته في وعده، فقال: «بورك في ابن الفضل؛ فإنه يقول ويفعل، وأنا سامع مطيع.»
فأطرق ابن الفضل وأعمل فكرته ثم قال: «دعوتك لأسر إليك أمرا أنا شديد الحرص على كتمانه وطيد الأمل في الحصول عليه.»
قال: «أما ما يشير إليه مولاي فهو سر عن كل الناس إلا علي؛ فالملفان سعدون لا يقال له ذلك.»
فاستغرب ابن الفضل دعواه وأحب أن يمتحنه فقال: «وهل تعلم سري؟»
وكان سلمان قد سمع بعض خدم القصر المأموني يذكرون حب ابن الفضل لميمونة، كما سمعه من عبادة عندما كانت تقصه على دنانير، وكان الخدم يومئذ من أكثر الناس اطلاعا على أسرار مواليهم؛ لأنهم كانوا لا يحذرون التكلم أمامهم استخفافا بهم؛ فقال: «أظنني أعرف سرك إلا إذا كنت تعني غير حبك لتلك الفتاة التي تظن نفسها مجهولة النسب.»
فدهش ابن الفضل عندما فاجأه بهذا التصريح وبانت الدهشة في وجهه، وسهل عليه أن يكاشفه بما يكنه ضميره فقال: «أما وقد علمت سري فلا أخفي عليك أني أحب تلك الفتاة حبا مبرحا، أحبها من كل قلبي، وأتعشقها بكل جوارحي!» قال ذلك ودلائل الحب ظاهرة في وجهه، فأبرقت عيناه واحمر وجهه.
فضحك وهز رأسه وقال: «إن الحب سلطان. أأنت تحبها؟»
فقال: «نعم أحبها، فهل تحبني هي؟»
قال: «لا أدري، لو كانت معنا الآن لعرفت مكنونات قلبها، غير أن ذلك يحتاج إلى مندل.»
قال: «هب أنها لا تحبني، بل يظهر لي أنها لا تحبني الآن، فما الحيلة؟ إني إنما دعوتك لأستعين بك على ذلك؛ فما قولك؟»
فتناول سلمان الدرج من حجره وفتحه وأخذ يقلبه بين يديه ويتظاهر بأنه يقرأ شيئا منه ويعيد القراءة ويطرق، ثم يرفع بصره إلى السقف ويعيده إلى الكتاب، ثم ينظر إلى وجه ابن الفضل ويتفرس فيه، وأخيرا أطرق ويده على لحيته كأنه يفكر ويأسف، ثم قال: «إن حبيبتك انتقلت من مكانها.»
فأجفل ابن الفضل وقال: «أين كانت وأين صارت؟»
قال: «ألم تكن في المدائن؟» قال: «بلى.»
قال: «ليست هناك الآن.» قال: «وأين هي؟ أين ذهبت؟»
فقال: «إني أعلم أنها خرجت من المدائن، ولا أدري أين تقيم الآن. إن ذلك يحتاج إلى بحث.»
قال: «لعلها في الطريق الآن؟» قال ذلك لاعتقاده أنها لو كانت في مكان معين لما خفي ذلك على علم الملفان سعدون.
فقال سلمان: «ربما كانت في الطريق، ولكن هذا ليس بأمر ذي بال. هب أنها في السماء أو في الأرض أو ما بينهما؛ فهي لا تنجو من يدي.»
فأبرقت أسرة الفضل واطمأن خاطره وقال: «جزاك الله خيرا. افعل ما بدا لك ولا تبخل بالإنفاق على إتمام هذا العمل؛ فإني أبذل ما أملكه في سبيل الحصول عليها، إنما أريد أن آخذها بشرع الله؛ لأني أحبها حبا صادقا ولا أدري ما الذي يحملها على مجافاتي.»
فابتسم سلمان وقال مستخفا: «أظنك تدري السبب؛ إن عداوة الآباء تتصل بالبنين.»
فازداد ابن الفضل استغرابا لكشف هذا السر وقال: «صدقت، ذلك هو السبب، ولكنها لو علمت خطر حبي لها وأني سأنسيها ما فعله أبي بأبيها لرضيت.»
قال: «علمت ذلك ولم ترض، ولكن هذا لا يهمنا فإنها سترضى. إن هذا القلم يجعل الصخر ماء والماء صخرا، أفلا يلين قلب فتاة؟» وأشار إلى دواة مغروسة في منطقته.
قال: «افعل ما تراه ولا تسل عما تبذله في هذا السبيل.»
فنظر إليه شزرا وقال: «ألم تكن حاضرا بالأمس عند صاحب الشرطة؟ إنكم لا تزالون تهينون الأصدقاء، ولكنكم تعودتم عشرة المتملقين والمتزلفين؛ فلا لوم عليكم!»
فابتدره ابن الفضل معتذرا وقال: «عفوا يا سيدي، فإني أقبل منك هذا الجميل، وأرجو أن تقبل وساطتي مع صاحب الشرطة في أن تكون رئيس المنجمين عند أمير المؤمنين. وإننا إذ نفعل ذلك فإنما نؤدي خدمة عظمى للخليفة؛ لأن وجود مثلك في بلاطه نعمة من نعم الله. فماذا أنت فاعل الآن؟»
قال: «دعني أبحث عن مقرها، وسأكتب لك كتابا إذا استطعت توصيله على ما سأصف لك أتتك مذعنة مطيعة.»
فلم يتمالك ابن الفضل عن النهوض بغتة وقال: «أصحيح ما تقول؟ إني لا أعرف كيف أشكرك. ومتى تكتب هذا الكتاب؟»
قال: «أكتبه متى انتهيت من بحثي، لا تضجر، ولا تستعجل.»
قال: «افعل ما يتراءى لك إلا أمرا واحدا أرجو منك أن تطيعني فيه.»
قال: «وما هو؟» قال: «أن تبيت عندي الليلة وتصحبني غدا إلى دار الخلافة فأقدمك إلى أمير المؤمنين ليجعلك رئيس المنجمين.»
قال: «الأمر لك، ولكنني لا أبيت عندك وإنما آتيك غدا إذا شئت.»
قال: «بل تبيت عندي؛ فإن القصر واسع تختار منه مخدعا لا يزعجك فيه أحد، وقد أرسلت إلى صاحب الشرطة أن يوافينا غدا إلى قصر الخلافة في مدينة المنصور؛ لأن دار الخلافة انتقلت بعد مبايعة الأمين من قصر الخلد الذي نعرفه خارج باب خراسان إلى داخل المدينة.» قال ذلك وصفق فدخل غلامه فقال له: «أعد لنا المائدة للعشاء، وقل لقيم الدار أن يعد لنا مخدعا ليبيت فيه الملفان.» قال ذلك مصمما؛ فلما رأى تصميمه خاف أن يخالفه فيفسد عليه تدبيره، فأطاع وبعد هنيهة نهض للعشاء، ثم بات ليلته هناك.
موكب ابن الفضل
في صباح اليوم التالي ركب ابن الفضل في موكبه وعليه الجبة السوداء التي يقابل بها الخلفاء العباسيين، وامتطى سلمان بغلته وهو في قيافته المعهودة، وخرجا من الرصافة غربا نحو الجسر حتى إذا قطعاه جاءا الطريق المؤدي إلى قصر الخلد فتجاوزاه إلى قصر المنصور، المعروف بباب الذهب حيث أقام الأمين بعد البيعة.
وكانت مدينة المنصور مستديرة الشكل حولها سور ضخم طوله عشرون ألف ذراع وعرض أساسه تسعون ذراعا، ثم ينحط حتى يصير في أعلاه خمسا وعشرين ذراعا وارتفاعه ستون ذراعا. وهو السور الأعظم، ويحيط به من الخارج فراغ عرضه مثل عرضه، وحول الفراغ المذكور سور آخر يقال له الفصيل، له أبراج عظام وعليه الشرفات المدورة وخارج الفصيل وحوله، كما يدور مسناة بالآجر والصاروج متقنة محكمة. وخارج المسناة وحولها خندق أجري فيه الماء، ووراء الخندق طرق للمارة والباعة ووراءها الأرباض.
وفي داخل السور الأعظم سور آخر أصغر منه، وبين السورين فراغ فيه أبنية لأهل الأسواق، ينتهى إلى كل من السورين بطريق مرصف بالحجارة، فسور المدينة ثلاثة أسوار أعظمها أوسطها.
وللسور أبواب سميت باسم المدن التي تتجه نحوها، وهي: باب خراسان، وباب الشام، وباب الكوفة، وباب البصرة. وكل منها مؤلف من عدة أبواب عليها الأبراج ولها الشرفات والكوى. ولكل باب أربعة دهاليز عظام طول كل دهليز ثمانون ذراعا كلها معقودة بالآجر والجص. فإذا دخل أحد في الدهليز الذي على الفصيل، أو السور الخارجي، وافى رحبة مفروشة بالصخر، ثم دهليز السور الأعظم وعليه بابان عظيمان من الحديد لا يغلق الواحد منهما إلا جماعة من الرجال، وهما عظيما الارتفاع يدخل الفارس فيهما بالعلم، والرامح بالرمح الطويل من غير أن يميل العلم أو يثني الرمح، فإذا مر الراكب من دهليز السور الأعظم سار في رحبة إلى طاقات معقودة بالآجر والجص فيها كوى رومية مصنوعة صنعا خاصا بحيث تدخل منها أشعة الشمس أو الضوء ولا يدخل منها المطر، وفيها منازل الغلمان.
وفوق كل باب من أبواب السور الأعظم قبة معقودة عظيمة مذهبة، حولها مجالس ومرتفعات يجلس فيها المرء فيشرف على ما دونه. ويصعد إلى هذه القباب على عقود مبنية بعضها بالجص والآجر وبعضها باللبن، وقد جعل بعضها أعلى من بعض، بشكل عجيب رهيب.
فأطل ابن الفضل بموكبه على باب خراسان، وبجانبه الملفان سعدون على بغلته، فلما رآهما الحرس وسعوا إجلالا لابن الوزير، فتقدما وهما راكبان والخدم في ركابهما، فدخلا من الدهليز إلى الفصيل أو السور الخارجي. ثم سمعوا قرقعة حوافر الجياد على الرحبة المفروشة بالصخر المؤدية إلى دهليز السور الأعظم، وكان البوابون لما علموا بقدوم ابن الفضل قد تعاونوا على فتح أحد البابين العظيمين، فسمع لفتحه صرير هائل لثقل حديده وعلوه، فدخلا بموكبهما فيه، حيث بدت العتبة العليا أعلى كثيرا من رءوس الراكبين. وكان سعدون أثناء ذلك ينظر إلى ما وراء تلك الرحبة من الطاقات المعقودة، وإلى شكل كواها الرومية وقد أطل منها الغلمان لمشاهدة الموكب، فلما خرجوا من الباب المذكور إلى الرحبة التي بينه وبين الطاقات، حول سعدون بصره إلى القبة العظمى المعقودة فوق الباب وما يغشاها من الزينة المذهبة ويتعلق بها من المجالس والمرتفعات المشرفة على كل ما حولها، وأخذ يتأمل فيما عليها من المصاعد المبنية بالجص بعضها فوق بعض، وقد امتلأت نفسه إعجابا وعجبا من عظمتها ورهبتها.
تجاوز موكب ابن الفضل تلك الطاقات ودخل إلى باب آخر غير أبواب السور المذكور ورقوا منه إلى الرحبة الكبرى في منتصف المدينة، وكان قصر المنصور في وسط الرحبة، يسمونه قصر الذهب نسبة إلى بابه المذهب، وبجانب القصر المسجد الجامع المعروف بجامع المنصور. ومشى الموكب في الرحبة مسافة كبيرة في خلاء لا بناء فيه حتى أقبل على القصر والجامع وسط الرحبة، وحولهما فناء ليس به من الأبنية غير دار من جهة الشارع المؤدي إلى باب الشام يقيم بها الحراس، وسقيفتين ممتدتين على عمد مبنية بالآجر والجص، يجلس في إحداهما صاحب الشرطة وفي الأخرى صاحب الحرس. وكانت حول الرحبة منازل بناها لأبناء العم الأصاغر ولمن يقربهم من خدمه وعبيده، وأبنية لبيت المال، وخزانة السلاح، وديوان الرسائل، وديوان الخراج، وديوان الخاتم، وديوان الجند، وغيرها. وبين الطاقات مسالك ودروب أعدها المنصور لقواده ومواليه.
وكان ابن الفضل كلما أقبل على باب وقف له حراسه، فلما دخل الرحبة الكبرى لفت انتباهه الصهيل والحمحمة والنهيق وغير ذلك من أصوات الدواب؛ لأن الرحبة كانت غاصة بالخيل والبغال والحمير فضلا عما أدخل منها إلى الإصطبلات، ومعها العبيد والخدم في انتظار من جاءوا عليها من الأمراء والقواد لتهنئة الأمين بالخلافة، أو جاءوا لغرض آخر.
وكان سعدون (أو سلمان) ينظر إلى ذلك ويراقبه ولا يبتعد ببغلته عن ابن الفضل، حتى إذا دنوا من القصر تحول ابن الفضل نحو السقيفة التي يقيم بها صاحب الشرطة لمقابلة ابن ماهان قبل الدخول على الخليفة، فأرسل بعض من في ركابه من الخدم ليتقدمه بالسؤال عنه في السقيفة، فعاد يقول إنه في حضرة أمير المؤمنين بعث إليه من بضع دقائق.
فلم يتعجب ابن الفضل لذلك، ولكنه كان يرجو أن يراه قبل دخوله على الأمين ليتفق معه على تقديم الملفان سعدون إليه ، ولكنه لم ير بدا من النزول عن جواده، فنزل ونزل سعدون عن بغلته، ومشيا إلى باب القصر فوقف لهما الحراس وهم ينظرون إلى الملفان ويستغربون شكله وقيافته ومشيه بعكازه والدواة في منطقته، وما زال يمشي بجانب ابن الفضل حتى بلغا باب القصر الداخلي، مارين في الباحة بجماعات من القادمين على الخليفة فيهم الأمراء والقواد والشعراء وغيرهم من الوفود.
وكان الأمين كريما جوادا، يغدق على الجند رغبة في استنصارهم لما يعلمه من حرج مركزه؛ ولذلك أعطاهم رزق 24 شهرا يوم مبايعته، ففرحوا وفرح معهم أهل بغداد كافة؛ لأن هذه الأموال تنفق في المدينة فيدفع الجند منها ما عليهم ويبتاعون ما يحتاجون إليه من الآنية أو الطعام أو اللباس؛ فلا غرو إذا سر البغداديون بتبديل الخلفاء بعد أن جرت العادة بأن يأمروا بمثل هذا العطاء عند مبايعتهم.
وعرف ابن الفضل كثيرون من الواقفين هناك فخف بعضهم لتحيته، وتزلف إليه آخرون؛ لأنه ابن الوزير، والوزير يومئذ صاحب الحل والعقد. فسأل بعضهم عن سبب وقوفهم هناك فقالوا: «إن الخليفة في شاغل مع صاحب الشرطة بعد أن جاءه هذا الرسول.» وأشار إلى رجل واقف في بعض جوانب الباحة؛ فعرف ابن الفضل أنه من موالي أبيه، وكان الرجل قد رأى ابن الفضل مارا فلم يجرؤ على مبادأته بالحديث، فلما رآه ينظر إليه ويبتسم هرول نحوه وقبل يده فقال له: «ما وراءك؟ وما الذي جاء بك؟»
قال: «أرسلني مولاي الوزير برسالة إلى أمير المؤمنين.»
قال: «وأين أبي الآن؟»
قال: «قريب من بغداد، وقد أرسلني لأبشر بقدومه.»
قال: «وهل جئت بكتاب منه؟»
قال: «جئت بكتاب دفعته إلى أمير المؤمنين، ولعله السبب في تأخير الإذن للناس كما ترى، وإنما دخل عليه صاحب الشرطة.»
فاشتد ميل ابن الفضل للدخول على الأمين وإن لم يؤذن لسواه فيفاخر أهل البلاط بدالته على صاحب الخلافة، فظل ماشيا وابن سعدون بجانبه حتى أقبل على باب القصر والحرس الشاكرية وقوف بالأسلحة، فتأدبوا عند مشاهدته، ثم خرج الحاجب لملاقاته وتلطف في الترحيب به وفي غنة صوته وملامح وجهه شبه اعتذار عن عدم إدخاله؛ فأدرك ابن الفضل غرضه فابتدره قائلا: «استأذن أمير المؤمنين في دخولي ودخول رفيقي هذا.» وأشار إلى سعدون.
فتردد الحاجب حينا ولم يجسر على التصريح بأن أمير المؤمنين لا يأذن لأحد، ثم غلب عليه الخوف فدخل على الأمين، وظل ابن الفضل في انتظاره والناس ينظرون إليه ويتوقعون أن يرد طلبه فيفشل ما أراده من التقدم عليهم جميعا. أما هو فكان يتوقع الإذن له، رعاية لمنزلة أبيه. وبعد هنيهة عاد الحاجب وهو يبتسم وقال: «ادخل إذا شئت.»
فدخل إلى مكان تخلع فيه الأحذية فخلع حذاءه، وفعل سلمان مثل فعله، وتقدم بعض الخدم فتناولوا الحذاءين ووضعوهما على أماكن معدة لذلك. ومشيا على الأبسطة المفروشة في الدهليز، وتطرقا من قاعة إلى قاعة والحاجب يمشي بين يديهما حتى وصلا إلى مجلس الأمين، وكان على بابه ستر من الديباج المطرز فتقدم الحاجب وأزاح الستر وصاح: «مولاي ابن الفضل ورفيقه بالباب.»
الأمين والفضل بن الربيع
كان الأمين جالسا في صدر القاعة على سرير من الآبنوس المنزل بالعاج بلا ترصيع ولا تذهيب؛ لأنه السرير الذي كان يجلس عليه المنصور قبل أن يغرق العباسيون في الحضارة والترف واستخدام الذهب والجوهر في آنيتهم ومجالسهم، وكانت على أرض القاعة طنافس ثمينة قليلة الزينة عليها الوسائد والكراسي. وقد ارتدى الأمين مثل ملابسه يوم المبايعة لأنه ما زال يستقبل المهنئين والمبايعين، فدخل ابن الفضل ورفيقه فرأيا بين يدي الأمين ماهان صاحب الشرطة، وقد قعد على وسادة قعود أهل الدولة بلا كبير تهيب؛ لأن الأمين لم يكن في مثل هيبة أبيه، ولا سيما مع من تعود مجالستهم من خاصته في مجالس الشراب أو الطرب، ومع أمثال ابن ماهان وغيره من ذوي شوراه الذين يحتاج إلى رأيهم أو مساعدتهم.
وكان الأمين شديد الثقة بابن ماهان والفضل بن الربيع، يستشيرهما في مهامه. فلما جاءه كتاب الفضل في ذلك الصباح ينبئه بقدومه ومعه الأحمال ومن بقي من رجال الرشيد وأنه لا يلبث أن يصل إلى بغداد ليقص عليه تفصيل ما فعله ، اهتم الأمين بذلك الكتاب وبعث إلى ابن ماهان ليطلعه عليه، وأمر بألا يدخلوا عليهما أحدا من الزوار. فجاء ابن ماهان فدفع إليه الأمين كتاب الفضل، ثم لم يكد يتم قراءته حتى جاء الحاجب يستأذن لابن الفضل ورفيقه، فسأل الأمين عن ذلك الرفيق فقال الحاجب: «هو رجل من علماء حران كأنه حاخام أو ملفان.»
فقال: «وما شأنه؟»
فعلم ابن ماهان أنه الملفان سعدون، فتبسم وقال: «أظنه الملفان سعدون الحراني. إن لهذا الرجل شأنا عظيما، وله قوة غريبة على استطلاع الغيب.» فالتفت الأمين إلى ابن ماهان وقال: «هل تعرفه؟»
قال: «إذا كان هو الملفان سعدون فقد عرفته؛ لأني اجتمعت به في جلسة ورأيت منه المعجزات.»
فهز الأمين رأسه وقال: «إني قليل الثقة بهؤلاء الدجالين.»
قال: «ليس الرجل دجالا يا مولاي، بل هو منجم.»
قال: «المنجمون كثيرون عندنا وقلما يصدقون!»
قال: «سترى فيه ما لم تعهده في سواه إذا أذنت في دخوله، وعند الامتحان يكرم المرء أو يهان.»
فأشار الأمين إلى الحاجب أن يدخلهما ففعل.
ولما أقبل ابن الفضل على الأمين حياه بتحية الخلافة ووقف حتى أشار إليه بالجلوس، ثم التفت إلى الملفان فابتدره هذا بالسلام أيضا، فقال له: «اجلس يا ملفان.»
فجلس على البساط جاثيا وتأدب في مجلسه مطرقا ساكتا، فقال له الأمين: «أخبرنا صاحب شرطتنا أنك من المنجمين.»
فأجاب سلمان: «إني من عبيد أمير المؤمنين.»
قال: «وهل أنت صادق في تنجيمك؟»
قال: «على أن أصدق في إبلاغ أمير المؤمنين ما أراه وأقرؤه طبقا لقواعد العلم، وله الرأي في تصديقه أو تكذيبه!»
فحول الأمين نظره إلى صاحب الشرطة كأنه يستشيره فيما يمتحنه به، فقال: «هذا كتاب الوزير يقول فيه إنه سيقص على أمير المؤمنين ما فعله في طوس، فليمتحن الملفان به.»
فاستحسن الأمين ذلك، والتفت إلى سعدون وقال: «جاءنا كتاب وزيرنا الساعة بأنه قادم إلينا، فهل لك أن تخبرنا بما سيتلوه علينا؟»
فأحنى الملفان رأسه احتراما، ثم مد يده إلى جيبه وأخرج الدرج المعهود، وحل المنديل وأخذ يقلبه بين يديه، ويتمتم مظهرا أنه يقرأ ويتفهم ويتفطن، ثم رفع بصره إلى الأمين وقال: «إن الوزير حفظه الله يحمل إليك خبرا مهما خاصا بالخلافة.»
فضحك الأمين مستخفا وقال: «طبعا، إنه يعلم بمبايعتي وليس في ذلك شيء من الغيب!»
قال الملفان: «صدق أمير المؤمنين، ولكن الوزير سينقل إليك شيئا جديدا عن أخيك المأمون، ولعله أخرجه من البيعة!»
فبغت الأمين وقال: «هل أخرجه منها؟»
فهز الملفان كتفيه وقال: «يظهر لي مما أقرؤه في هذه الأوراق أنه فعل ذلك، ولم يجد في سبيله مشقة؛ فإذا كان فيه ما يسوء أمير المؤمنين فلا ذنب لي.»
فتظاهر الأمين باستيائه لإخراج أخيه من البيعة وقال: «هل فعلها الفضل؟ ما أظنه فعلها! فاحذر مما تقول واعلم أنك تقول قولا تقطع فيه الرقاب.»
فقال بجأش رابط: «قلت لمولاي إني لا أقول شيئا من عندي وإنما أنا أقرؤه فيما بين يدي، وإذا طويت الكتاب نسيت ما قلته.»
فقال الأمين وهو يظهر الغضب: «إنها وشاية تعاقب عليها!»
قال وهو ساكن الجأش: «العفو يا مولاي، لا ذنب لي فيما قلته؛ فإني أقول ما أراه، ولم يخدعني هذا العلم من قبل.»
فبالغ الأمين في إظهار التهديد، ثم قال: «يكفي هذا.» والتفت إلى ابن الفضل وقال: «هل جاءك من أبيك شيء من هذا القبيل؟»
قال: «كلا يا مولاي، إنه لم يكتب إلي بشيء.» ولم يجسر أن يخبره بما قصه عليهم الملفان بالأمس.»
ثم التفت إلى ابن ماهان وقال: «ألم أقل لكم إن هؤلاء المنجمين يتقربون إلينا بكذبهم؟»
فابتسم ابن ماهان ابتسام المستعطف وهمس للأمين قائلا: «إنني أعرف صدق أخبار الملفان سعدون، وإذا شاء مولاي أن يختبر صدقه فعل، إن الوزير لا يلبث أن يصل إلى بغداد الليلة أو صباح غد، وسيعلم مولاي ما فعله، والرأي بعد ذلك لأمير المؤمنين!»
وكان الملفان أثناء ذلك يتشاغل بتقليب الدرج بين يديه يتمتم كأنه لا يسمع ما يقولون حتى سمع الأمين ينادي: «يا غلام.»
فدخل الحاجب وتأدب فقال له: «قل لصاحب الإنزال أن يأخذ هذا الملفان إلى دار الأضياف، يقيم هناك في كرامة ورعاية حتى أطلبه.» والتفت إلى الملفان وقال: «تفضل إن شئت وكن مطمئنا حتى ندعوك.»
فنهض سلمان واستعاذ بالله من الانتظار مخافة أن يبطئ على أهل القصر المأموني وهم في قلق على تأخر الطبيب بهزاد، لكنه لم ير بدا من الطاعة؛ فخرج وسار مكرما إلى منزل بجانب مطبخ العامة، جاءوه فيه بما يحتاج من الطعام والشراب.
ومكث هناك كأنه على الجمر بقية يومه، وفي ضحى اليوم التالي جاءه رسول الخليفة يستقدمه إلى المجلس الخاص، فسار بعد أن أصلح هندامه وأتقن تنكره وهو يتظاهر بالسذاجة وصفاء النية وخلوص السريرة، فلما دخل على الخليفة وجد عنده ابن ماهان وابن الفضل، فأمره الأمين بالجلوس وقال له: «إن وزيرنا الفضل آت عما قريب، وسنسأله عن أمره بحضورك ثم نرى ما يكون.»
فحنى رأسه مطيعا ووقف، فأمر له الأمين بالجلوس فجلس.
ثم جاء الحاجب يقول: «الوزير الفضل بالباب يا مولاي.»
فأبرقت أسرة الأمين وصاح: «يدخل وزيرنا الفضل.»
وما عتم أن عاد الحاجب ووسع الستر، فدخل الفضل وآثار السفر بادية في وجهه، فحيا بتحية الخلافة وقال: «يعذرني أمير المؤمنين أن أدخل عليه قبل إصلاح شأني.»
وكان الفضل يومئذ في أواسط الكهولة وقد وخط الشيب لحيته وتغضن جبينه وظهر تغضنه مع أن أكثره مخبأ تحت القلنسوة، وقد تردى بالقباء الأسود على عادة الداخلين على الخلفاء العباسيين.
فهش له الأمين وأجلسه على كرسي بجانبه، فأخذ الفضل يعزيه في الرشيد، ثم هنأه بالخلافة ودعا له بطول البقاء، وسكت وهو يجيل نظره في الجالسين كأنه يلتمس الخلوة ليقص على الأمين ما جاء به، فابتدره الأمين قائلا: «إذا كنت قد جئتنا بخبر فاقصصه علينا.»
فقال: «هل أقصه الآن؟» قال: «نعم، قل ما عندك، إن هذا المنجم يزعم أنه عرف ما فعلته، وقد أردت أن أمتحن معرفته، فإذا كان مصيبا أنعمنا عليه وإلا كان عقابه شديدا.»
فقال ابن ماهان: «هل يأذن أمير المؤمنين في كلمة.» قال: «قل.»
قال: «إذا كان القتل جزاء هذا الملفان إذا ظهر كذبه، فما جزاؤه إذا صدق ؟ هل يأمر مولاي حينئذ بأن يجعله كبير المنجمين في قصره لعله ينفعنا بعلمه؟»
قال: «سأفعل.» والتفت إلى الفضل وقال: «قل ما الذي فعلته بأخينا عبد الله المأمون والخلافة؟»
فاستغرب الفضل السؤال على هذه الصورة وقال: «فعلت ما أراه عائدا على الدولة بالخير؛ فليس يخفى على أمير المؤمنين أن مولانا الرشيد كان عند سفره قد استمع لإغراء بعض ذوي الأغراض، فبايع للمأمون وأوصى له بجميع ما في عسكره، مع أن البيعة سبقت لمولانا الأمين صاحب هذا العرش، فلما قبض الرشيد رأيت أن في بقاء بيعة المأمون ما قد يؤدي إلى انقسام الخلافة واستفحال الفتنة، فاستشرت أصحابي وأجمعنا على الرجوع إلى الصواب، فأبطلنا بيعة المأمون وجعلنا الخلافة مستقلة لمولانا أمير المؤمنين.»
قال: «والمأمون ماذا فعلتم به؟»
قال: «لم نفعل به شيئا؛ فإنه باق على خراسان كما كانت الوصية من قبل، على أن يكون وليا للعهد.»
فما أتم كلامه حتى بانت الدهشة في وجه الأمين، ونظر إلى الملفان سعدون، فرآه مطرقا هادئا لا يخامره خوف ولا اضطراب، فلم يتمالك الأمين أن صاح به: «ويلك من أين أتاك علم الغيب؟»
فرفع بصره إلى الأمين وقال: «لا فضل لي يا مولاي، إن هذا العلم معروف عند المنجمين، ولكن الذين يصدقون في استخدامه قليلون.»
فقال: «إنما أعجبني صدقك من غير ادعاء، قد جعلناك رئيس المنجمين.»
فوقف سلمان وانحنى بين يدي الأمين ودعا له بطول البقاء ثم قال: «إن هذه نعمة لا أستحقها!»
قال: «بل أنت أهل لذلك وهذا جزاء الصادقين.» وصفق فجاء الحاجب فقال له: «قل لقيم الدار أن يعد للملفان منزلا يقيم به وأن يفرض له العطاء؛ فقد صار رئيس المنجمين.» ثم أشار إلى الملفان أن يجلس فانحنى ثانية وكرر الدعاء وجلس وهو يقول: «إن منازل أمير المؤمنين واسعة وحيثما أقمت فإنما أكون في حياطته غارقا في نعمائه، وإذا سمح لي أن أقيم حيث شئت كان ذلك أدعى لمرضاته؛ لأني لا أستغني عن الانفراد في منزلي أحيانا لعمل المندل أو مطالعة كتب التنجيم، على أن أكون بين يدي أمير المؤمنين متى شاء، ولو جاز أن ترد هبته لتقدمت إليه أن يجعلني خادما رقيقا بلا أجر؛ فإن من تعاطى هذه الصناعة على حقها وجب عليه إنكار نفسه والبعد عن ملاذ الدنيا وعن التوسع في أسباب العيش، ولكن نعم أمير المؤمنين لا ترد.»
فاستغرب الأمين هذا التعفف ولم يخطر له سماعه من مثل هذا الرجل وهو يعلم أن أمثاله إنما يتقربون إلى دار الخليفة طمعا في المال؛ فالتفت إلى ابن ماهان والاستغراب باد في وجهه كأنه يستطلع رأيه فقال ابن ماهان: «إن الملفان سعدون هذا طبعه، والأمر لأمير المؤمنين.»
فقال: «ولكنا قد نحتاج إليه في ساعة لا نجده فيها.»
فقال الملفان: «إني أقيم بدار أمير المؤمنين على أن يؤذن لي في الخروج إلى منزلي متى رأيت في الخروج فائدة فلا يعترضني أحد، ولا أظن الحاجة تمس إلى دعوتي فلا يجدوني.»
فقال الأمين: «لك ذلك.»
وكان الفضل أثناء الحديث ينظر إلى الملفان سعدون ويتفرس فيه، وقد دهش لما سمعه وكأنه ارتاب في أمره.
أما الأمين فكان شديد الرغبة في سماع تفصيل الخبر من الفضل، فألقى قضيب الخلافة على السرير بجانبه وتزحزح من مكانه، فأدرك الحضور أنه يريد أن ينصرفوا، فوقفوا وخرجوا، بينما أشار الأمين إلى الفضل أن يبقى. أما سلمان فمشى حتى بلغ مكان بغلته فركبها ومضى إلى القصر المأموني.
إلى المدائن
تركنا القصر المأموني في انتظار عودة سلمان بعد أن ذهب يبحث عن بهزاد. فلما انقضى النهار ولم يعد باتوا على أحر من الجمر، ثم أصبحوا في اليوم التالي وهم يتوقعون قدوم بهزاد أو قدوم سلمان بخبر عنه، فمضى أكثر النهار أيضا ولم يعد أحدهما؛ فأخذ القلق منهم مأخذا عظيما. ومما زاد في قلقهم أن زينب بنت المأمون أصيبت بحمى شديدة صباح هذا اليوم، على أثر ما انتابها من الحزن. ولا تسل عن حال دنانير عند ذلك؛ فقد اشتد بها القلق ورجت منها أن تقبل دعوة أحد أطباء القصر الكثيرين ، وفيهم المهرة من كل طبقة، فلم ترض إلا بهزاد، فأرسلوا الغلمان يستشرفونه من الطرق أو على الشاطئ فطال انتظارهم. وكانت ميمونة أشد قلقا منهم جميعا، وقد حرصت على ألا تظهر ذلك حتى لا تكشف أسرار قلبها.
على أنها لما رأت زينب مريضة هان عليها إظهار قلقها محتجة بالقلق على صحة بنت المأمون، فأخذت تطل ساعة من الشرفات على الطرق وأخرى من الأبواب إلى دجلة، لعلها تراه قادما على فرس أو في قارب. ولما أعياها البحث جلست في غرفة منامها وقد كل دماغها من الاهتمام وبان التعب في محياها فعلاه شحوب وتقطب، فاستلقت على الفراش وهي تحسب لتأخر بهزاد ألف حساب، وتراجع ما دار بينها وبينه في ساعة الفراق فلا تزداد إلا رغبة في لقائه.
وكانت الشمس قد مالت إلى المغيب فأظلمت الدنيا في عينيها وفارقها صبرها؛ فخرجت راجية أن تلقى من يخبرها بقدومه أو تسمع صوته في الدهليز، وإنما توقعت ذلك لأن رغبة الإنسان في الأمر تصور له سهولة الإدراك ولو كان مستحيلا، فكيف ومجيء بهزاد من أقرب الأمور لأنهم على موعد معه؟
ومشت في الدهليز إلى الباب المطل على دجلة، وجعلت تتفرس في السفن الصاعدة والنازلة متمنية أن يكون بهزاد في واحدة منها، وتوهمت غير مرة أنه هناك فلما تكررت خيبتها يئست من مجيئه، ثم جلست إلى مقعد بجانب نافذة تطل على دجلة وأخذت تفكر في أسباب تأخر بهزاد، موزعة النفس بين التفاؤل والتطير؛ فصارت إذا رأت طيرا يسبح في الفضاء قالت في نفسها: «إذا حط هذا الطائر على هذه الشجرة كان بهزاد قادما الليلة، وكذلك إذا تحول الطائر يمينا فإن هذا يكون فألا يبشر بقدومه، فإذا تحول إلى اليسار، فهذا مما يدعو إلى التشاؤم والتطير.»
وقضت في ذلك حينا، فلما أظلمت الدنيا انتبهت، وظنت أنها تسمع خفق نعال على المسناة قرب الباب؛ فخفق قلبها وأطلت فلم تجد أحدا، فنهضت وأسرعت إلى غرفة زينب فرأت جدتها بجانب سرير الفتاة ودنانير جالسة على السرير قربها، وقد توردت وجنتا زينب من شدة الحمى وكلهم سكوت. فلما أطلت ميمونة ابتدرتها دنانير قائلة بصوت مختنق: «أرأيت ما فعله الطبيب؟»
فقالت ميمونة: «إنه أبطأ علينا ولا بد من شاغل شغله عنا.»
فقالت عبادة: «وأغرب من ذلك غياب سلمان بعد أن وعدنا بالبحث عنه. لا إخال بهزاد إلا في المدائن الآن، وكم أنا نادمة على تقاعدي عن الذهاب للبحث عنه منذ الصباح.»
فقالت دنانير: «إذا لم يأت غدا أرسلنا في طلبه من المدائن.»
فقالت ميمونة: «غدا أذهب إليها مع جدتي وأرجو أن نجده في منزله.»
قالت دنانير: «ستتحملان المشقة في هذا الأمر، و...»
فقطعت عبادة كلامها قائلة: «لا مشقة علينا في ذلك، ولا نظن أحدا يعرف مكانه مثلنا؛ لأننا نعرف البلدة ونعرف بيته فيها، فإذا لم يأت الليلة أو صباح غد، ولم يأت سلمان بخبر عنه، ذهبت أنا وميمونة للبحث عنه هناك.»
قالت دنانير: «بارك الله فيكما، سننتظر إلى غد والاتكال على الله، فإذا لم يكن بد من ذهابكما فليكن ذلك في بعض سفن القصر ومعكما النوتية والخدم. ولولا إصرار مولاتنا على الاستشفاء بدواء هذا الطبيب لكان لنا غنى عن هذه المشقة ببعض أطباء القصر.»
وأصبحوا في اليوم التالي وزينب أحسن حالا، أما ميمونة فألحت على جدتها أن تصر على الذهاب إلى المدائن قياما بخدمة أهل القصر لقاء حسن وفادتهم، فأطاعتها جدتها وألحت على دنانير أن تأمر بإعداد حراقة تسيران بها إلى المدائن، فأمرت قيم القصر بإعدادها فأعدت عند الظهيرة وفيها النوتية وبضعة من غلمان القصر، فركبتاها وأشارت عبادة إلى الربان أن يسير جنوبا فأدار الدفة ونشر شراع الحراقة فسارت وميمونة جالسة في مقعد تشرف منه على الشاطئ الأيسر لعلها ترى بهزاد مارا على جواده في البر، بينما وجهت عبادة التفاتها إلى النهر لعلها تراه في سفينة.
وظلت الحراقة سائرة بهم يساعدها مجرى النهر أكثر مما يساعدها الشراع على الإسراع.
على أن ميمونة كانت تستبطئها وتكاد تحسبها واقفة لفرط رغبتها في الوصول. وكانت عبادة جالسة بالقرب منها صامتة، وكل من في الحراقة سكوت لا يسمعون غير صوت ارتطام الماء بمقدم السفينة. ثم سمعوا ضوضاء وجلبة وراءهم فالتفتت ميمونة فرأت حراقة تسير في أثرهم مسرعة، فتفرست فيها فرأتها جميلة الصنعة عليها نقوش مذهبة ومقدمتها على شكل الفيل بخرطومه ونابيه، فاستغربت منظرها ولفتت نظر جدتها إليها، فقالت هذه: «إنها حراقة الخليفة الأمين. وللأمين خمس حراقات على صورة الأسد والفيل والعقاب والحية والفرس أنفق فيها مالا كثيرا.»
فخفق قلب ميمونة وتصاعد الدم إلى وجهها فتوردت وجنتاها ثم ذهب الاحمرار فجأة وامتقع لونها وصاحت: «ويلاه ... إني أرى أصحاب الحراقة سائرين في أثرنا، ماذا يريدون منا؟»
فأشارت عليها جدتها أن تستتر بالسارية، وأسرعت إلى ربان حراقتهم فأمرته أن يحل الشراع ويسير على مهل متجها إلى الشاطئ ويفسح الطريق للحراقة التي خلفهم. فأدار الرجل الدفة والتفت عبادة بنقابها وانزوت بجانب ميمونة. وكانت حراقة الأمين قد دنت منهم فعرفتا أنها تحمل جندا وعيارين، وسمعت رجلا يقهقه قهقهة السكارى ويقول: «هذه غنيمة باردة!»
فأجابه آخر: «ما لكم وللغنائم؟ ألم يكفكم ما نلتموه من رزق 24 شهرا، فنال راجلكم 480 درهما مرة واحدة، فضلا عن حصتكم من الغنائم؟ إنكم لا تشبعون، أما نحن العيارين فلا رزق لنا إلا من الغنائم؛ إذ لا مرتبات لنا.»
فضحك الأول وقال: «إنكم معشر العيارين أكثر منا رزقا؛ فقد تنتدبون لمثل هذه المهمة تنالون منها مرة واحدة ما لا يتيسر لنا في مرات. فإذا وفقتم إلى القبض على ذلك الخراساني أصبتم رزقا كثيرا.»
فنفر الآخر منه وقال: «لا أظن أمير المؤمنين يعطينا شيئا كثيرا إذا قبضنا عليه؛ فقد طالما قبضنا على أمثاله ولم ننل إلا دراهم معدودة.»
فضحك الجندي مقهقها وقال: «العطاء على قدر العمل، أتريد أن يعطوكم على لص تأخذونه كما يعطونكم على مثل هذا الرجل؟»
فقال: «وما الذي يميزه من سواه؟ دعنا من هذه الآمال الفارغة.»
قال: «إن لهذا الخراساني شأنا عظيما عند أمير المؤمنين لم نكن نعلمه قبل مجيء الوزير.»
وكانت ميمونة منزوية وراء السارية تسترق السمع، فلما سمعت ما قالوه عن الخراساني اختلج قلبها في صدرها خوفا من أن يكون حبيبها؛ فأصاخت بسمعها فسمعت رجلا آخر يقول: «ما لكم ولهذا الهذيان؟ لئن سمعكم مولانا الهرش لأسمعكم ما تكرهون. وما نحن في معرض جدال وإنما جئنا للقبض على ذلك الرجل، فإذا ظفرنا به كان هذا ربحا عظيما لنا جميعا.»
وكانت الحراقة قد حاذت حراقة المأمون، فنهضت ميمونة والتفتت إلى المتكلمين، فرأت عددا كبيرا من الجند والعيارين في جلبة وضحك وصياح كأنهم سكارى يعربدون، ورأت على مقعد في طرف السفينة رجلا قصيرا سمينا عليه قيافة الرياسة، فسألت جدتها هل تعرف هؤلاء فرفعت عبادة بصرها وحالما رأت الرجل همست قائلة: «إنه الهرش رئيس العيارين.»
ووقع بصر أحد العيارين أثناء ذلك على ميمونة وقد زادها الخوف والقلق رونقا، فصاح: «إني أرى جارية حسناء، لعلها من القيان. اربط يا ريس. لنسمع غناءها.»
فارتعدت ميمونة خوفا وجمد الدم في عروقها، وأدركت جدتها خوفها فنهضت تحث صاحب الدفة على الفرار أو الدفاع، فسمعت رجلا من تلك الحراقة يقول بصوت منخفض: «دع الفضول، ألا ترى الراية؟»
فتجمهر جماعة ونظروا إلى راية منصوبة في مقدم الحراقة فقالوا: «إنها راية المأمون.» وقال أحدهم: «دعونا منها.» ثم ما لبثوا أن مروا بها مسرعين، فسري عن ميمونة لزوال الخطر عنها، ولكنها أصبحت في قلق عظيم على حبيبها، ورجح عندها أنهم يجدون في طلبه، فالتفتت إلى جدتها والدمع يترقرق في عينيها وقالت: «إنهم يطلبون بهزاد؟ ويلاه!» قالت ذلك وقد نسيت أنها تكتم حبها عن جدتها.
فقالت عبادة وقد حملت خوفها محملا آخر: «لا تخافي يا حبيبتي، لا أظنهم يطلبونه. وعلى كل حال سنسبقهم إليه وننبهه.»
ونهضت إلى صاحب الدفة وأمرته أن ينشر الشراع في أثر تلك الحراقة، ففعل وسارت الحراقة ساعة أخرى وميمونة واقفة حائرة لا تدري ما تعمل، فابتدرتها جدتها قائلة: «لا تخافي يا بنية، إننا سنصل إلى بهزاد قبلهم وإن سبقونا بحراقتهم، وأسرعت إلى مقدم السفينة وجعلت تتفرس في الشاطئ على اليسار وتنظر إلى أبعد ما يقع عليه بصرها في عرض الأفق، وميمونة واقفة إلى جانبها تستند إلى كتفها خوفا من السقوط والسفينة تشق الماء والريح تنقر على الشراع، فسارت الحراقتان ساعتين متقاربتين وعبادة واقفة وبصرها شاخص إلى الأفق حتى أشرفت على بناء شامخ تراءى لها عن بعد فصاحت: «هذا هو الإيوان. إننا على مقربة من المدائن.»
ثم تحولت إلى الربان وقالت: «أترى هذه الناعورة (الساقية) أمامك؟»
قال: «نعم، أراها يا مولاتي.»
قالت: «قف بالحراقة عندها.» ثم التفتت إلى ميمونة وهمست في أذنها قائلة: «إذا نزلنا من هنا ويممنا منزل بهزاد وصلنا إليه قبل أولئك بوقت طويل!»
فحلوا الشراع وأدار الربان الدفة، وبعد هنيهة رست بهم الحراقة عند الساقية، فأمسكت عبادة يد ميمونة ونزلتا إلى الشاطئ وقالت عبادة للربان: «امكث هنا حتى نعود إليك.» فقال: «ألا يسير أحد منا في خدمتكما؟»
قالت: «كلا.» فقال: «سمعا وطاعة.»
وهرولت عبادة مسرعة وميمونة تعدو في أثرها، وقد مالت الشمس نحو المغيب، وعبادة تعرف الطريق جيدا وتعرف حناياها ومختصراتها، فسارتا على هذه الصورة نصف ساعة، فتعبت العجوز وكادت تخور قواها وتسقط، وميمونة تركض لا تبالي من شدة لهفتها، ناسية ضعف جدتها وشيخوختها. فما لبثت أن رأتها تلهث من التعب والعرق يتصبب من جبينها وأنفها وسالفيها ولم تعد تقوى على السير، فوقفت ثم قعدت على حجر وأخذت تمسح عرقها وتلهث؛ فاستاءت ميمونة من قعودها وودت لو كانت لها أجنحة لتطير بها إلى منزل بهزاد. وتحيرت فلم تدر أتترك جدتها هناك وتسير وحدها وهي لا تعرف الطريق ولا يطاوعها قلبها على ترك جدتها وحدها في ذلك المكان؟ أم تصبر ريثما تستريح فتضيع الفرصة؟ فجعلت تمسح لها عرقها وتنشطها وتخفف عنها، وعبادة لا تستطيع الكلام من شدة التعب. وبعد بضع دقائق قالت: «إننا على مقربة من البيت. ألا ترين هذه النخلة الباسقة؟»
وكانت الشمس قد توارت بين النخيل على الشاطئ الغربي وراءهما، فنظرت ميمونة شرقا نحو الأفق فرأت تلك النخلة فصاحت: «أليست هي النخلة التي ألفنا الاستظلال بها عندما كنا نخرج من منزلنا؟»
قالت: «بلى، هي بعينها.»
فقالت: «نحن إذن على مقربة من بيت بهزاد ، هلمي بنا نكمل مسيرنا، ولو أتعبك ذلك فإني أخاف أن يسبقنا أولئك الرعاع إليه.»
قالت: «لا تخافي، إنهم لا يزالون يمخرون في دجلة.» ونهضت وهي تتشدد وتتجلد، ومشت وميمونة في أثرها مستبطئة مشيتها حتى وصلتا إلى أسواق تلك البلدة فقطعتاها. وأقبلتا على منزل بهزاد والشمس تكاد تغيب، فوجدتا الباب مغلقا وليس عنده أحد، فمشتا وهما تلتفتان والشاطئ بعيد عنهما فلم تجدا أحدا قادما، فتحققت ميمونة أن الأعداء لم يدركوا البيت بعد. وبعد هنيهة وصلتا إلى الباب فوجدتاه مغلقا فقرعتاه قرعا عنيفا فلم يجبهما أحد.
فلما أبطأ عليهما الجواب، فحصت عبادة الباب فرأته مغلقا من الخارج، فتحققت أن بهزاد ليس داخله؛ فانشرح صدرها وأنبأت ميمونة بذلك فتنفست الصعداء وقالت: «الحمد لله أنه ليس هنا ولا سبيل لهؤلاء إليه، ولكن أين هو يا ترى؟»
فقالت جدتها: «ربما كان في بغداد أو في بلد آخر.» قالت ذلك وقعدت على حجر عند الباب لتستريح.
فقالت ميمونة: «أخاف أن يكون عائدا إلى بيته الآن فيظفرون به. ألا يحسن أن ننتظره بالقرب من هذا المكان فإذا رأيناه أعلمناه بما يهدده؟»
قالت: «وهل نكون في أمن على أنفسنا؟»
فتحيرت ميمونة في أمرها وقالت: «ماذا نعمل إذن؟ أخاف أن يكون بهزاد آتيا الساعة وهو لا يعلم بما أعدوه له فيقع غنيمة باردة في أيديهم. يجب أن نتمم سعينا في إنقاذه.» وكأنها أدركت كثرة ما أظهرته من اللهفة عليه فخافت ظهور حبها له فاستدركت قائلة: «يجب علينا أن نكافئه على فضله ولا ندخر وسعا في إنقاذه ولو تعرضنا للخطر.»
فاستحسنت عبادة كرم أخلاقها وقالت: «صدقت، يجب علينا أن نبذل ما في وسعنا في سبيله، ولكن ما العمل؟ ها أنا ذا أسمع ضوضاء القوم من جهة الشاطئ، اسمعي، إنهم يجرون؛ هلمي بنا نذهب من قبل أن يدركونا.» قالت ذلك ونهضت فأمسكت بثوب ميمونة ومشت بها مسرعة نحو الشرق، فمرتا بتلال وأحجار من أنقاض قصر كبير فقالت ميمونة: «أرى أنقاضا لعلها من بقايا دولة الفرس؛ فهي تشبه أنقاض إيوان.»
فقالت عبادة وهي تسرع في مشيتها جهد طاقتها مع ما يحول دون ذلك من شيخوختها: «صدقت يا حبيبتي، إن هذه التلال والأحجار من أنقاض إيوان كان هنا غير إيوان كسرى، يعرف بإيوان سابور؛ وهو القصر الذي كان يقيم فيه المنصور قبل بناء بغداد وتهدم بعده.»
فقالت ميمونة: «يلوح لي أن بهزاد اختار السكن بجوار هذه الأنقاض استئناسا بآثار أجدادنا.» قالت ذلك وهي تسرع أمام جدتها وقد نبهها ذكر هذا الإيوان إلى شيء خطر لها، فلما توارتا عن المنزل قالت ميمونة: «أذكر أني سمعته يذكر أنه يتردد إلى إيوان كسرى للبحث عن بعض العقاقير الطبية والحشائش التي تنبت على أنقاضه، فلعله هناك الآن؟»
فقالت عبادة: «ربما كان هناك. اتبعيني لنبحث عنه قبل أن تغرب الشمس.»
في إيوان كسرى
صعدت عبادة وميمونة إلى الإيوان وهو في ظاهر المدائن من جهة الشرق، فخرجتا من البلدة وهما تحاذران أن يشعر أهلها بهما، وبالغتا في التقنع، فلما بلغتاه إذا هو قائم كالجبل العظيم وقد زاده الخراب وحشة. وكانت الشمس قد توارت وراء الأفق وتلاحمت الظلال وأخذت تتحول إلى ظلام.
وساعة الغروب من أوحش الساعات على الإنسان لقرب خروجه إلى الظلمة فيشق عليه فراق النور فتنقبض نفسه ويستوحش حتى إذا كان في قصره بين أهله وذويه، فكيف إذا كان في برية يغشاها الخراب وينعق فيها البوم؟ وقد كان هذا البناء رهيبا في إبان عمرانه فكيف به في خرابه؟ وللخراب وحشة في إبان النهار فكيف في الليل؟
على أن ميمونة شغلت عن الخوف بلهفة المشتاق، ولولا ذلك لكان لها في منظر ذلك القصر عبرة أي عبرة!
كانت خرائبه توحي بأن مصير الإنسان إلى الزوال، كما باد أهلوه وقد كان فيهم الأكاسرة والمرازبة والدهاقنة والأساورة ممن كان أحدهم لا تكاد الأرض تسع مطامعه؛ فكم ربطت خيولهم في باحة ذلك القصر! وكم دخلوه وعليهم الخز والديباج وعلى رءوسهم التيجان وفي أيديهم الصوالجة! وكم جاء الملوك والأمراء يلتمسون الهدنة أو يتقربون بالهدايا؟ وكم خضع لهم القواد وسيقوا إليهم بالأغلال والأصفاد يوم كان القصر آهلا بالنساء والأولاد وألوف من العبيد والجواري مما حمل إليهم أسرا أو هدية، وفيهم غلمان من أبناء الملوك وفتيات من بنات الأمراء ... وكلهم يرفلون في ألبسة الحرير، ويتوسدون الرياش الوثير بين مزركش ومطرز بألوان تبهج النظر وبين أنغام تطرب السمع.
وكم كان على شرفات الإيوان من الستائر الموشاة، يطل من ورائها الجواري الحسان يتطلعن إلى ما كان يقام في باحة القصر من الألعاب على الخيول كالسباق أو لعب الصوالجة. والناس كلهم فرحون يحسبون الحياة نعيما دائما!
فلو رآهم راء ثم جاء مع ميمونة في ذلك المساء ورأى الإيوان قد أصبح مقرا للحشرات، رياشه التراب وما نبت عليه من الحشائش والطحالب، ونمارقه الأشواك والأحجار، وقد تهدمت جدرانه وسقطت أساطينه وتصدعت أركانه، لاعتبر وتهيب وغلبت عليه الوحشة والرهبة ولو كان من الأبطال، فكيف إذا كان فتاة ربيت في مهاد الرخاء مثل ميمونة؟
فالتفتت إلى ما حولها فلم تر إلا خلاء قد تولاه الخراب، فاستوحشت وندمت على مجيئها، ولكن رغبتها في لقاء حبيبها شجعتها وثقتها بجدتها هونت الأمر عليها.
أما عبادة فكانت في شاغل بما نالها من التعب وكانت أقل خوفا من ميمونة؛ فأسندت نفسها إلى أسطوانة ملقاة هناك من أنقاض الإيوان وقالت لميمونة: «هل ترين أحدا أم تسمعين صوتا؟»
فأصاخت بسمعها وقالت: «إني لا أسمع صوتا ولا أرى شيئا، لكن ذلك لا يمنع أن يكون بهزاد في داخل هذا البناء يبحث عن عشب أو عقار، وبما أننا وصلنا إلى هنا فلندخل الطاق فإذا لم نر أحدا رجعنا سريعا قبل أن يشتد الظلام. هل ندخل؟»
فلم تشأ عبادة مخالفتها، فمشتا وهما تجسان الأرض جسا بأقدامهما وتحاذران العثور بالأحجار أو الأشواك، وقد سكنت الطبيعة وأوت الطيور إلى أوكارها. ولما أقبلتا على باب الإيوان هابتا سعته وارتفاعه؛ فقد كان عرض فتحته 34 ذراعا وارتفاعه 32 ذراعا، ولما مرتا تحت قنطرته سمعتا هبوب النسيم وأحستا ببرده، فأجفلت ميمونة وتراجعت وشعرت كأن يدا باردة لمست وجهها فتلفتت فلم تر أحدا فابتدرتها جدتها قائلة: «ما لك يا بنية؟»
قالت : «ماذا أسمع؟ هل أسمع هبوب النسيم وأشعر ببرده؟ أم هي أنفاس الجن؟ قد كنا منذ لحظة خارج الإيوان وكل شيء هادئ، فما بالي أسمع هبوبا وأشعر بالبرد؟»
قالت: «كأنك لم تدخلي هذا الإيوان قبل الآن؟»
قالت: «كلا، وهل فيه جن؟»
قالت: «لا تخافي يا بنية، ليس في المكان جن ولا إنس، وأما ما تسمعينه فهو أصوات مجاري الهواء الخارج من جدران الطاق.»
قالت: «قد كنا بقربه الآن ولم يكن ثمة ريح، فكيف هبت سريعا على هذه الصورة؟»
قالت: «إن في بناء هذا الإيوان سرا لم ينكشف لأهل هذا العصر بعد؛ إنه مبني على هندسة تجعل الهواء يلعب في قاعته ولو كان الناس خارجه في حر شديد، فيخرج من منافذ في جدرانه مصنوعة على نمط عجيب حير مهندسي هذا الزمان. وقد تأنق الذين بنوه في صنعه على هذه الصورة حتى لا يفارق النسيم مجالس الأكاسرة في أشد الأيام حرا؛ فلا تخافي، هل نرجع؟»
وكانتا قد دخلتا الباب وأقبلتا على القاعة الكبرى التي يسمونها الطاق، ويسمون الإيوان بها فيقولون طاق كسرى كما يقولون إيوان كسرى. وكانت مساحة هذا الطاق في أيام عمارته ستين ذراعا في ستين، وقيل مائة في خمسين، وكانوا يفرشون أرضه ببساط واحد مزركش ومرصع.
وكان في صدر الطاق على عهد الأكاسرة عرش من ذهب مرصع بالحجارة الكريمة يجلس عليه كسرى، تعلوه قبة مرصعة في داخلها مروحة من ريش النعام، وإلى جانبي العرش مجالس الأعوان والمرازبة. وقد ذهب ذلك كله أثناء الفتح غنيمة للمسلمين وهم يومئذ أهل بادية حفاة عراة لا يفرقون بين الكافور والملح ولا بين الجوهر والحصى، فاقتسموا الآنية وقطعوا الأبسطة ومزقوا الستائر، وكان نصرهم من آيات تغلب البداوة على الحضارة؛ فلم يبق هناك إلا الأحجار وبعض الأساطين وقد تشوهت وتكسرت.
ونظرت ميمونة إلى ما حولها من الجدران الهائلة فرأت عليها صورا ملونة منعها الظلام من تحققها. ولما سمعت جدتها تستخيرها في الرجوع وهي لا ترى في ذلك المكان إلا ما يبعث على الوحشة، ناهيك بما كانت تخافه من الحشرات التي تكثر في مثل تلك الخربة، عزمت على الرجوع وأرادت أن تجيبها بالإيجاب فإذا بها تسمع دبدبة خارج الإيوان ولا تسمع كلاما؛ فاختلج قلبها في صدرها وأرادت أن تصيح فأرتج عليها ولصق لسانها بحلقها، وأدركت جدتها ذلك ولم تكن أقل خوفا منها، فأمسكت بيدها وأومأت إليها أن تتبعها إلى الداخل وهي تهمس في أذنها: «لعل أولئك العيارين أتوا للبحث عن بهزاد في الإيوان مثلنا، وهو والحمد لله ليس هنا، على أني أخشى أن يبصرونا؛ فتعالي نختبئ وراء هذه الأساطين حتى إذا أطلوا ولم يجدوا أحدا رجعوا.» قالت ذلك وصوتها يرتجف وهي تجر ميمونة بيدها، فأسرعتا فوق الحجارة وما يتخللها من الأعشاب والأشواك، فسمع لخطواتهما خشخشة وطقطقة رغم ما أرادتاه من التستر، ولم تنتبها لهول ما اعتراهما إلى ما كان يسرح بين أقدامهما من الجرذان والأورال وغيرها من الحشرات، حتى وصلتا إلى كوة واسعة لعلها كانت موضع العرش في إبان صولة الفرس. وعند الكوة أساطين متفرقة إذا دخل الطاق داخل لا يفطن لمن يقيم وراءها. فدخلتا الكوة وانزوتا فيها وهما تمسكان أنفاسهما من الخوف، وأصغتا وعيونهما محملقة تنظران إلى الباب بلهفة وجزع، وقد ندمتا على تلك المخاطرة.
ولم تمض لحظة حتى كفت الدبدبة وسمعت ميمونة همسا عند الباب كأن المتكلم يحاذر أن يسمعه أحد، ثم سمعت صوت قدح زناد، ورأت أشعة النور اندفعت إلى الطاق من سراج يحمله شخص طويل القامة ملثم بلثام أسود، وقد التف بعباءة سوداء فلم يبد منه غير يده التي يحمل بها السراج. وما لبث أن دخل صامتا وفي أثره بضعة رجال في مثل هيئته، فخفق قلب ميمونة وازداد اضطرابها حتى كاد الدم يجمد في عروقها، مخافة أن يتقدم الرجل بسراجه إلى مكانهما، فبالغت في الانزواء وهي ما زالت معانقة جدتها.
أما حامل السراج فلما توسط الطاق التفت يمنة ويسرة وقال: «ليس هنا أي أحد، وهل يعقل أن يأتي هنا أحد في مثل هذا الوقت؟ فليس ما سمعناه إلا خشخشة بعض الحشرات التي فرت حين أحست بقدومنا.» ثم نظر إلى ما بين يديه كأنه يبحث عن مكان يضع السراج عليه، فرأى بقية أسطوانة قد ذهب معظمها وظلت قاعدتها قائمة، فوضع السراج عليها، وأخرج يده الأخرى من تحت العباءة وفيها صندوق أسود فوضعه بجانب السراج والتفت إلى رفاقه وهم ستة، وقال بصوت ضعيف: «هل نبدأ الحديث؟»
فقال أحدهم: «نعم، قل ما بدا لك.»
فلما سمعت ميمونة صوت الرجل الأول استأنست به، وخيل إليها أنه يشبه صوت حبيبها، فاختلج قلبها وشاعت عيناها. ثم رأت الرجل الطويل ورفاقه قد خلعوا عباءاتهم فافترشوها وقعدوا عليها ما عدا أولهم فظل واقفا، وبدت ثيابهم من تحت العباءات على غير المألوف في بغداد؛ إذ كان على كل منهم قباء أخضر وعلى رأسه قلنسوة حولها عمامة خضراء، وقد تمنطقوا بالسيوف وتقلدوا الأقواس كأنهم يتأهبون للحرب.
واسترعى انتباهها طول الرجل الأول وكان قد ولاها ظهره، فرجحت أنه بهزاد، وحدقت فيه، وكادت تناديه ولكنها أمسكت وأشارت إلى جدتها أن تنظر إليه فعرفته على ضعف بصرها، وأومأت إلى ميمونة أن تصبر وتبقى صامتة، وأخذت تتفرس في القوم، وعرفت من وجوههم ولحاهم أنهم من الفرس ولكنها لم تعرف أحدا منهم. ثم رأت بهزاد قد تحول نحو قاعدة الأسطوانة وأخذ الصندوق فوضعه بين يدي الجماعة وقعد القرفصاء وقال: «أقسموا على ما في الصندوق أنكم تكتمون ما يدور بيننا.»
فتصدى رجل منهم رقيق البدن خفيف العضل تدل سحنته على مزاجه العصبي وحدة ذهنه وجرأته فقال: «ولكنك لم تخبرنا بما فيه، وقد وعدتنا أن تطلعنا على ذلك قبل كل شيء.»
فتناول بهزاد مفتاحا من جيبه وفتح الصندوق وقال: «انظروا ولا تتكلموا.»
فنظروا في الصندوق وتراجعوا وقد تولتهم الدهشة وقالوا: «إنا لله وإنا إليه راجعون. ما هذا؟»
فقال: «هذا شعارنا منذ اليوم؛ هذا رأس القتيل المظلوم، فهيا أقسموا أن نكتم أمرنا، وأن ننتقم له ولمن قتل قبله.»
قال ذلك وأغلق الصندوق وهو جاث، فقرءوا الفاتحة معا، ثم أقسم كل منهم ليبذلن ماله ودمه للانتقام.
وقف بهزاد عقب الانتهاء من القسم، فأعاد الصندوق إلى موضعه وحمل المصباح وتقدم نحو جدران الطاق والسراج مرفوع بيده ليبدو ما على الحائط وقال: «أترون ما على هذا الجدار من الرسوم؟»
قالوا: «نرى كسرى أنو شروان يحاصر بجنده أنطاكية.»
فقال: «ألم يفتحها؟» قالوا: «بلى.»
قال: «ألم يكن أنو شروان عادلا؟» قالوا: «بلى.»
قال: «ألستم خلفاءه وأبناءه؟» قالوا: «بلى.»
قال: «ألم تنصروا هؤلاء العرب وتملكوهم رقاب الناس؟»
قالوا: «بلى.»
قال: «ألم يبذل أجدادكم أرواحهم ودماءهم وأبلوا بلاء الرجال في طاعة إمامهم الأول، فقتلوا على الشك وغدروا وخانوا رغبة في رفع منار تلك الدولة، فكيف كان جزاؤهم؟» فقالوا جميعا: «لقد جوزينا جزاء سنمار. رحم الله أبا مسلم.»
قال: «ليس أبو مسلم أول شهيد قتله العرب غدرا بعد أن أيد سلطانهم، وسلم الدولة إليهم؟ أترضون أن يذهب دمه هدرا فضلا عن دماء آبائكم؟»
فقال رجل منهم كبير السن جليل الطلعة: «إنك تدعونا إلى أمر عظيم، ولكنك لم تخبرنا من أنت؛ نعم إنك فارسي مثلنا وشريك لنا في هذا الأمر، غير أننا نحب أن نعرف الغرض من مجيئنا إلى هذه الخرائب وقد كنا في غنى عن ذلك بالاجتماع في بيت أحدنا.»
فقال بهزاد: «يعد الناس هذا المكان خرابا وما هو كذلك؛ إنه أثر حي لعظمة دولتنا، وقد عجز المنصور بعد أن غدر بأبي مسلم عن هدمه. إن بقاء هذا الإيوان رمز على بقاء دولة أصحابه؛ فأحببت أن نتعاهد على الانتقام بين جدرانه، وهذا أنو شروان العادل كأنما يرانا ويسمعنا، فإذا تعاهدنا أمام صورته كان عهدنا وثيقا.»
ثم رفع السراج إلى رأس كسرى في الصورة وقال: «انظروا، إنه ينظر إليكم بعينيه نظرة عاتب كأنه يقول: «لقد تقاعدتم عن نصرة أمتكم ورضيتم بالرضوخ لقوم استخدموكم وأذلوكم وقتلوكم غدرا، فكيف تصبرون على الذل وفيكم العظماء والحكماء والقواد، ومنكم رستم وقورش ودارا وسابور وبرويز وأنو شروان وبزر جمهر، وقد حاربتم الإغريق والرومان والهند والصغد وفتحتم بلادهم. كيف يغلبكم على أمركم أعراب كانوا يفدون علينا للاستجداء فننعم عليهم بالطعام واللباس، وكان أحاسنهم من جندنا وموالينا، فتسلطوا عليكم بالسيف، ثم نصرتموهم فقتلوا كباركم غدرا وملكوا رقابكم وأنتم صابرون، ولو لم تصبروا لكنتم الملوك وهم عبيد لكم. ومع هذا أليست مقاليد الأحكام في أيديكم، ومنكم وزراؤهم وقوادهم ورجال العلم والسياسة فيهم؟ فكيف تحنون رقابكم لرجال ما فيهم إلا الضعيف، وإنما غلبوكم بالحيلة والمداجاة. إن الصبر إذا طال أصبح مذلة وعجزا.» هذا خطاب أنو شروان، ولأجله جئت بكم إلى هذا المكان. أما أنا فإذا كنتم من الناقمين لأبي مسلم فاعرفوني؛ إني رسول إخوانكم في خراسان، فما قولكم؟»
وكان بهزاد قد ارتفع صوته ونسي التكتم والتستر وأشرق وجهه حماسة وشهامة؛ فرقص قلب ميمونة فرحا لرؤيته وسماع خطبته، ولكنها ظلت متشوقة لمعرفة ما في الصندوق، وقد فهمت من حديثهم أن فيه رأس رجل مظلوم، فتلهفت لمعرفته.
ولما انتهى بهزاد من كلامه وهو ينظر إلى القوم والسراج في يده، نهض أحدهم وقال: «هل أنت رسول إلينا من إخواننا الخرمية في خراسان؟»
فقال: «إني رسول إليكم منذ بضعة أعوام.»
قالوا: «وما الذي عاقك إلى الآن؟»
قال: «تربصت حتى جاءت الساعة وسنحت الفرصة؛ لأن الأمور مرهونة بأوقاتها؛ فالآن مات الرشيد.؛ ذلك الذي غلبنا بمبادرته وكيده، فقتل كبيرنا وعمدتنا وعرقل مساعينا، أما خليفته فغلام غر همه أكله وشربه و...»
فقطع الرجل كلامه قائلا: «ولكننا أقمنا دولة فارسية أساسها الآن في خراسان، وهذا أخوه المأمون ولي العهد لا يلبث أن يتولى العرش بعده، وهو آلة في يد الفضل بن سهل، وهذا إنما أسلم وتقرب منه رغبة في نصرة الفرس وتطلعا إلى هذه الفرصة؛ فإذا أفضت الخلافة إلى المأمون بلغنا الغرض المطلوب على أيسر سبيل؟»
فقال بهزاد: «ألم أقل لكم إنكم غافلون عن منافعكم؟ إن مساعي الفضل أوشكت أن تذهب أدراج الرياح بما هيأه هذا الغلام وأنصاره من أسباب الغدر؛ فكما أسس المنصور دولته بقتل أبي مسلم غدرا، وأنقذها الرشيد بقتل جعفر غدرا، فإن هذا الغلام عرقل مساعي الفضل بن سهل بخلع المأمون غدرا!»
فصاح الرجل: «هل خلعه؟»
قال: «نعم، خلعه ولا يلبث أن يقتل أنصاره وأنتم نيام. إن مساعي الفضل مؤسسة على الدهاء والسياسة، فإذا لم تبادروا إلى تأييدها ذهبت عبثا، فلا ينفعنا إسلامه ولا تقربه من المأمون.»
فقال الرجل: «هل أنت واثق من خلع المأمون؟»
قال: «لست نائما مثلكم، ولكني ساهر على صوالحكم منذ بضعة أعوام، وقد بثثت العيون والأرصاد حتى في بلاط الخليفة، وأعرف كل حركة تجري في بيت الأمين، وأعرف أهواء العامة وأغراض الخاصة، وقد علمت يقينا أن الأمين خلع أخاه المأمون، ولا ندري ما يفعله بعد ذلك. أما العامة فقوم طغام يباعون ويشرون وهم لا يعلمون، وأما الخاصة فأنتم عمدتهم؛ فبادروا إلى العمل؛ فقد بلغ السيل الزبى.»
فأطرق القوم هنيهة ثم وقف الرجل الجليل وقال بصوت هادئ: «أما وقد ثبت خلع المأمون، فالأمر خطير، ولكننا لا نفوز إلا بالتؤدة؛ فإن هؤلاء العامة لا يقادون إلا بالدين، وهذا أمر كان أوله في خراسان ولا يقوم إلا من هناك.»
قال: «إن تدبير ذلك سهل علينا، وخراسان سيفنا وذخيرتنا. وأما الدين فهو الوسيلة لجمع كلمة العامة، وهذا في أيدينا وسندبر ذلك في خراسان. إن هذه الأقبية الخضراء ستملك أمر الدين بإذن الله؟»
ففهم الرجل مراده من اتخاذه مذهب الشيعة سلاحا لنقل الخلافة فقال: «متى صارت الخضرة شعار الخلافة وذهب سواد العباسيين نلنا المراد، ولكن أنى لنا ذلك؟»
قال: «يكون لنا ذلك إن شاء الله في خراسان، ولا بد من إعمال السيف، فكونوا أنتم في يقظة من أمر شيعتنا في بغداد. وإذا أتت الساعة يحاسب كل منا على عمله.» ثم أشار إلى الصندوق وقال: «وأما شعارنا الحقيقي فهو ما رأيتموه في هذا الصندوق، وسأضيف إليه رأسا آخر إذا رأيتموه علمتم أنكم إذا بذلتم أموالكم وأنفسكم فإنما تبذلونهما في سبيل قويم. إذا كنتم من الخرمية فإنكم تنتقمون لإمام قديم ورجل عظيم؛ تنتقمون لأبي مسلم صاحب الرايات السود مؤسس الدولة العباسية، وهو يناديكم من أعماق قبره أن تقلبوا هذه الدولة وتعيدوا دولة الفرس وتؤيدوها بالشيعة العلوية أصحاب الدعوة الأصلية التي أضاعها المنصور بغدره ودهائه. وسيعلم الذي ظلموا أي منقلب ينقلبون.» •••
كان بهزاد يتكلم والعرق يتصبب من جبينه، وقد أخذت منه الحمية مأخذا عظيما، فاستنهض عزائم رفاقه وسحرهم بحماسته وبلاغته حتى تراءى لهم أن الإيوان عاد سيرته الأولى آهلا بالجيوش يزجيها كسرى أنو شروان. وكانوا يعرفون بهزاد طبيبا فارسيا ناقما على العباسيين، ولم يكن يخطر لهم أنه رسول «الخرمية» - من الأحزاب السرية القائمة في خراسان - وهم طائفة ظاهرها ديني واختلفت الأقوال في حقيقة مذهبها، ولكنها كانت حزبا سياسيا يستخدمها ذوو المطامع في طلب السيادة، ومنهم أصحاب أبي مسلم وأهله ولا سيما ابنته فاطمة؛ فإن الخرمية كانوا يقدسونها ويذكرونها في أدعيتهم. وللخرمية أثر كبير في تاريخ الإسلام، وكانوا إذا اشتدوا ظهروا وإذا ضعفوا اختفوا، وكانت لهم مخابرات سرية في المدن الإسلامية، يتعاونون ويتكاتفون، وفيهم المسلمون والزرادشتيون والمجوس، وإنما تجمعهم العصبية الفارسية.
ولا بدع إذا كان منهم جماعة في بغداد كالذين جاءوا مع بهزاد، وهم من وجهاء القوم وأصحاب الثروة والنفوذ، وفي نفوسهم أشياء على الخلفاء كقتل أبي مسلم وجعفر البرمكي وغيرهما. وكانوا يتحدثون بذلك سرا وينتظرون تبدل الأحوال وآمالهم عالقة بالمأمون إذا تولى الخلافة، ولم يكونوا يعلمون أن الأمين قد خلعه؛ فلما أنبأهم بهزاد بذلك ثارت الغيرة في نفوسهم وتحمسوا ونهض أحدهم وقال: «إننا على ما أقسمنا عليه، لا ندخر مالا ولا رجالا، ولكن لا بد لنا من التؤدة.»
فقال: «ذلك ما عزمنا عليه، فأقيموا أنتم على أعمالكم حتى تأتي الساعة، وأنا أعرف أماكنكم فكونوا على استعداد، وقد آن لنا أن ننصرف، وهذا آخر اجتماع لنا على هذه الصورة. وسنجتمع في غير كلفة أو حذر قريبا إن شاء الله!»
فنهض رفاقه وأخذوا يتأهبون للخروج، فالتفوا بعباءاتهم وهموا بالانصراف، وتناول بهزاد عباءته فالتف بها وانطفأ السراج وتركه في مكانه وخرج. فلما أظلم الطاق لم تعد ميمونة تستطيع ضبط نفسها والصبر على التستر فهمت بأن تنادي بهزاد، فأمسكت جدتها بيدها وطلبت إليها أن تصمت ريثما يتفرق القوم، ونهضت وأشارت إليها أن تتبعها بخفة وهدوء، فأطاعتها ومشت وركبتاها تتلاطمان ولا تكادان تحملانها، وكذلك اصطكت أسنانها كأنها أصيبت بتشنج.
ولم تتوسطا الطاق حتى رأتا القوم قد امتطوا خيولهم بعد أن صافحوا بهزاد وودعوه وانصرفوا، وبقي هو وحده فاتجه إلى مربط جواده ليركبه، ولكنه سمع وقع خطوات تتبعه، فالتفت فرأى شبحين بلباس النساء، فاتجه إليهما بهدوء ورباطة جأش وقال: «من أرى؟»
فركضت ميمونة نحوه وأمسكت بذراعه وصاحت: «أنا ميمونة، وهذه جدتي عبادة.»
فشعر بهزاد برعدتها فتجلد وقال: «وما الذي جاء بكما إلى هذا المكان؟»
فقالت عبادة: «جئنا للبحث عنك؛ فقد بلبلت خاطرنا بغيابك، وقد أصيبت مولاتنا بنت المأمون بحمى ولا تقبل آسيا غيرك، فلما أبطأت لم نر أحدا أولى منا بالبحث عنك؛ لأننا نعرف منزلك وطرقك.»
فأطرق وهو ممسك لجام الفرس بيده والصندوق باليد الأخرى ثم قال: «وما الذي جاء بكما إلى هذا المكان بالذات؟ وكيف عرفتما أني أجيء إليه؟»
فقالت ميمونة: «قد ساقتنا إليه العناية، والحديث في ذلك يطول، وأنت الآن في حاجة إلى الراحة ونحن كذلك.»
فقال: «هلم إلى المنزل.» ثم التفت إلى عبادة وقال: «أظنك أكثرنا تعبا فاركبي الفرس ونحن نمشي بجانبه.»
فقالت: «لا يركب فرسك سواك، لكن إلى أين نذهب؟»
قال: «إلى المنزل.»
فقالت: «إلى المنزل في المدائن؟» قال: «نعم.»
فأمسكت يده بكلتا يديها وقالت: «لا بالله، لا تذهب إلى هناك.»
قال: «ولماذا؟» قالت: «لأن في الذهاب خطرا عليك.»
فأجابها وهو لا يزال ماشيا: «وأي خطر؟»
قالت: «رأينا الجند والعيارين قادمين للبحث عنك في منزلك.» وقصت عليه ما شهدتاه إلى أن قالت: «فأخاف أن يصيبك سوء.»
فقال: «أنت تخافين، وأما أنا فلا أخاف!»
فقالت: «بالله أطعنا، وتعال نذهب معا نحو الشاطئ فإن الحراقة في انتظارنا هناك.»
فقال: «لا بد لي من الذهاب إلى منزلي يا خالة.»
وهمت ميمونة بأن تتوسل إليه أيضا ليرجع عن عزمه، فإذا بهم يسمعون وقع أقدام مسرعة، فالتفتوا جميعا فرأوا شبحا قادما نحوهم من جهة المدائن، فأجفلت ميمونة وصاحت: «ويلاه، أظنه واحدا من العيارين.»
فسمعت الرجل يقول: «كلا، لست منهم.»
فعرفوا صوت سلمان فدهشوا، وصاح بهزاد: «سلمان ؟»
قال: «نعم يا مولاي.» وكان قد وصل إليهم وهو يلهث من سرعة الركض فابتدره بهزاد قائلا: «ما وراءك؟»
فقال بصوت متقطع: «إن المنزل يا مولاي محاط بالجند والعيارين وهم جماعة كبيرة أرسلهم الأمين ليأخذوك.»
قال: «وكيف أتيت المدائن ورأيت ذلك، وعهدي بك في بغداد.»
قال: «علمت بهذا العزم من مصدره، فاحتلت في الخروج بأسرع ما يستطيع الناس حتى أدركت المنزل وقد سبقوني إليه، ورأيتهم محيطين به يتشاورون في فتحه، فعلمت أنك لست في داخله، وتذكرت أنك تأتي الإيوان في بعض الأحيان فأتيت لعلي أراك وأنذرك بالخطر.»
قال: «وهل أفر؟»
قال: «وهل تلقي بنفسك إلى التهلكة؟»
قال: «هذا لا يكون، فاذهب أنت بهذه الخالة وميمونة إلى الحراقة. أما أنا فلا بد من ذهابي إلى المنزل لأمر مهم، فإذا لقيت فيه جندا فالله يحكم بيني وبينهم.»
فلم تعد ميمونة تقوى على السكوت وكتمان ما في خاطرها فقالت: «وهل نحن خائفون على حياتنا؟ وحياتك هي العزيزة. إن حياتك عزيزة يا سيدي ... أتظننا لم نسمع حديثك؟ لقد عرفنا مهمتك وفي نفسي من هذا الصندوق شيء أحب الاطلاع عليه.»
فقال: «ربما أطلعتك فيما بعد، وأما الآن فلا بد من الذهاب إلى البيت، إني لم أتعود الفرار.»
فازدادت ميمونة إعجابا به، ولم يروا بدا من إطاعته فقالوا: «نسير جميعا حيثما تشاء ويصيبنا ما يصيبك.»
فمشى وسلم زمام الفرس إلى سلمان، وأراد هذا أن يحمل الصندوق عنه فأبى، ومشت عبادة تتثاقل في خطاها وتبالغ في إظهار عجزها وكذلك سلمان وميمونة، كأنهم مساقون إلى القتل مكرهين، وبهزاد يجاريهم ويتأنى في خطاه.
بين ميمونة وبهزاد
مشت ميمونة مع جدتها وبهزاد وسلمان، وهي سابحة في بحار من الهواجس تراجع ما سمعته ورأته في الطاق، وكلما تصورت مساعي حبيبها في نصرة الفرس اختلج قلبها فرحا، ثم يعترض فرحها ما تخلل أقواله من تلميحه بالذهاب إلى خراسان فتنقبض نفسها، وهي مع ذلك لا تعلم محلها من قلبه.
وقطعوا مسافة الطريق والظلام شامل وهم سكوت يمشون الهوينى، وكل منهم يفكر في أمره ويتشاغل بتحسس الطريق؛ لأن أكثرها وعر. وكلما اقتربوا من البلدة تطلعوا إلى ما عساه أن يكون من أمر أولئك الجند. فلما دخلوا الأسواق استأذن سلمان في المسير أمامهم ليستطلع حال المنزل، فمضى ثم عاد وقال: «لقد جلا الجند عن البيت بعد أن كسروا أبوابه ونهبوا ما فيه.»
فقال بهزاد: «لا يهمني مما في البيت إلا شيء واحد أرجو أن يكونوا قد أبقوه.»
فظنه سلمان يعني كتبه وأوراقه فقال: «إنهم أخذوا الكتب ومزقوا الأوراق.»
فقال: «وهذا لا يهمني.» وظل ماشيا وهم يتبعونه حتى وصلوا إلى المنزل، فرأوا الباب مكسورا فدخلوا منه، وسبقهم سلمان إلى غرفة يعهد فيها مسرجة، فأضاء السراج وعاد ليضيء طريقهم، فرأوا آثار النهب، وظل بهزاد يسير والصندوق بيده وهو يتفرس في الأرض، فمروا في باحة كبيرة فيها كثير من الآثار الدالة على أن البيت بني على أنقاض إيوان سابور، حيث كان المنصور يقيم قبل بناء بغداد، ثم استطرقوا من الباحة إلى باب البيت الداخلي فرأوه مفتوحا فدخلوا وبهزاد يمعن في إظهار عدم اكتراثه بما أصاب بيته من النهب. وبينما هم يسيرون في الدهليز رأوا بهزاد تحول عنهم إلى كوة في جداره الأيمن فتناول منها معولا كان هناك فدفعه إلى سلمان وقال: «احتفظ بهذا.» وبدا البشر في محياه ومشى لا يلتفت إلى شيء حتى دخل غرفة كبيرة في وسط المنزل، في أرضها بساط عليه تراب من أثر المشي وأوراق مبعثرة من أثر النهب، وعلى جوانبها وسائد، فأشار إلى عبادة وميمونة بالجلوس، وأمر سلمان أن يتبعه ودخلا من باب في صدر الغرفة إلى حجرة وأغلقا الباب وتركا السراج في الغرفة.
فلما خلت ميمونة إلى جدتها نظرت إليها فرأتها تلهث من التعب، والعرق قد بلل خمارها، وهي في حاجة إلى الاستراحة؛ فتمنت أن تنام فتغتنم الفرصة لمحادثة بهزاد. فتشاغلت عنها ولم تخاطبها في شيء فرأتها تكبو وتتثاءب من النعاس فقالت لها: «توسدي يا سيدتي واستريحي.» ونهضت فأتتها بوسادتين فاستلقت عليهما وقالت: «إذا خرج بهزاد فأيقظيني.» فوعدتها بذلك. •••
ولم تمض دقائق قليلة حتى نامت عبادة، وظلت ميمونة وحدها وكأنها في بحر تتقاذفها أمواجه لاستغراقها في البحث عن سبب تنتحله لمخاطبة بهزاد. وفيما هي في ذلك فتح باب الغرفة فأجفلت والتفتت فرأت بهزاد خارجا وقد بدل ثيابه فالتف برداء خفيف واعتم بعمامة صغيرة، وخرج سلمان في أثره والمعول بيده فأشار إليه بالخروج بمعوله فخرج، وظل بهزاد واقفا، فوقفت ميمونة احتراما له وهي مطرقة حياء وهياما، فألقى يده على كتفها وقال: «اجلسي يا ميمونة يا بقية البرامكة.»
فلما سمعته يذكرها بأهلها ويظهر لأول مرة أنه يعرف نسبها، خجلت وجلست وقد أرتج عليها؛ فبادر إلى وسادة ثناها وأشار إليها أن تجلس عليها وقال: «اقعدي على هذه الوسادة يا ابنة جعفر.»
فازدادت ميمونة استغرابا من هذا التصريح، وتجلدت حتى لا تضيع هذه الفرصة منها وقالت وهي مطرقة وقد توردت وجنتاها: «أراك تخاطبني بكنية جديدة؟»
فقال وهو يتناول وسادة أخرى ليقعد عليها: «إني أخاطبك باسمك الحقيقي وإن كنت تحسبينني أجهله، رحم الله جعفرا وأحياه.»
فرفعت بصرها إليه وقد أبرقت عيناها بما غشيهما من ماء الحب وقالت وصوتها يتقطع من شدة تأثرها وهي تحاول إخفاء ذلك بالابتسام: «هل ترجو قيامة الأموات في هذه الدنيا؟»
قال: «إن لم يحي جسده فسيحيا بذكره. إن جعفرا لم يمت يا ميمونة؛ لأن الرشيد قتل جسده ولا سلطان له على ما خلفه من الذكر الحميد!»
فقالت وقد انقبضت نفسها عند ذكر مقتل أبيها: «إني أشكر إحسانك ومجاملتك يا سيدي؛ فإنك طالما أحسنت إلينا وسترت فقرنا.» قالت ذلك وشرقت بدموعها.
فلما رآها تبكي تفطر قلبه وكاد يبوح بما في نفسه، ولكنه لم يكن يرى التصريح بحبه في ذلك الحين فغالطها وقال: «إن فضل جعفر وإحسانه شمل الملأ كافة، وما من مسلم أو غير مسلم إلا هو مدين له، فإذا وفينا بعض الدين فلا فضل لنا في ذلك.»
فلم يعجبها هذا الجواب؛ لأنها كانت تتوقع أن يقول كلمة غير هذه؛ كانت ترجو أن تسمع منه كلمة الحب، فخافت أن يكون ضميرها خانها فتنهدت وسكتت وأرسلت يدها إلى وجهها وأخذت تمسح عينيها بأناملها؛ فأمسك معصمها ورفع يدها عن وجهها وقال وصوته يكاد يختنق: «ما بالك تبكين؟»
فقالت وهي لا تزال مطرقة وقد أحست بمجرى كهربائي يجري من يده إلى كل عروقها: «إني حزينة يا سيدي، دعني أفرج كربتي!»
فقال: «وما سبب حزنك؟»
قالت: «أتسألني عن حزني وأنت تعلم سببه؟ وهل هناك أتعس من فتاة يتيمة الأبوين، تخاف أن يعرفها الناس؟ إن انتسابي إلى جعفر بن يحيى وبقائي حية بين هؤلاء الأقوام من أكبر أسباب شقائي.» قالت ذلك وجذبت يدها من يده وغصت بريقها.
فأخذ يدها بين يديه وهو يغالب حبه وقال: «معاذ الله أن تكوني تعسة.»
فحاولت إخراج يدها من بين يديه وهي تقول: «بل أنا تعسة، وكيف لا أكون كذلك وقد عرفت الليلة أن ...» وأمسكت عن الكلام ونظرت إليه فإذا هو يتفرس في عينيها ويتجاهل غرضها والهوى يكاد يشف عن سريرته، ومخاطبة العيون أفصح من مخاطبة الألسن.
العين تبدي الذي في قلب صاحبها
من الشناءة أو حب إذا كانا
إن البغيض له عين يصدقها
لا يستطيع لما في القلب كتمانا
فالعين تنطق والأفواه صامتة
حتى ترى من صميم القلب تبيانا
فأدركت ميمونة من تلك النظرة أن بهزاد يحبها، ولكنها أحبت أن تسمع ذلك من فيه فحولت نظرها عنه إلى جدتها، وكانت قد استغرقت في النوم وقد علا صوت غطيطها، ثم أطرقت وسكتت، فابتدرها قائلا: «أكملي حديثك، قولي ما هو الذي عرفته الليلة يا ميمونة؟»
قالت: «إن ذكره يؤلمني، دعني وشأني، لا أحب أن تهتم بي؛ فإنك في شغل شاغل عن مثلي بما أنت فيه من المطالب الخطيرة؛ فلا أريد أن أشغلك بما تحدثني به نفسي من أحلام الصبا.»
فقال: «لعلي مشتغل بمثل هذه الأحلام!»
فرفعت بصرها ونظرت إليه نظرة عتاب وهيام وابتسمت والدمع يترقرق في عينيها وقالت: «اعذرني يا سيدي على تطفلي وصغر نفسي. إني على يقين من خيبة أملي، وحاشا لبهزاد القائد العظيم أن يقع فيما وقعت فيه، فإن اشتغاله بجمع الأحزاب لقلب الدول واستنهاض الأمم ينزهه عن الالتفات لفتاة مثلي. قد تقتضي مساعيه أن يدوس الجماجم ويقتل المئات، فهل يبالي قلب فتاة يتيمة مسكينة مثلي؟» وكانت يدها لا تزال بين يديه فاجتذبتها وغطت بها وجهها وأخذت في البكاء.
فلما سمع قولها ورأى بكاءها غلب عليه الهيام ولكنه تجلد وقال: «وهل تريدين أن أمسك عن السفر؟»
فتنهدت وقالت: «آه! حبذا ذلك، ولكن ما الفائدة لي من بقائك؟ سأكون سعيدة بإرجائك السفر ولكن ...» وسكتت. فقال لها: «ولكن ماذا؟»
فعظم عليها صغر نفسها والتجاؤها إلى الحيلة في استطلاع حبه، فغلبت عليها الأنفة ونقمت على نفسها، فاسترجعت رشدها وحدثتها نفسها بأن تجافيه، فنهضت وهمت بالخروج فأمسكها بطرف ثوبها وقد استغرب نفورها فجأة وجذبها نحوه وهو يقول معاتبا: «إلى أين يا ميمونة؟»
فقالت وهي لا تلتفت إليه: «دعني يا بهزاد.» قالت ذلك وهي تحاول التملص منه.
فقال: «اقعدي يا ميمونة، لا سبيل إلى الذهاب الآن؛ فإنك غريبة هنا ولا منزل لك تلجئين إليه.»
فأثر قوله في نفسها وتذكرت مصائبها فوقفت وغطت عينيها بكفيها وأطلقت لنفسها عنان البكاء.
فرق لها قلبه وسكت وقد كاد يختنق، ووقع في حيرة وهو يتجلد في كتمان إحساسه وقال: «كنت تريدين أن تقولي شيئا؛ فما هو؟»
فظلت واقفة وهي تغالب عواطفها وتحاول كتمان هيامها ولا تجد إلى ذلك سبيلا، وشعرت بأنها مغلوبة على أمرها فاصطكت ركبتاها ولم تعد تستطيع الوقوف، فقعدت وهي تتشاغل بمسح عينيها بطرف كمها، ثم نظرت إلى عينيه فرأت فيهما شيئا يكاد ينطق بمكنونات قلبه، فهمت بأن تصرح بما ترجوه منه فغلب عليها الحياء، فإذا هو يبتسم لها وعيناه تبرقان وجدا وهياما فبقيت ساكتة.
أما هو فاستأنف الكلام قائلا: «قولي يا ميمونة ... قولي.»
واختنق صوته، فنظرت إليه وقد احمرت عيناها وذبلت أجفانها فازدادتا سحرا وفتنة وقالت: «أراك تبالغ في المجاملة، كفى يا سيدي، كفى استخفافا بي. قل إنك لا يهمك أمري وهذا يكفيك مئونة الاهتمام بي!»
فقال: «بل أمرك يهمني كثيرا؛ ألا يشعر قلبك بذلك؟ أراك تتجاهلين أكثر من تجاهلي أم أنت لا قلب لك؟» واخشوشن صوته.
فأبرقت أسرتها وحدقت في عينيه كأنها تستطلع حقيقة ما يعنيه، ثم ابتسمت والدمع يجول في عينيها، وتجلدت والحياء يغالبها وقالت: «أيهمك أمري كثيرا؟ إذن قل إنك ...» وسكتت ففهم مرادها وتظاهر بأنه لم يفهم فقال: «ماذا أقول يا ميمونة؟ قولي أنت أولا!»
فقالت: «وهل تحتاج حالي إلى قول وهذه دموعي تقول عني، فقل أنت، قل بالله إنك تحبني، أو دعني وشأني!» قالت ذلك وحولت وجهها عنه وهي تكاد تختنق من تضارب الحب والخجل وخوف الفشل.
فلم يعد بهزاد يستطيع إمساك هواه ولكنه فكر فيما هو فيه من مهام الأمور، فخاف أن يحول التصريح دون مشروعه فقال: «إن ذلك لا يحتاج إلى تصريح؛ نعم إني أحبك!»
فلما سمعت تصريحه غلب عليها السرور حتى كادت تضحك فغصت بالضحك كما كانت تغص بالبكاء، وتساقطت دموعها ولم تتمالك أن صاحت: «أنت تحبني يا بهزاد؟ تحبني؟ أحقيقة ما أسمعه أم وهم؟ وهل أنا في يقظة أم في منام؟ حبيبي بهزاد أنت تحبني؟»
فلما رأى لهفتها تذكر مهامه، فبدا الاهتمام في وجهه وقال: «نعم إني ...» وبلع ريقه وحك ذقنه وسكت.
فخافت أن يكون قد ندم على ما قاله، فنظرت إليه وقد امتزجت في عينيها ملامح الخوف والرجاء وقالت: «ما لك؟ أراك تتردد. ماذا جرى؟ ألا تحبني؟»
قال: «بل أحبك، ولكن ...» قالت: «ولكن ماذا؟»
قال: «ولكن اسمحي لي أن أقول شيئا آخر.»
قالت وقد بان الوجل في محياها: «أما وقد قلت إنك تحبني فقل بعد ذلك ما شئت، ولكن لا، تمهل، لا تقل، أخاف أن تهددني بالفراق!»
قال: «لا أهددك به، ولكنه شرط من شروط حبك.»
فنظرت إليه شزرا وقلبها يختلج وفي عينيها أمارات العتاب وقالت بصوت خافت: «أراك تشترط في الحب، وأنا أحبك بلا شرط.»
فأطرق خجلا من توبيخها اللطيف ثم رفع بصره إليها وقال: «صدقت، لا خير في الحب إذا تقيد بشرط، ولكني أشترط أمرا فيه نفع لك، فأذني لي في ذكره وأطيعيني فيه.»
قالت: «إني أحببتك بلا شرط، ومن مقتضيات هذا الحب المطلق ألا أضع عائقا في طريق حبك، فاشترط ما شئت.»
فقال: «لقد علمت الآن أني مسافر، فإذا سافرت فإنما أسافر في خدمتك. وقد تحسبين أنك عرفت أمري وسهل عليك الحكم على مستقبلي؛ سمعت أني رسول من جماعة الخرمية، إني لم أكذب ولكنني أكثر من ذلك. وأقول والأسف ملء فؤادي لا أستطيع التمتع بهذا الحب إلا بعد الانتقام، فإذا بقيت حيا وعدت ظافرا فتلك هي السعادة؛ إذ أكون انتقمت لأبيك وللقتيل قبله، وإلا فلا حيلة لي في دفع الأقدار. ولا أجهل أن الشرط صعب عليك، بل هو ظلم مني، ولكن لا خيرة في الواقع.»
قال ذلك ونهض وهو يقول: «انهضي الآن إلى فراشك.»
فنهضت وقلبها يرقص طربا، وإن كان قد ساءها خبر فراقه، ولكنها سرت لسعيه في الانتقام لأبيها، وشغل ذهنها بما قاله عن نفسه من أنه أكثر مما عرفت عنه، فقالت في نفسها: «من عساه أن يكون؟» ولكنها لم تجسر على سؤاله، فأطاعته وهمت بالذهاب إلى الفراش. فأشار بهزاد إلى حجرة وحمل المصباح بيده ومشى بين يديها وهي تتبعه وأفكارها تائهة، فدخلت الحجرة وفيها سرير عليه فراش من جلد فوقه وسادة وغطاء فقال: «هذا هو فراشك الليلة.» ورجع والمصباح في يده ولم تمض هنيهة حتى توارت أشعة ذلك المصباح عنها فنزعت الخمار ونامت. •••
توسدت ميمونة الفراش واستولى السكوت على البيت وخيم الظلام، فلما خلت إلى نفسها تذكرت ما مر بها منذ أن اختبأت في الإيوان إلى أن اطمأن قلبها ووثقت من محبة بهزاد، ثم تنبهت للصندوق الذي رأته بيد بهزاد فازدادت رغبتها في معرفة ما فيه.
فقضت ساعة أو ساعتين وهي تتقلب على الفراش وأجفانها لا تغمض، وطال أرقها حتى ملت الوساد وحدثتها نفسها أن تنهض فأقعدتها الظلمة.
وفيما هي على هذه الحال من الأرق والقلق وقد زادها السكوت وحشة، سمعت حركة وراء الحائط فأصغت فسمعت ضرب معول في الأرض فخفق قلبها وظنت أنها واهمة، ثم سمعت همسا فنهضت مذعورة والتفتت إلى جدران الحجرة فرأت فوق سريرها نافذة صغيرة يبدو منها بصيص نور ضعيف؛ فأخرجت رأسها من النافذة فرأت خلاء بين البيت والسور على أرضه مصباح عرفت أنه مصباح بهزاد، ورأت رجلا طويلا قد حسر عن ساعديه وشمر عن ساقيه وكشف رأسه وبيده معول وأمامه حفرة وقد أخذ ينبش بمعوله، وأمامه رجل آخر عرفت أنه بهزاد، وتفرست في صاحب المعول فإذا هو سلمان؛ فازدادت دقات قلبها وارتعدت حتى كادت تسقط، فتجلدت وأسندت نفسها إلى النافذة وهي تحاول أن تختبئ لئلا يراها بهزاد. وتربصت فسمعت بهزاد يقول: «لا بد أن يكون هنا، احفر أيضا.»
فقال سلمان: «أخاف أن تكون مخطئا يا سيدي؛ فقد أخرجنا ترابا كثيرا ولم أجد أثرا للجثة.»
فقال: «لا، لست مخطئا؛ ألم يكن هنا إيوان سابور؟» قال: «بلى.»
قال: «قد أكد لي ذلك الشيخ الهرم أن المنصور كان يجلس في قاعة الإيوان حيث هذا البيت الآن، وأنهم دفنوا الجثة في بستان الإيوان، ولا يمكن أن يكون البستان في غير هذا الخلاء، وقد نبشنا كل بقعة منه ولم يبق غير هذه؛ فاحفر.»
قال: «ليت الشيخ كان معنا الليلة فيهدينا إلى مكان الجثة.»
قال: «ألم أقل لك إنه مات؟ ولكنه والحمد لله بقي حيا حتى دلنا على المكان، وهو على ثقة من قوله لأنه عاش في عهد المنصور شابا وأصابه مما رأى جزع بقي أثره في ذهنه لم ينسه طول عمره. احفر، إننا على هدى.»
فعاد سلمان إلى الضرب بمعوله وجرف التراب إلى الخارج وهو يقول: «إني لا أرى أثرا للجثة يا مولاي.»
وكان بهزاد في أثناء ذلك يحدق فيما يخرج من التراب، ثم انحنى وقبض على قطعة من نسيج نفض التراب عنها وقال: «أليست هذه قطعة من ذلك البساط؟»
فأمسك سلمان عن الحفر وتناول النسيج وقد تهرأ وتقطع وقال: «بلى، بلى، إنها جزء منه.» وعاد إلى الحفر بهمة ونشاط وميمونة تنظر إليه وتستغرب حركاته.
وبعد أن حفر برهة تعب وتصبب العرق عن ساعديه ووجهه، فوقف وأسند يده على المعول وتنهد تنهدا شديدا، فابتدره بهزاد قائلا: «لقد تعبت ، ولكن لا بد لنا من إتمام عملنا في هذه الليلة، هات المعول.» ومد يده فتناول المعول وأخذ يحفر بسرعة ونشاط، ثم سمعت ميمونة صوت ارتطام المعول بجسم صلب كأنه أصاب حجرا، ورأت بهزاد توقف عن الحفر ومد يده فأخرج قطعة عظم مستطيلة وصاح: «هذه ساقه أو فخذه، أبشر يا سلمان.»
فتقدم سلمان ونزل إلى الحفرة بنفسه وجعل يجرف التراب ويبحث فيه حتى عثر على شيء تناوله بين السبابة والإبهام ودفعه إلى بهزاد وقال: «هذا خاتم.»
فأخذ بهزاد الخاتم وتقدم إلى المصباح وتفرس فيه وقال: «إنه خاتمه بعينه.»
قال: «وكيف عرفت ذلك يا سيدي؟»
قال: «ألا تذكر أنه لما استقدمه المنصور من خراسان أوصى كاتبه بأنه إذا جاءه كتابه وعليه خاتمه كاملا لا يعمل به، وإنما يعمل بالكتاب إذا كان عليه نصف الخاتم فقط؟» قال: «بلى.»
قال: «انظر، إن اسمه على الخاتم ممحو من أحد جانبيه؛ فهو خاتمه وهذه هي ساقه، فابحث عن الجمجمة.»
فأخذ سلمان يحفر بيده ويخرج قطعا من أقمشة متهرئة أو من عظام نخرة، وأخيرا أخرج الجمجمة وناولها إلى بهزاد، فنفض التراب عنها وقد بدا البشر في وجهه يتخلله انقباض، ثم امتقع لونه وقال: «هذا هو رأسه. هذا هو رأس المقتول ظلما! إن عثورنا عليه يساوي نصف الخلافة، وإذا انتقمنا له فقد نلنا الخلافة كلها.» وما تمالك أن قبله وأكب سلمان عليه فقبله وأخذ يمسح التراب عنه بطرف ثوبه بلطف واحترام، وبهزاد واقف ينظر إلى الرأس وقد تغيرت سحنته وتجلى الغضب في عينيه، فابتدره سلمان وقال: «أهنئك يا سيدي بما توفقت إليه؛ فقد وقعت على ضالتك وكفى الآن. فإذا شئت رجعنا إلى المنزل، فقد كان هذا الليل شاقا عليك.» قال ذلك وتحول إلى المصباح فحمله بإحدى يديه والجمجمة باليد الأخرى، ومشى بهزاد في أثره وقد تولاه السكوت والغضب كأنه أصيب بجمود.
أما ميمونة فلما رأتهما يتحولان إلى المنزل قعدت على فراشها وقد أنهكها التعب وازدادت هواجسها وتهيبت من الخروج إلى بهزاد في تلك الساعة للاستفهام عن سر ما شاهدته وصبرت نفسها إلى الصباح.
وقضت بقية ذلك الليل كأنها في بحر هائج، ولم تغمض عينها إلا قبيل الفجر فغرقت في النوم ولم تستيقظ حتى أيقظتها جدتها، ففتحت عينيها فرأتها واقفة عند رأسها تقول لها: «قومي يا ميمونة، إننا على أهبة المسير.»
العودة إلى زينب
نهضت ميمونة مذعورة تلوم نفسها على التأخر، وتلثمت بخمارها واحتذت نعالها ومشت في أثر جدتها حتى خرجتا من الدهليز، فسمعت صهيلا فالتفتت فرأت بهزاد على جواده وقد تزمل بعباءته وجعل الصندوق بين يديه على القربوس، والتفت إلى ميمونة وعبادة وأشار إليهما إشارة الوداع وأومأ إلى سلمان قائلا: «اذهبا مع سلمان.» وهمز جواده.
فأحست ميمونة كأن قلبها قد نزع من مكانه، وهمت بأن تستوقف بهزاد فإذا به قد ساق جواده مسرعا، فبهتت وكاد الدم يجمد في عروقها، ونسيت موقفها وبكت، فأمسكت جدتها بيدها وقالت: «هلم بنا فالقارب في انتظارنا على الشاطئ. وأما الطبيب فإنه سيوافينا إلى قصر المأمون.»
فمشت وقد تولتها الدهشة وعيناها شائعتان نحو بهزاد حتى توارى، وجدتها لا تعلم ما يكنه قلبها، أو لعلها علمت بعضه وتجاهلت رفقا بعواطفها، وترفعا عن الميل إلى الاستطلاع والسؤال كما يفعل العجائز اللاتي يجدن في الحديث عن الآخرين لذة. أما عبادة فقد ربيت في بيت رجل كبير وتعودت معاناة العظائم ومشاهدة الغرائب، وانقطعت لتربية ميمونة وتولت كفالتها ولازمتها ملازمة الظل فلا تخاف عليها أن تأتي أمرا لا ترضاه لها، ناهيك بإعجابها ببهزاد وإيثاره على الجميع.
فسارتا الهوينى إلى الشاطئ وسلمان بلباسه الأصلي وقد التف بعباءته، حتى أقبلوا على دجلة فرأوا الحراقة في انتظارهم فركبوها وأمروا الربان فأدار الدفة نحو بغداد وأرخى الشراع. وجلست عبادة بجانب حفيدتها على مقعد في صدر الحراقة وكل منهما في هاجس، وجلس سلمان بالقرب من الربان يتلفت نحو الشاطئ على الجانبين كأنه يراقب أمرا يتوقع حدوثه.
وما جرت السفينة ساعة حتى ظهرت حراقة قادمة من بغداد تشق عباب الماء وعليها علم عرفه سلمان أنه علم الفضل بن الربيع، وأن السفينة من سفنه، فأوجس في نفسه خيفة وأسرع إلى ميمونة وعبادة، وأشار إليهما أن تنزلا عن المقعد وتستترا. فلما رأت ميمونة إشارته ولهفته خافت ونزلت وجدتها وعيناهما تراعيان الحراقة الأخرى، وكانت قد فرشت بالسجاد والوسائد. ووقف فيها جماعة من الخدم، بينما تصدر المجلس شاب جميل الخلقة عرفت عبادة أنه ابن الفضل، والتفتت إلى ميمونة فرأتها تنظر إليه فلما تحققته انقبضت نفسها وضاقت وامتقع لونها وأغضت بصرها.
أما عبادة فنظرت إلى سلمان كأنها تستوضحه، فابتسم تشجيعا لها وقال بصوت منخفض: «لا تخافي يا مولاتي إن هذا الغلام لا يجرؤ على أمر ونحن في حراقة مولاي المأمون.»
فقالت: «وماذا يفعل لو كنا في سواها؟»
قال: «ربما أوقفها واستفهم عمن فيها؛ لأنه ذاهب إلى المدائن للبحث عن ...» وأومأ بعينيه إلى ميمونة.
فقالت: «قبحه الله! ألا يزال على عزمه؟»
فقال: «وقد استشار المنجمين واستكتبهم الأرصاد التماسا لمحبتها، فقالوا له إنها خرجت من المدائن، فكأنه لم يصدق قولهم فذهب ليتحقق ذلك بنفسه.»
وسمعت ميمونة سلمان وتجاهلت حياء وأنفة، ولكنها عجبت لاطلاع سلمان على خبرها مع ابن الفضل وتركت الكلام لجدتها فقالت هذه: «خسئ النذل، إنه لا ينال قلامة من ظفرها ما دمت على قيد الحياة.»
وكانت حراقة ابن الفضل قد حاذت حراقتهم ووقف بعض الخدم على حافتها يتفرسون في ركابها، فلم يقع نظرهم على غير سلمان، وميمونة ترتعد خوفا وكرها، فلما تجاوزتهم أراد سلمان أن يعبث بالفتاة ليخفف عنها فقال: «أرى مولاتي تنفر من ابن الوزير وهو يكاد يموت شغفا بها!»
فرفعت نظرها إليه لترى ما يرمي إليه، فرأته يبتسم فقالت جدتها: «إننا لا نريد النظر إلى هذا الشاب.»
فقطع كلامها وقال: «ولا إلى أبيه.»
وكانت عبادة تظن سلمان يجهل حقيقة حالهما، فلما سمعت ما قاله استغربته ورنت إليه كأنها تنكر عليه قوله، فابتدرها قائلا: «يحق لك يا مولاتي أن تكرهيه وتكرهي أباه، ولا تعجبي لاطلاعي على سبب هذا الكره؛ فإني خليفة مولاي الطبيب في نصرتكما؛ فاركنا إلي وثقا بي فإني خادم لكما!»
فلما سمعت عبادة قوله توسمت الصدق في لهجته فاطمأن بالها. وأما ميمونة فلما سمعت ذكر حبيبها، سألته وهي تظهر السذاجة: «لعل الطبيب مسافر؟»
قال: «نعم إنه مسافر للبحث عن بعض العقاقير الطبية.» وضحك.
فأدركت ميمونة أنه يمازحها، وأنه لا شك عارف بأسرار مولاه، فابتسمت وقد استأنست به وارتاحت إلى خفة روحه وقالت: «هل تظنه يعود قريبا؟»
فأجابها وهو يضحك: «إنك تسألين هذا السؤال قلقا على مولاتنا بنت المأمون لأنها لا ترضى علاجا إلا من يده. بارك الله فيك! أظنه سيسافر عما قريب، ولا أجزم لأن الطبيب يعمل ولا يطلع أحدا على ما اعتزم.»
فقالت عبادة: «يلوح لي أنك تتجاهل يا سلمان، فإن الطبيب لا يخفي عليك شيئا، وأنت تقول إنك لا تعلم موعد سفره.»
فلما رآها تجد في قولها أراد أن يغالطها لئلا تعتمد على قوله فيكون قد باح بما يعلمه وإن كان لا يخاف عاقبة اطلاعهما عليه فقال: «إن مولاي الطبيب حريص على مقاصده ضنين بما يكنه ضميره، وإذا كان ينوي سفرا فإنه لا يكاشفني به، فلعله كاشفك بذلك يا مولاتي؟» قال ذلك ووجه كلامه إلى ميمونة.
أما هذه فاحترست كما احترس هو، ومنعها الحياء من الخوض في هذا الشأن، فأطرقت وتصاعد الدم إلى وجهها فتوردت وجنتاها، فاكتفى سلمان بذلك وأراد تغيير الحديث فتحول إلى الربان وقال له: «لعلنا قربنا من بغداد؟»
فأجابه وهو يشير بأصبعه إلى الأمام: «أليست هذه قصور كلواذة؟»
فالتفت سلمان وتفرس في الأفق وقال: «بلى، إني أرى أبنية البلدة عن بعد، إذن نحن على مقربة من دار السلام.»
قال: «نعم، نحن على مقربة منها، ولا نلبث أن نرى مئذنة جامع المنصور ثم نشرف على قصر مولانا.»
ولما سمعت ميمونة ذكر القصر تذكرت دنانير وزينب وكيف ذهبت مهمتها في استقدام بهزاد الطبيب عبثا. وأخذت تفكر فيما تقوله لدنانير؛ هل تخبرها بالأمر أم تكتم ما اطلعت عليه. وفيما هي تفكر في ذلك دنا منها سلمان وقال موجها خطابه إلى عبادة: «لا يخفى على مولاتي أن ما شاهدناه الليلة من حال مولانا بهزاد يجب أن يبقى مكتوما.»
فقالت عبادة: «وماذا نقول لدنانير إذا سألتنا عنه؟»
قال: «نقول إننا لم نجده في بيته.» فقالت: «حسنا.» •••
كانت دنانير صباح اليوم السابق بعد ذهاب عبادة وميمونة قلقة على زينب تنتظر رجوعهما بالطبيب، فانقضى النهار وهي في انتظارهما على أحر من الجمر. على أن الفتاة ما لبثت أن تحسن حالها وبرحت الفراش كأنها لم تكن تشكو مرضا، وانتظرتا رجوع عبادة وميمونة في الصباح، فلما مضى نصف اليوم التالي ولم يأت أحد قلقت دنانير وحسبت لذلك التأخير غير حساب. وفي الأصيل جاء بعض الخدم ينبئها بقدوم الحراقة، فخرجت لاستقبالها على المسناة، فلم تر الطبيب فيها، وبعد أن رحبت بعبادة وميمونة ورأت سلمان معهما، سألتهم عن الطبيب، فقال سلمان: «إننا لم نقف له على خبر، ألم يأت إليكم؟»
قالت: «كلا، إن أمره لعجيب، أين ذهب يا ترى؟»
فقال: «لا أدري، وهذه عادته في غيابه كأنه مشغول بأمور خاصة لا يعرفها أحد، وسأبحث عنه في بغداد.»
وكانوا في أثناء الحديث قد دخلوا القصر فأتتهم زينب ووجهها مشرق لا بأس عليها، فقبلتها عبادة وميمونة وشغلاها عن الطبيب والسؤال عنه ... وبعد أن استقر بهم المقام، أظهر سلمان أنه ذاهب للبحث عن مولاه في بغداد، وخرج ومكث أهل القصر في انتظاره.
وعاد في اليوم التالي وهو يظهر الاهتمام، وطلب مقابلة دنانير وكانت مع عبادة وميمونة في الحديقة، فجاءها أحد الغلمان يقول: «إن سلمان يرجو مقابلتك الآن إذا شئت.»
فأسرعت وتركت رفيقتيها في حيرة من أمر تلك الدعوة، ولا سيما ميمونة؛ فقد اضطرب بالها لما عساه أن يكون المراد من هذه الدعوة.
أما دنانير فلما لقيت سلمان تقدم إليها سرا وقال: «إني وجدت مولاي الطبيب على الجسر وكان عازما على المجيء إليك، فلما رآني عهد إلي برسالة أبلغك إياها.»
فقالت: «وما هي؟»
قال: «أخبرني أنه جاءه كتاب من مولانا المأمون يستقدمه إليه حالا ...»
فقطعت كلامه قائلة: «من ولي العهد، وهل به بأس؟»
قال: «كلا، ولكنه أمره بالحضور إلى مرو بلا سبب يعلمه، فأنابني في إبلاغ ذلك إليكم، وأمرني أن أبقى هنا تحت أمرك .»
قالت: «وهل يطول غيابه؟»
قال: «لم يخبرني عن مدة الغياب.»
فأطرقت حينا وقد ساءها ذلك السفر السريع؛ لأنها كانت تستأنس ببهزاد وتعتمد عليه، وعلى الخصوص في شأن زينب كما علمت؛ فقالت: «سامحه الله، ولكن لعل له عذرا، ما الذي حمل مولانا المأمون على استقدامه إليه بهذه العجلة؟» قالت وتحولت تطلب الرجوع إلى الحديقة وهي تقول: «فأنت تقيم عندنا الآن؟»
قال: «لا أستطيع الإقامة هنا، ولكنني أتردد عليكم وقت الحاجة، كوني مطمئنة.»
وعادت دنانير إلى الحديقة فرأت ميمونة قد تركت جدتها جالسة في مكانها وتقدمت لتلقى دنانير، وقد بدت اللهفة على محياها، فلما رأتها تذكرت ما لاحظته فيها من الميل إلى بهزاد وعلمت أن خبر سفره يسوءها ... فأرادت التظاهر بعدم الاكتراث وكتمان خبر سفره، فرأتها تنظر إليها والحياء يمنعها من الاستفهام، فأدركت مرادها فابتدرتها قائلة: «ما بالك يا بنية؟ لماذا تركت جدتك وحدها؟» قالت ذلك وألقت ذراعها على كتفها في رفق، فأحست بارتعاشها فقالت: «كأني أشعر بارتعاشك.»
فرفعت ميمونة نظرها إليها كأنها تستعطفها وقالت: «ما الذي أتانا به سلمان؟»
قالت: «أتانا برسالة من الطبيب؟»
قالت: «وما هي؟ هل سافر؟»
فأرادت دنانير أن تداعبها فقالت: «وهل دلك قلبك على سفره؟ لقد قيل: من القلب إلى القلب دليل!»
فخجلت من هذا التلميح واحمر وجهها، ولم تكن تشعر بأن دنانير تعلم شيئا مما يكنه قلبها فقالت: «لماذا تقولين هذا يا خالة؟ إنني أسأل اهتماما بأمر مولاتنا بنت ولي العهد لعلمي بتعلقها به!»
فقالت دنانير وهي تبتسم: «بارك الله في مروءتك. وإذا علمت أنه سافر فهل يسوءك سفره إكراما لمولاتنا؟»
قالت وهي تظهر السذاجة وقلة الاكتراث: «هل سافر حقيقة؟»
قالت: «نعم سافر.» ثم تفرست في وجهها فرأت البغتة ظاهرة فيه وقد تحول احمرار الخجل إلى صفرة الوجل؛ فاستدركت بقولها: «ولكنه يعود قريبا؛ لأن قلبه لا يطاوعه على الفراق.»
فخافت ميمونة أن ينفضح أمرها إذا ظلت مع دنانير، فانصرفت تطلب غرفتها لتخلو إلى نفسها، فلقيها سلمان في الدهليز، فلما وقع نظرها عليه ابتدرته قائلة: «هل سافر بهزاد حقيقة؟»
قال: «نعم يا مولاتي.» قالت: «إلى أين؟»
قال: «إلى مرو في خراسان حيث مولانا المأمون.»
فقالت: «كيف سافر وتركنا؟» وغصت بريقها.
فقال: «تركنا جميعا إلا أنت، وهذا كتابه إليك.» قال ذلك ودفع إليها منديلا ملفوفا فتناولته، وعلمت من ملمسه أن في جوفه كتابا فأشرق محياها وخبأت المنديل في جيبها، وذهبت إلى غرفتها فاستوقفها سلمان قائلا: «هل تحتاجين إلى شيء آخر؟»
فأجابته بقولها: «شكرا يا سلمان، إني لا أنسى جميلك ولا غنى لي عن مروءتك.»
فقال: «إني رهين إشارتك.» ومضى.
وما كادت ميمونة تصل إلى غرفتها وتخلو إلى نفسها حتى جلست على البساط، ثم فتحت المنديل وأخرجت منه لفافة من الكاغد - وكان الكاغد قريب العهد بالاستعمال في التراسل، والفضل في ذلك لأبيها جعفر؛ فإنه أول من استخدمه في الدواوين بدل الجلود - ففضت الكتاب وقرأته فإذا فيه:
من المحب الذي تسمونه بهزاد إلى ميمونة بنت جعفر بن يحيى المقتول ظلما ...
أما بعد، فقد كنت أود أن أكتب إليك بلسان أجدادنا العظام لو كنت تفهمينه، ولكن قضت صروف الزمان أن نتفاهم بلسان أمة ظلمتنا وغلبتنا على أمرنا فقتلت رؤساءنا، واستخدمت قوادنا وحكامنا، واستبدت في شئوننا. وسيأتي يوم نقلب لهم فيه ظهر المجن ونأخذ بالثأر؛ فيعلم الظالمون أي منقلب ينقلبون. وكنت أحب أن أراك قبل سفري وأودعك وجها لوجه لولا خوفي أن يغلبني قلبي كما غلبني أثناء ذلك الاجتماع ففضح سرا كتمته عدة أعوام وكنت عازما على كتمانه حتى يأتي وقته فأبوح به في يوم آتي به عملا يؤهلني لحبك. ولكنك أبيت إلا أن أقول لك إني أحبك فقلت، وأقول: إني أحبك، إني أحبك يا ميمونة، أحبك حبا مبرحا ... أقول ذلك الآن وأنا لا أحاذر أن يحول قولي دون ما عقدت النية عليه منذ عرفتك وقبل أن أعرفك. ولو كنت بين يديك ما قلت ذلك مخافة أن يغلب علي الغرام فأطيعك، بل أطيع قلبي، فأضيع سعيا قضيت العمر في إعداده. أما وأنا في مأمن من ذلك فلا أبالي أن أبوح لك بمكنونات قلبي؛ فاعلمي يا منيتي أني أوقفت حياتي عليك وعلى الانتقام لأبيك. وما أنا بهزاد ولا أنا طبيب ولا كيميائي ولا أنا رسول من جماعة أو جماعات، وإنما أنا من ستعرفينه وتفتخرين بحبه. ولا أقول من أنا حتى تأتي الساعة، ودون الوصول إليها قطع الرقاب والاستهداف للحراب. إني ذاهب إلى خراسان لا بدعوة من المأمون ولا بأمر أحد من الناس، وإنما أنا ذاهب لإتمام أمر بدأت به ولا بد من إتمامه، إني ذاهب طوعا لصراخ صاعد من أعماق القبور ينادي أهل النجدة أن ينتقموا للمظلوم من الظالم. وأما الصندوق فقد كنت أحب أن أريك ما يحويه ولكنني أشفقت على قلبك. وسأفتح لك الصندوق كما فتحت لك قلبي ولكل أجل كتاب. أقيمي ببغداد في حراسة الله، وقد أوصيت غلامي سلمان أن يقوم على خدمتك، وهو أمين صادق فاعتمدي عليه وثقي به واحتفظي بما اطلعت عليه حتى يأتيك النبأ الصحيح من خراسان يوم تنقلب الأحوال وينتصر الحق على الباطل. وإذا لم يسعدني الزمان بما أرجوه فإني أموت ناعم البال وقد فعلت فعل الرجال. وغاية ما يستطيعه الإنسان أن يجود بنفسه في نصرة الحق. والله من وراء ذلك وهو على كل شيء قدير.
وما أتت على آخر الكتاب حتى امتقع لونها وتغيرت سحنتها وكادت تسمع نبضات قلبها بأذنها وخارت عزيمتها، وظنت نفسها في حلم. ولما تحققت من يقظتها طوت الكتاب وخبأته في جيبها، واستلقت على البساط واستغرقت في بحار الهواجس، فراجعت في مخيلتها خلاصة علاقتها ببهزاد منذ عرفته بالمدائن، وما كان من عنايته بها وبجدتها، وكانت تحسبه يفعل ذلك رغبة في الإحسان وأنه لا يعرف حقيقتها، وقد ظهر لها من ذلك الكتاب أنه كان مشغوفا بها عالقا بحبها؛ فندمت على ما أضاعته من فرصة البوح بالغرام.
على أنها تذكرت ما جاء في كتابه من الوعد والإشارة فاشتاقت إلى تلاوته فأخرجته وأعادت قراءته ثانية وثالثة وهي تحاذر أن يدهمها قادم أو يراها راء. ثم سمعت خطوات قريبة فأخفت الكتاب واستلقت وهي تتناعس ثم تباعدت الخطى وعاد السكوت فعادت إلى هواجسها، فراجعت ما ارتسم في ذهنها من عبارات حبيبها، فرأت أنه يعرض نفسه لخطر الموت فاختلج قلبها خوفا عليه وفضلت رجوعه عن عزمه وبقاءه معها تتمتع برؤيته. وتصورت عزمه على الانتقام لأبيها فسهل عليها الفراق، وخيل إليها أنه سيعود ظافرا منصورا فتفاخر به وتعوض عما قاسته من الذل والتستر.
على أنها تحيرت في أمره ومن عساه أن يكون إذا لم يكن بهزاد الطبيب ولا رسول الخرمية. ولما أعياها التفكير استسلمت إلى المقادير، وصبرت لترى ما تأتي به الأيام، ثم غلب عليها النعاس وكادت تنام وإذا بقارع يقرع الباب، فنهضت وفتحته فرأت دنانير وحدها فرحبت بها، فدخلت ضاحكة وقالت: «ما لي أراك وحدك يا بنية؟»
قالت: «استلقيت على هذا البساط لأستريح فغلب علي النعاس.»
فأظهرت أنها صدقت قولها وهمت بالخروج وقالت: «نامي يا حبيبتي تريه في الحلم.»
فاستغربت تعريضها وقالت: «ماذا تعنين؟»
قالت: «لا تخافي يا ميمونة، إن جدتك غائبة الآن فلا تكتمي. على أن تكتمك لا ينفعك، وأنا قهرمانة خبرت الزمان وقرأت الكتاب من عنوانه.»
فتوهمت ميمونة أنها تشير إلى ذلك الكتاب، فقالت: «وأي كتاب تعنين؟» وبدا الارتباك في وجهها.
فقالت: «لا أعني كتابا مرقوما.» وتحولت إليها بجملتها وقالت: «إنما أعني أن دلائل الحب لا تخفى على أحد، وقد عرفت حبك بهزاد من أول نظرة، ويسوءني أنه سافر قبل أن ...» وأومأت بجفنها.
فخجلت ميمونة من ذلك الإيماء ولكنها سرت لبقاء أمر الكتاب مكتوما عنها، وهان عليها مكاشفة دنانير بحبها - وفي المكاشفة راحة للمحبين إذا وثقوا من كتمان حبهم - فابتسمت وأطرقت.
فاستبشرت دنانير وهي إنما تلتمس ذلك منها لتشاركها السعي في نيل مطلوبها، فألقت يدها على كتفها وأشارت إليها أن تقعد، فقعدت وهي تلاطفها وتهش لها لتجرئها على أن تبوح، ثم قالت: «سامح الله طبيبنا، كيف سافر قبل أن يتم العقد؟ لا تخجلي يا ميمونة؛ فإنك تحبينه حبا طاهرا ولا شك أنه يحبك أيضا، وهو من خيرة الشبان، لا حرمك الله منه.»
فتجرأت ميمونة على الكلام وقالت : «وهل الحب عيب يا خالة؟»
قالت: «معاذ الله! لم أقل ذلك. فلا يصعب عليك فراقه؛ فإنه لا يلبث أن يعود فلا تجزعي.»
فتنهدت وسكتت وسرورها باد ثم قالت: «إني يتيمة مسكينة، فلعل الله نظر إلى ذلي فأراد رفعي، ولا غنى لي عن عونك لأني في حماك.»
قالت: «إنك مولاتي وبنت مولاتي، ولا أنسى فضل أبيك رحمه الله، فأيقني أني عون لك على كل ما تريدين. وهذه مولاتنا زينب قد أحبتك واستأنست بك.»
ولم تتم كلامها حتى سمعت خطوات مسرعة نحو الحجرة وصوتا مرتجفا ينادي: «أين مولاتنا القهرمانة؟»
فعلمت دنانير أن بعض الغلمان جاء في مهمة، فصفقت فجاء الغلام حتى وقف بالباب وصاح: «أأدخل؟» فقالت: «ادخل.»
فدخل وحيا، فصاحت به: «ما وراءك؟»
قال: «إن شاكريا بباب القصر يقول إنه يحمل كتابا إليك.»
فقالت: «شاكري؟ وما شأن الشاكرية عندنا. إنهم رسل الخليفة وليس في القصر رجال. لعله ضل السبيل.»
قال: «سألته في ذلك فذكر أنه يحمل رسالة إلى قيمة القصر، وسماك باسمك.»
قالت: «اذهب وهات الرسالة لنرى فحواها.» فخرج. واستغربت هي الخبر، أما ميمونة فارتبكت وخافت أن تكون الرسالة بشأنها أو لأمر يسوءها. ومن تتوالى عليه النوائب يسبق إلى ذهنه ما يسوءه ويغلب أن يصدق ضميره فيه.
وبعد قليل عاد الغلام وفي يده كتاب مختوم ودفعه إلى دنانير وخرج، فنظرت في الختم فرأته خاتم الفضل بن الربيع وزير الأمين، فتشاءمت من رؤيته وأخذت في فضه ويدها ترتجف، وأدركت ميمونة بغتتها فاختلج قلبها، ولبثت تنتظر ما يبدو منها؛ ففضت دنانير الكتاب وأخذت تقرؤه والدهشة بادية في عينيها، وميمونة تراقب حركاتها وتكاد تخطف الكتاب من يدها لتطلع على ما فيه، ولكنها تجلدت وصبرت نفسها فرأت دنانير تعيد قراءته وقد ظهر الارتباك عليها، ثم تحفزت للوقوف فأخذت ميمونة بيدها وصاحت وصوتها يرتجف: «إلى أين؟ قولي لي أليس هذا الكتاب عني؟ إني أرى عليه خاتم الفضل بن الربيع، لا ريب أنه يمسني.»
قالت: «وما شأنك أنت؟ إنه يخاطبني أنا !»
قالت: «أشعر أن له علاقة بي، قولي ماذا يريد مني؟ ويلاه! قولي!»
فابتعدت دنانير منها ونهضت وهي تقول: «لا علاقة له بك!»
فتبعتها وأمسكت بيدها وترامت عليها وقالت: «أتوسل إليك أن تصدقيني، بالله قولي ولا تخفي علي واعذري لهفتي.»
فبدا الغضب على دنانير وقالت: «لقد أوغل هذا الرجل في القحة وتجاسر كثيرا! وكأنه اغتنم فرصة غياب سيدي وحسب أننا نخاف سطوته ونطيع أوامره. قبحه الله!»
فتأكدت ميمونة أن الكتاب يتعلق بها فصاحت: «مهما يكن من فحوى هذا الكتاب فإني أحب الاطلاع عليه، والأمر لك في كل حال. أطلعيني عليه ولو كان فيه قتلي، بالله أطلعيني عليه.»
فلم تر دنانير بدا من مسايرتها، فدفعت الكتاب إليها فتناولته بيدها وهي ترتجف وقرأته، وهاك نصه:
من الفضل بن الربيع وزير أمير المؤمنين إلى القهرمانة دنانير.
وقع إلى أمير المؤمنين أن في قصر مولانا المأمون فتاة اسمها ميمونة جاءت من عهد قريب، ويجب أن يراها ويسألها عن بعض الشئون، ويطلب إرسالها مع الشاكري حامل هذا الكتاب.
وما أتمت ميمونة تلاوة الكتاب حتى غشي الدمع عينيها وكاد الكتاب يقع من أناملها لفرط دهشتها، وصاحت: «ويلاه! إن حبل تعاستي لا يزال متصلا. ويلاه! ماذا أفعل؟ دعيني أخرج من هذا القصر.»
فأخذت دنانير تخفف عنها وقالت: «لا بأس عليك، لن تخرجي من هنا، ولن نسلمك لأحد؛ إنك في ضيافتنا، كوني مطمئنة.» قالت ذلك وخرجت وظلت ميمونة وحدها. ولما صارت دنانير في الدهليز صفقت فجاء الغلام فقالت: «قل للشاكري أن يذهب ولا جواب له عندنا.»
ورجعت إلى ميمونة وهي ترتجف من الغضب، فوقعت ميمونة في حيرة وأخذت تندب حظها، ودنانير تطمئنها وتخفف عنها. وفيما هما في ذلك أتت عبادة وهي خالية الذهن من الأمر، فلما رأتهما قالت: «ما بالكما؟»
قالت ميمونة: «إن وزير السوء كتب في طلبي، وزعم أن أمير المؤمنين يحب أن يسألني عن بعض الشئون!»
فأطرقت عبادة وفكرت هنيهة وقالت: «قد علمت السبب في ذلك، إن الكتاب ليس من أمير المؤمنين وإنما كتبه الفضل لغرض في نفسه أنا أعلمه، وأظنكما تعلمانه أيضا. والأجدر أن نخرج من هذا القصر قبل أن يتفاقم الخطب ويحدث ما لا تحمد عقباه بسببنا.»
فصاحت دنانير: «إنكما في ضيافتنا ولا تخرجان مطلقا. أيجسر هذا الوغد على أضياف ولي العهد؟ كلا، لن تخرجا على هذه الصورة، ومتى جاء سلمان شاورناه في الأمر فإنه خبير. ونرى ما يكون.»
مجلس الفضل
كان سلمان قد رجع من قصر المأمون في ذلك الصباح إلى مخدعه فغير هندامه وتقمص شخصية الملفان سعدون، وسار حتى دخل مدينة المنصور وقصد إلى قصر باب الذهب يتوكأ على عكازه ويسرح لحيته وقد تأبط كتابه ومشى يلتمس المنزل الذي أعد له بأمر الأمين أثناء إقامته هناك. فدخل حجرته وأخذ يطالع في كتاب كأنه يكشف أمرا أهمه. وظل في ذلك إلى العصر وهو يتوقع أن يأتيه أحد في استفتاء أو استطلاع لعلمه أن الجواسيس والعيون مبثوثة بالأبواب ينقلون خبر القادمين والذاهبين إلى صاحب الشرطة.
وفيما هو في ذلك، سمع وقع حوافر جواد يقترب من حجرته، فأصاخ بأذنيه فسمع الراكب ينزل ويخطو نحو بابه مسرعا، فأدرك من رائحة الطيب التي فاحت أنه ابن الفضل، وعلم من سرعة خطوه أنه جاء متلهفا؛ فظل جالسا حتى قرع الباب فنهض وفتح له واستقبله بفتور واستخفاف على غير عادته؛ فتهيب ابن الفضل من رؤيته لما سبق إلى ذهنه من اقتداره على استطلاع الغيب، فحياه وهو يبتسم وقال: «كيف حال الملفان سعدون اليوم؟»
فأجابه بالإشارة أن يدخل ويجلس وظل ساكتا.
فابتدره ابن الفضل قائلا: «ما بالك يا ملفان؟ ما لي أراك غاضبا؟»
قال: «تفضل يا ابن الوزير واجلس. من أنا وما هو غضبي؟ ولكني رأيت أهل هذا الجيل لا يليق بهم غير الخداع والكذب.» قال ذلك وأشار إلى ابن الفضل أن يجلس.
فقال ابن الفضل: «لا حاجة بي إلى الجلوس. إني لم آتك لأمر يهمني وإنما لأدعوك إلى أبي.»
قال: «إذا كان أبوك يسيء الظن بي ولا يصدق قولي كما فعلت أنت، فلا فائدة من سماع كلامي.»
فاستغرب ابن الفضل تعريضه به وعلم أنه يشير إلى ذهابه للبحث عن ميمونة في المدائن بعد أن أكد له سعدون أنها خرجت منها، ولكنه تجاهل وقال: ما هذا التعريض والتلميح؟ متى أسأت الظن بك؟»
قال: «أظنك تحملت المشقة في الذهاب إلى المدائن لأنك ما صدقت قولي إنها خرجت منها؟ هل وجدتها هناك؟»
فخجل ابن الفضل وغلب على حجته، ولكنه غير الحديث وقال: «سنعود إلى هذا الشأن في فرصة أخرى، والآن تعال إلى أبي فإنه سيسألك عن أمر مهم يتعلق بالدولة والخلافة.»
ففهم من هذه العبارة على سذاجة قائلها ما يغنيه عن بحث طويل وقال: «إني رهين إشارة الوزير، أين هو الآن؟»
قال: «هو في قاعة صاحب الشرطة بهذا القصر.»
فمشى سعدون إلى نعاله وشدها بقدميه وتأبط كتابه وقبض على عكازه وخرج في أثر الفضل وهو يفكر فيما عساه أن يسمع من الأسئلة، وإن كان قد أدرك أن الغرض الأول هو السؤال عن بهزاد؛ استنتاجا من قرائن الأحوال ومما سمعه من ابن الفضل من أن أباه سيسأله عن أمر يتعلق بالدولة. وكان سلمان يحذر الفضل ويخاف فراسته ودهاءه، ولا سيما بعد أن رآه مطلعا على أمر بهزاد ومجيئه إلى بغداد، وبعد أمره بالقبض عليه وإن فشل في ذلك. فسار في أثر ابن الفضل مطرقا يتمتم. ولم يكن يخاف ابن ماهان صاحب الشرطة لعلمه بضعفه وغروره.
فلما وصلا إلى مجلس صاحب الشرطة دخل ابن الفضل بلا استئذان، وظل الملفان سعدون واقفا حتى ناداه ابن الفضل، فلما دخل رأى الفضل متكئا في صدر القاعة على وسادة كبيرة وقد قطب حاجبيه وظهر الاهتمام في وجهه، وبيده مذبة يذب بها الهواء عن وجهه وكتفيه؛ إذ لم يكن هناك ما يذبه، ولكنه كان يتشاغل بذلك لما تزاحم في خاطره من الأفكار. ووجد ابن ماهان جالسا بجانبه على وسادة وقد أرسل لحيته على صدره وبالغ في صبغها بالحناء فبدت شديدة الحمرة، وكان مع وهن عظمه ما زال يغالب الشيخوخة، فجلس القرفصاء مع أن في وسعه أن يتكئ بين يدي الفضل في غير كلفة، وإنما خاف أن يعد ذلك عجزا وهرما. •••
فلما دخل ابن الفضل لم يتحرك أبوه من متكئه، وإنما وجه بصره إلى سلمان وقال: «هذا هو الملفان سعدون! أظنني رأيته بالأمس هنا؟»
فقال ابنه: «نعم يا أبت، وهو رئيس المنجمين في دار مولانا الأمين.»
فأشار الفضل إلى سلمان أن يقعد، فأطرق هذا متظاهرا بالسذاجة وقلبه يخفق تهيبا من الفضل بعد تلك المقابلة (ويكاد المريب يقول خذوني). على أنه تجلد وهدأ روعه وتشاغل بتسوية المنديل الحريري حول كتابه المعهود. وما كاد يأخذ مجلسه حتى سأله الفضل: «أأنت رئيس المنجمين؟»
فقال: «هكذا يقولون يا مولاي، ولكني لا أستحق هذا اللقب.»
قال: «يظهر أنك أهل لأكثر من ذلك، فقد سمعت الكثير من صاحب الشرطة وابني هذا عن مقدرتك العجيبة في استطلاع المخبآت!»
قال: «إن الفضل في هذا يرجع إلى هذا الكتاب، وإلى ما تلقيته من القواعد التي يستعان بها في كشف الغوامض؛ فأنا أقول ما يظهر لي أو يلقى إلي، وقد أتلو العبارة وأنا لا أفهم معناها.»
فالتفت الفضل إلى ابن ماهان كأنه يستطلع رأيه في ذلك، فأجابه هذا بإشارة من حاجبيه مصدقا لما قيل كل التصديق؛ فابتسم الفضل ابتسامة تشف عن ارتياب وقال: «عند الامتحان يكرم المرء أو يهان. هل تجيب عما أسألك عنه؟»
فرفع الملفان رأسه نحو الفضل وبصره متجه إلى المذبة يتحرك بحركتها كأنه يظهر التهيب من النظر إلى وجهه وقال: «اسأل ما تريد، وما العلم إلا من عند الله، فإذا فتح علي بشيء قلته، وإلا اعترفت بعجزي؛ فهذه هي عادتي.»
فلما قال ذلك هز ابن ماهان وابن الفضل رأسيهما موافقين؛ لأنهما خبرا ذلك فيه. فاعتدل في مقعده وقال: «إني أسألك عن أمر مهم يتعلق بالخلافة فاصدقني خبره كما تراه، ولا تظنني أسألك عن أمر أجهله؛ فإني إنما أختبر معرفتك!»
فابتسم سلمان ابتسام الاستعطاف وقال: «إذا كنت في ريب من صدقي فالأولى إطلاق سبيلي؛ فإني ...»
فقال الفضل مقاطعا: «لا، لا أطلق سبيلك قبل أن أختبر صدقك أو خداعك، فإذا كنت من أهل العلم الصحيح فقل لي عما أضمره.»
فلما أدرك سلمان جفاءه عمد إلى الملاينة وقال: «الأمر لمولاي في ذلك، وله أن يطلق سراحي أو يقيدني أو يقتلني أو يفعل بي ما يشاء بلا اختبار.»
وشعر ابن ماهان بأن سعدون قد استاء من تلك العبارة فقال: «لا يريد الوزير بك إلا خيرا، ولكنه تعود أن يرى في بلاط الخليفة جماعة من المنجمين الدجالين، ولما ذكر له عملك وفضلك أحب اختبارك؛ فقل ما يبدو لك من أمر الخلافة.»
ففتح سلمان الكتاب وأخذ يقلب فيه ويتمتم مطرقا وهم سكوت ينتظرون ما يبدو منه، ثم وجه خطابه إلى ابن ماهان فقال: «ألم أخبرك عن أمر الخلافة قبل أن يعرف أحد بخبرها؟»
قال: «بلى، ولكن المراد أن نعرف أعداءنا وما عساه أن يكون من أمرهم؟»
فعاد إلى التفتيش في الكتاب وهو يقرأ حتى بدا التعب في وجهه وتصبب العرق من جبينه؛ فأخرج من كمه قطعة بخور مضغها في فيه وطلب قدحا فيه ماء ووعاء فيه نار، فأتوه بموقد صغير من النحاس كالمبخرة وضعوه بين يديه، فألقى قطعة البخور في النار وتناول القدح وأخذ يتفرس في الماء تفرس الخائف من أمر يفاجئه، ثم صاح بغتة قائلا: «إلى المدائن. في قصر سابور؟»
وكرر التفرس في الماء جيدا وهو يقول: «أليس هذا قصر سابور؟ ومن سكن فيه؟» وسكت وهو يسترق النظر إلى سامعيه ليرى هل يضمرون السؤال عن بهزاد كما استنتج، فرأى ابن ماهان يشير بالإعجاب، فعلم أنه أصاب، ولكنه تظاهر بالتعب فألقى القدح من يده وتناول منديله وأخذ يمسح العرق من جبينه وهو ساكت، فقال له الفضل: «ماذا جرى في ذلك القصر؟»
فألقى في النار بخورا ثم أعاد النظر في القدح وقال: «إني أرى جندا وعيارين نزلوا من المراكب إلى البر مسرعين، ودخلوا ذلك القصر.»
فقال الفضل: «ثم ماذا؟»
قال: «ذهب سعيهم سدى يا مولاي لأنهم لم يجدوه في البيت!»
فأبرقت أسرة الفضل ولكنه بقي يظهر الجد وقال: «بارك الله فيك، قد عرفت ما في نفسي، فاعلم أني أطلب الرجل الذي كان يقيم بذلك القصر، هل تعرف اسمه؟»
فأطرق وتمتم كأنه يتلو شيئا ألقي إليه، ثم قال: «يسمونه بهزاد الطبيب الخراساني.»
فأظهر الفضل إعجابه وقال: «هذا طلبتي، فأين هو الآن؟ ابحث لنا عن مكانه!»
فعاد سلمان إلى الكتاب وقلبه، ونظر في القدح قليلا، ثم وضع القدح وصفق وقال وهو يشير بيده إلى خارج بغداد: «هو خارج بغداد على جواده في صحراء بعيدة وعليه لباس السفر.»
فصاح الفضل: «هرب؟! هرب الخراساني الملعون؟ هل رأيت خادمه؟»
فأعاد نظره إلى القدح وقال: «لا أرى معه أحدا.»
فقال: «وهل عرفت بالتنجيم شيئا عن خادمه أو رفيقه؟»
فعلم سلمان أنه يعنيه هو؛ لأن الذي أطلع الفضل على خبر بهزاد ذكر أن معه رفيقا وأنهما جاءا معا لمهمة سرية من خراسان، فلما عادا إلى بغداد أمر بالقبض عليهما فلم يظفر بهما. وقد علم سلمان باطلاع الفضل على خبرهما وإرساله الجند للقبض عليهما فسارع إلى إنقاذ بهزاد كما تقدم، فلما سأله الفضل عن رفيق بهزاد تجاهل وقال: «علمت أن له رفيقا يسمونه سلمان؟»
قال: «نعم سلمان. أين هو الآن؟»
فاضطربت جوارحه ولكنه تجلد وقال وهو ينظر في القدح ثم يتلفت يمنة ويسرة: «إنه في بغداد، وأظنه في مدينة المنصور، ولكنني أراه مستترا وقد أقام بينه وبين المنجمين سترا كثيفا، وقد أتغلب عليه وأكشفه في فرصة أخرى.»
فقال الفضل: «إن بقاء سلمان هذا في بغداد غنيمة كبرى تعوضنا عن فرار رفيقه، وقد بلغني أن سلمان هذا يتزيا كل يوم بزي جديد.»
فقال: «ولهذا ظهر لي في المندل مستترا، ولكنه لا يخفى على الملفان سعدون ولو تمنطق بالنجوم وتعمم بالشمس وانتعل القمر. والأمور مرهونة بأوقاتها.»
ثم رأى أن يغتنم هذه الفرصة لنيل البغية التي يسعى إليها أعداء العباسيين فقال: «وهل يظن مولاي أن فرار بهزاد خير له من بقائه هنا؟»
قال: «إن فراره ينجيه من أيدينا، هل ترى غير ذلك؟»
ففتح الكتاب وقلب صفحتين وقرأ ثم قال: «لكنه ذاهب لنصرة رجل كبير في خراسان .»
فأدرك الفضل أنه يعني المأمون فقال: «لا فائدة من نصرته وهو بعيد.»
قال: «أرى ذلك الرجل الكبير صاحب سلطان خوله إياه أمير المؤمنين، وقد يحاربه إن لم يتلاف أمره ويقص جناحيه.» وقد أراد سلمان أن يحرض الفضل على خلع المأمون من ولايته على خراسان ليتسع الخرق بين الأخوين فتسنح الفرصة للطامعين. •••
والتفت الفضل إلى ابن ماهان فرآه ينظر إليه مستفهما، وفي نظرته دليل الموافقة على تحريض الأمين على خلع أخيه، وكان الفضل أكثر رغبة في ذلك لما يعلمه من حقد المأمون عليه لمساعيه ضده، ولكنه تجاهل وأراد تغيير الحديث فقال: «بورك فيك يا ملفان.» ثم التفت إلى ابنه وقال: «لقد أسأنا إلى رئيس المنجمين إذ أسأنا الظن به، وأخشى أن نكون قد فرطنا في الأمر!»
فقال ابن الفضل: «كنت واثقا بالملفان، ولكنك حملتني على الشك فيه حتى فعلنا ما فعلناه.»
ولم يكن الملفان عالما بما فعله الفضل من إرساله إلى دنانير يطلب ميمونة فنظر إلى الفضل وقال: «أرجو ألا يكون فيما فعلتموه ضرر.»
فقال ابن الفضل: «إنما أسأت بك الظن لما رأيته من إنكارك المكان الذي تقيم فيه الفتاة، ثم علمنا من جواسيسنا أنها في قصر المأمون فكتبت إلى قهرمانته أطلب إرسالها إلينا فأساءت الجواب وردت الرسول خائبا، فأرسلنا إليها جندا يأتون بها قهرا!»
فشق على سلمان ما قد يصيب الفتاة من الأذى، ولكنه تجاهل وقال: «إنني لم أخف على مولانا (وأشار إلى ابن الفضل) مكانها، ولكنني ذكرت له أنها خرجت من المدائن، ولم تكن نزلت بالقصر المأموني بعد، ولو سألني بعد نزولها لأخبرته بمكانها. وكنت عازما على أن أحملها إليه بالحسنى مستعينا بهذا الكتاب، فليته لم يعجل بالأمر.» قال ذلك وقد ساءه ما تصوره من الغلظة التي يأتونها في هذا السبيل.
فقال الفضل: «إن قهرمانة القصر أساءت الأدب في رد الشاكري، ولعلها لا تعلم أن الفتاة مغضوب عليها وعلى كل أهلها، وإنما أردنا تشريفها واستبقاء حياتها لأنها وقعت من ولدي هذا موقع الاستحسان.»
ميمونة والأمين
وفيما هم في ذلك جاء الحاجب وقال: «إن رسول الوزير بالباب .»
فقال: «يدخل.» والتفت إلى الحضور وقال: «هذا رسولنا مع الجند إلى قصر المأمون، فلنسمع ما جاء به.»
ثم دخل الغلام، وهو من الشاكرية، فألقى التحية وتأدب، فقال له الفضل: «ما وراءك.» قال: «هل أقول؟» قال: «قل ... هل أتيتم بالفتاة؟»
قال: «نعم، ولكنها لم تأت وحدها.» قال: «ومن جاء معها؟»
قال: «جاءت معها مولاتنا أم حبيبة بنت ولي العهد.»
فأجفل الفضل وقال: «أعوذ بالله! وكيف أتيتم بها؟ ومن قال لكم ذلك؟»
قال: «لم يقل أحد ولا نحن رضينا بمجيئها، ولكنها جاءت رغم إرادتنا؛ إذ تعلقت بالفتاة وأبت إلا أن نأخذها معها!»
قال: «إنا لله وإنا إليه راجعون! ألم يكن في وسعكم اجتناب مجيئها؟»
قال: «كلا يا مولاي؛ لأنها تعلقت بالفتاة ولم تبال أقوالنا وتهديدنا، حتى لقد حدثتنا أنفسنا أن نتركهما معا، وقد جاءت معهما أيضا القهرمانة دنانير؛ إذ عرضت نفسها للقتل وذكرت أنها تؤثر الموت على تسليم الفتاة، فأتينا بالثلاث معا.»
فقال: «وأين هن الآن؟»
قال: «هنا في دار النساء، وأم حبيبة تطلب أن ترى عمها الخليفة.»
فاكفهر وجه الفضل عند ذلك لبلوغ المسألة إلى هذا الحد، ولكنه كان واثقا بسلطانه على الأمين، ولا سيما إذا أطلعه على سر الفتاة وأنها بنت جعفر البرمكي، وأنه إنما أراد القبض عليها ليقدمها له فيرى رأيه فيها. فنهض وهم بالخروج، ثم التفت إلى ابن ماهان وقال: «صدق من قال: «إن في العجلة ندامة.» فلو أطعنا الملفان ما وصلنا إلى هذه المشكلة، ولكن لا بأس.» ثم التفت إلى سلمان وأشار مودعا وكان هذا قد وقف وحيا شاكرا، وقد اطمأن على ميمونة لمجيء أم حبيبة معها وطلبها مقابلة الأمين؛ فلا شك في أنه يحتفظ بالفتاة إكراما لبنت أخيه فتنجو من ابن الفضل.
ثم خرج من المجلس وقد غابت الشمس وأضيئت الشموع الكبيرة المشهورة بشموع الأمين.
وكان الأمين ساعتئذ في مجلس غناء أمر بإعداده، وحشد له المغنين والندماء. فأعد في إيوان كبير بين قاعات القصر، في وسطه بركة يتدفق فيها الماء من أنابيب على هيئة رءوس الثعابين ، وحولها أغراس الرياحين ومقاعد الجلساء والمغنين. وكان الوصفاء من الخصيان يقومون بخدمته هناك وفيهم السقاة عليهم الألبسة الثمينة الباهرة وهم في زي الجواري، وقد أرسلوا شعورهم جدائل مفردة ومزدوجة، وفي أيدي بعضهم الدفوف أو المزاهر أو العيدان يدقون ويغنون، وإلى جوانبهم الجواري الحسان في زي الغلمان وهن هدية إلى الأمين من أمه زبيدة.
وكان الأمين يغالي في اقتناء الجواري من أقاصي البلاد وينفق في استجلابهن الأموال. وقد ارتدى في ذلك المجلس لباس المنادمة، وهو غلالة صفراء مصقولة صقلا شديدا، وعلى رأسه عمامة خفيفة، وجلس على سرير من الآبنوس المنزل بالعاج، وبين يديه مائدة عليها أنواع الأطعمة والأشربة والرياحين، وقد فاحت رائحة المسك وغيره من الأطياب حتى ملأت الفضاء.
وبينما هو في مجلسه هذا جاءه الحاجب وقال: «مولاتي زينب أم حبيبة بالباب.» فبغت الأمين وظن مخبره واهما فاستفهمه قائلا: «ابنة أخي؟»
قال: «نعم يا مولاي.»
فتحير في أمره ولم يدر بماذا يجيب؛ إذ أكبر أن تقابله ابنة أخيه وهو في مجلس الشراب على تلك الصورة. ولم يكن سلطانه وقوة بطشه ليمنعا خجله من فتاة صغيرة يسترضيها الناس بتفاحة أو لعبة؛ لأن سلطان الأدب والحشمة أغلب في النفس من سلطان السياسة والشدة؛ ولذلك كان الأدب قوة، ولأدب النفس هيبة يجلها العقلاء وغير العقلاء، وصاحب الرذيلة مهما يعظم سلطانه وإن استغرق في المنكرات لا يزال في ضميره بقية من احترام الفضيلة وأهلها. ألا ترى أرباب المعاصي وإن تساهلوا في ارتكابها يستنكفون من أن ينتسبوا إليها أو يقال إنهم من أهلها؛ فهم أذلاء وإن عزوا، ويغلب عليهم الجبن في مواقف الإنسانية وإن كانوا أبطالا في مواقف القتال. إن مرتكب المعصية محكوم عليه بالمذلة والضعة من عند نفسه لاعتقاده أنه يخالف السنن الأدبية فضلا عن الدينية، وقد يكون سيدا مطلقا لا سلطان عليه ولا يخشى حكما ولا قصاصا، وربما كان معطلا لا يخاف عقابا ولا يرجو ثوابا، ولكنه يخاف شيئا لا صورة له في الوجود، ويخاف ما قيل عنه وما يقال له. وقد لا يضره ذلك ولا ينفعه، ولكنه فطر على التماس حسن الأحدوثة أو «الشهرة». ولولا هذا لكان الناس كالبهائم يأكلون وينامون.
فهذا الأمين، مع تهتكه وسكره وعلمه بانتهاكه حرمة الشرع والعرف وصمه الأذن عن النصح، لم يسعه إلا أن خجل أن يقابل في مجلس لهوه فتاة صغيرة؛ وما ذلك إلا حرصا على كرامته، ولعلمه بطهارة قلبها وصفاء سريرتها.
فلما أنبئ باستئذانها عليه تردد في الإذن وأكبر أن يظهر خجله من مجلسه هذا فينهض لمقابلتها في غرفة أخرى وهو الخليفة صاحب السلطان الأكبر مالك رقاب العباد، ولم يستطع ردها إذ لا عذر له في ذلك؛ فغلب عليه اعتزازه بالإثم فقال: «تدخل ابنة أخينا.»
وكان القدح بيده فوضعه على المائدة، واصطنع الوقار على قدر ما يستطيع، فلما رأى جلاسه ذلك جنحوا إلى التهيب وتولاهم السكوت، وألقوا أدوات الشراب من أيديهم. وأشار الأمين إلى الغلمان والجواري فتباعدوا، واستولت الحشمة على الجلسة، وسكت القوم كأن على رءوسهم الطير.
فدخلت زينب وعليها مطرف من خز قد التفت به، وخمار مزركش يكسو رأسها إلا بعض وجهها. وقد أشرق ذلك الوجه حياة وتجلت فيه الطهارة وسلامة القلب. وفي طهارة الأطفال رونق للناظر وهيبة للمتأمل وعظة للعاقل، ويستدل علماء الأخلاق من ذلك على ما فطر عليه الإنسان من الميل إلى الخير، وأنه إنما يساق إلى الشر بما يعرض له من أسباب المطامع أو يمارسه من اختلاف المشارب، وإذا أتى شرا فإنما يأتيه للدفاع عن نفسه أو ماله، وقد يظهر أنه مهاجم متعد ولو فحصت ضميره واستطلعت خبايا قلبه لرأيت أساس ذلك التهجم هو الدفاع عن نفسه.
فالأطفال مثال للفطرة الساذجة، لا يعرفون الكذب أو التملق أو الخداع. يقولون ما يعتقدون لا يخافون ولا يحاذرون، ولا سيما إذا ربوا كما ربيت زينب على أيدي دنانير؛ حيث تثقفت واستنار عقلها على قدر ما تسمح به سنها، واعتادت ألا ترد كلمتها. فلما رأت الجند يخالفونها ويلحون في أخذ ميمونة شق عليها الأمر وأكبرته، ولما زجرت إرادتها بكت وجاءت معهم كما تقدم، فدخلت لساعتها على عمها وقد أبرقت عيناها وفيهما أثر البكاء.
فلما رآها الأمين رحب بها ونهض لاستقبالها، فلم يبق أحد من الحضور إلا وقف تهيبا. ولم يروا بدا من إخلاء المجلس للخليفة وابنة أخيه، فخرجوا وغادروا المائدة وأباريقها وأقداحها وزهورها ورياحينها، وقد تبعثرت الفاكهة وأقداح الشراب ومنثور الأزهار وأضاءت منائر الشمع في جوانب الإيوان، وود الأمين لو تنطفئ لتخفي تهتكه.
فلما دنت زينب من عمها ترامت على ذراعيه وغلب عليها البكاء، فضمها إلى صدره وقبلها وقال: «لا بأس عليك يا ابنة أخي، ماذا أصابك؟»
أما هي فلما شمت رائحة الخمر في فيه نظرت إلى ما حولها مستغربة، فأراد أن يلهيها عن الاستفهام فقال: «ما بالك يا أم حبيبة ماذا تريدين؟ لماذا لم تدخلي دار النساء؟»
فقالت: «قد كنت هناك وأحببت أن أراك ولم أكن أعلم أنك على مائدة الطعام.»
فسره أنها تحسبه على مائدة الطعام فقال: «هل من حاجة نقضيها لك؟»
قالت: «نعم لي حاجة ...» والتفتت إلى الباب وقالت: «نعم لي حاجة، أين دنانير؟ هي تقص عليك خبري.»
فتجلد الأمين وهو يحسب لهذا المجيء ألف حساب، لما يعلمه من إساءته إلى أبيها. ولكنه استبعد أن تطلع هي على شيء من ذلك فتجاهل وقال: «هل القهرمانة معك؟»
قالت: «نعم، كانت معي في دار النساء، وقد أرادت ألا تفاجئك في هذا المجلس.» ثم نظرت فيما على الأرض من الأدوات وقالت: «أرى مائدتك يا عماه تختلف عن مائدتنا، لعل مائدة الخلفاء هكذا.» قالت ذلك بسذاجة وإخلاص فأصاب قولها قلب الأمين لما حواه من التوبيخ الصريح عفوا، فقال: «إنها مائدة بعض الأضياف كانوا عندنا الليلة. هلمي بنا إلى دار النساء.» قال ذلك ولم يعد يصبر على البقاء هناك، فنهض وأخذ بيدها وهي تتوكأ عليه حتى دخلا قاعة في دار النساء مفروشة بالبسط والنمارق ليس فيها أحد، وأجلسها بجانبه وهو مشتاق إلى سماع شكواها ليطلع على جلية الخبر، ثم صفق فجاءه غلام فقال: «ادع القهرمانة دنانير.»
وبعد قليل دخلت دنانير وهي مطرقة وقد غطت رأسها بالنقاب وهمت بتقبيل يده ثم وقفت متأدبة، فقال: «ما الذي جاء بكما يا دنانير؟»
قالت: «يسوءنا أننا أزعجنا أمير المؤمنين وكدرنا عليه مجلسه، ولكن سيدتي أم حبيبة أبت إلا أن تجيء الليلة ولم أستطع منعها.»
فقال: «وما الخبر؟» قالت: «ألم ترسل إلينا في طلب ضيفتنا؟»
قال: «وأي ضيفة تعنين؟» قالت: «ضيفتنا ميمونة.»
قال: «لم أفهم مرادك، أفصحي.»
فأدركت دنانير أن الفضل فعل ذلك من عند نفسه فقالت: «نزلت عندنا منذ يومين فتاة غريبة اسمها ميمونة، ألفتها سيدتي زينب وأحبتها، فجاءني كتاب من الفضل وزيرك يطلبها باسمك، فاعتذرت من تسليمها لأنها ضيفة ولها حق الجوار، فأرسل إلينا جندا ليأخذوها قسرا، فلما رأت مولاتي إصرارهم على أخذها تعلقت بها وأبت إلا أن تأتي معها، فلم أستطع التخلي عنها فجئت معها.»
فأطرق الأمين وقد أكبر انتحال الفضل اسمه بغير إذنه، ولكنه تجلد وقال: «من هي ميمونة هذه؟ لعلها من موالينا؟»
قالت: «هي فتاة يتيمة لا ملجأ لها ولا معين، وقد يكون في قصر أمير المؤمنين عشرات أو مئات مثلها.»
قال: «وأين هي الآن؟»
قالت: «في هذه الدار يا مولاي.»
قال: «علي بها لأراها.»
فلما خرجت دنانير وضع الأمين يده على كتف زينب وضمها إليه تحببا وقال: «تحملت المشقة لأجل هذه الجارية؟»
قالت: «إني أحبها يا عماه لأنها لطيفة وحلوة، وستراها الآن، وقد قلت للجند أن يتركوها فأبوا، ألا تريد أن تعطيني إياها؟»
فاستلطف الأمين سذاجتها ولطف تعبيرها وقال: «سأفعل ما تريدين. طيبي نفسا.» وبعد قليل عادت دنانير وميمونة تتبعها مطأطئة رأسها تذللا، وقد توردت وجنتاها وتكسرت أهداب عينيها من البكاء.
فلما أقبلت عليه ترامت على قدميه وصاحت: «إني جارية أمير المؤمنين.»
فلما رأى الأمين جمالها أعجب بها ورق لبكائها، فأمرها بالنهوض وقال: «لا بأس عليك يا بنية طالما كنت في ضيافة بنت أخينا ولك هذه المنزلة عندها، قومي.» والتفت إلى دنانير وقال: «خذيها إلى دار النساء وامكثا الليلة عندنا ريثما أنظر في أمرها. وأنت يا زينب ضيفتنا الليلة. واطمئني أننا لا نرد لك طلبا.»
فاستأنست الفتاة بعمها وهي في معزل عن السياسة لا تعلم شيئا مما جرى بعد وفاة جدها بين ابنيه، ولما رأت عمها يضمها ويبش لها تذكرت أباها فقالت: «متى يأتي أبي يا عماه؟»
فلما سمع سؤالها انقبضت نفسه وقال: «قريبا إن شاء الله.» ولم يزد وكأنها شعرت برغبته عن التوسع في هذا الموضوع، فأمسكت ونظرت في الأرض وهي لا تستطيع التعبير عن شعورها؛ وهو شأن النساء في أحكامهن، فإنها مبنية على الإحساس بقطع النظر عن الحكم العقلي، فإن المرأة إذا سألتها عن عمل أنت عازم على الشروع فيه هل هي تتوسم فيه النجاح أو تخاف الفشل أجابتك عن رأيها، وإذا طالبتها بالدليل على صحته ذكرت أنها لا تستطيع ذلك ولكنها تشعر به شعورا قويا. ويغلب أن يصدق شعور المرأة كما يصدق عقل الرجل، على تفاوت في شعور النساء وعقول الرجال. فكما تتفاوت عقول الرجال من حيث قوة الاستنتاج واستنباط الأحكام وتمييز الصحيح من الفاسد، يتفاوت شعور النساء باختلاف ما فطرت عليه كل منهن من دقة الإحساس وسلامة الذوق. ولا يكون هذا الشعور مستقلا عن العقل، ولكنه يغلب في المرأة كما يغلب العقل في الرجل. والرجل إذا جرد من ذلك الشعور كان ضربة على الإنسانية؛ لأن الإنسان يعامل عملاءه بالعقل ويعاشر أصدقائه وأهله بالإحساس. ويتفاوت الإحساس في الناس؛ فمن قل إحساسه ساءت عشرته واستثقل الناس روحه وإن كان راجح العقل قوي الإرادة؛ ولذلك ترى بين جماعة من الأذكياء المجتهدين من يستثقلهم الناس ويتجنبون معاشرتهم، فيكون ذلك عثرة في سبيل نجاحهم؛ لأن الإنسان يحتاج في اكتساب ثقة الناس إلى شعور حي يجتذب قلوبهم بحسن العشرة ووضع الشيء موضعه.
وكانت زينب بنت المأمون - على صغر سنها - كبيرة العقل رقيقة الشعور، فما إن سمعت تلك الإجابة الجافة من عمها الأمين حتى شعرت بانقباض وامتنعت عن الخوض في ذلك الحديث. وكأنما أدرك هو ذلك فصفق يدعو غلامه، فلما جاءه قال له: «ادع لنا قيمة الجواري.» ولما جاءت هذه قال لها: «خذي ابنة أخينا إلى قصرنا، وأكرمي مثواها واحتفظي بالجارية ميمونة وعامليها معاملة جوارينا.» ثم التفت إلى زينب وقال لها: «أظنك تحتاجين إلى الراحة والطعام، ولن يكون إلا ما تريدين، فاطمئني.» وربت على كتفها ووقف، فوقفت ومضت مع القهرمانة إلى دار النساء.
فلما خلا الأمين إلى نفسه عاد إلى التفكير فيما سمعه عن الفضل وكتابه إلى بنت أخيه وفي شأن تلك الفتاة، وأحب أن يستقدمه ليسأله عن حقيقة الخبر، على أنه تذكر ما كان فيه من الأنس قبل مجيء زينب، فعاد إلى مجلسه. ولم يكد يستقر فيه حتى عاد إليه من كانوا فيه واستأنفوا الغناء والشرب والمنادمة، والغلمان والجواري في خدمتهم كما كانوا. •••
تركنا الفضل خارجا من مجلسه وهو يستعيذ بالله مما آل إليه أمر تسرعه في طلب ميمونة، وأخذ يهيئ الأعذار للدفاع عن نفسه، معتمدا على ما له من النفوذ والدالة لدى الأمين، ولبث ينتظر أن يدعوه إليه.
أما سعدون أو سلمان، فإنه مع أسفه لوقوع ميمونة في يد الأمين، سر لنجاحه في إغراء الفضل وابن ماهان بتوسيع الخرق بين الأمين وأخيه. وأصحاب المطامع السياسية لا يفهمون لغة القلوب ولا يبالون حركاتها، وإنما يهمهم الوصول إلى الغرض الذي يسعون إليه، فإذا اعترض طريقهم رأس أو قلب داسوه، على أن سلمان كان يعرف منزلة الفتاة عند بهزاد، وقد أوصاه هذا بها خيرا، فلم يسعه إلا أن يهتم لأمرها ويعمل على سلامتها.
وفي صباح اليوم التالي بعث الأمين إلى الفضل، فلما وافاه في داره الخاصة أجلسه إلى جانبه، ثم تلطف في الاستفهام عن أمر الفتاة. فقال الفضل: «لعل أمير المؤمنين أكبر إقدامي على طلب هذه الفتاة باسمه من بيت أخيه، ولكن لم أفعل ذلك إلا اضطرارا وإخلاصا في خدمة الدولة. هل عرف أمير المؤمنين من هي هذه الفتاة؟»
فقال: «لم أعرف إلا أنها غريبة وفدت على بيت أخي المأمون.»
قال: «لو أن مولاي تأملها لرأى صورة أبيها فيها. إنها بنت جعفر بن يحيى الذي قتله أمير المؤمنين الرشيد جزاء خيانته!»
فبغت الأمين ونظر إلى الفضل مشدوها وقال: «ابنة جعفر بن يحيى؟ أظنك واهما.»
قال: «كلا يا مولاي، ولو سألتها لاعترفت. وقد علمت بنزولها بيت مولانا المأمون صباح أمس، فكتبت إلى قهرمانة القصر أن ترسلها لأن أمير المؤمنين يريد أن يراها، فأجابت رسولي الشاكري جوابا شديدا. ولم يسعني غيرة على كرامة مولاي إلا أن شددت في طلبها، ولم أكن أحسب العلائق وطيدة إلى هذا الحد بين طرائد أمير المؤمنين وبين بيت أخيه؛ فالأجدر بأهل هذا البيت أن يكونوا عونا لنا على أمثال هؤلاء. نعم إنها فتاة لا خوف منها، ولكن ما ضر أن نستفهمها وهناك أسباب للظن، ولكن ...» وسكت كأنه يكتم شيئا يخشى إبداءه، فابتدره الأمين قائلا: «ولكن ماذا؟ قل.»
فقال: «إن أمير المؤمنين أدرى مني بما يحاك في الخفاء، ولا أحب أن أدخل بينه وبين أخيه، ولكنني لا أستطيع السكوت عما يمس الدولة وحقوق المسلمين؛ فما معنى أن تأوي إلى بيت مولانا المأمون بنت جعفر عدو الخلافة الذي قتل جزاء دسه وخيانته وإطماعه المأمون في ولاية العهد بعد أن كانت لأمير المؤمنين وحده، وهل لم يقنع المأمون بولاية العهد فامتد طمعه إلى الخلافة؟»
فلما سمع الأمين ذلك أجفل وحدق في الفضل تحديقا شديدا، ولو لم يكن الفضل قد تعوده لهاب منظره؛ لأنه كان شديد الهيبة قوي البدن يلقى الأسد ولا يبالي؛ فاستدرك الفضل قائلا: «لا أعني أن مولانا المأمون يطلب الخلافة لنفسه، ولكنني أخشى إذا طال حلم أمير المؤمنين عليه أن يغريه بعض خاصته بطلبها.»
فانصرف ذهن الأمين عن ميمونة إلى الخلافة وأخيه، وإنما جره الفضل إلى ذلك عمدا ليشغله عن لومه في طلبها باسمه، وليتدرج إلى إغرائه بخلع المأمون تأمينا لنفسه؛ لعلمه أن المأمون إذا أفضت الخلافة إليه فلن يبقي عليه ولا على أهله وربما نكل بهم، فلا نجاة له ولهم إلا بخلعه عن خراسان ليتفرق مريدوه عنه ويضعف أمره.
فقال الأمين: «إن هؤلاء الفرس أصل بلائنا؛ فإنهم ما زالوا من زمن أبي مسلم يناوئوننا ويمنون علينا بأنهم ساعدونا في نيل الخلافة مع أنهم لم ينالوا شيئا إلا باسمنا ، وهم الآن يغرون أخي بأن يستأثر بها دوني.»
فقال الفضل: «إذا كان أمير المؤمنين في شك مما أقول، فهذا رئيس المنجمين، فليسأله عن الرجل الخراساني الذي أشرت بالقبض عليه يوم وصولي، إن هذا الرجل رسول حزب الخراسانيين أنصار المأمون، وقد أرسلوه ليدس الدسائس ويوقظ الفتنة، وعلمت بأمره يوم كنت في طوس، فلما قدمت إلى بغداد أرسلت في طلبه فلم يجده العيارون في منزله، ثم لقيت الملفان سعدون رئيس المنجمين أمس، وتحدثت معه في ذلك، وكان صاحب الشرطة معنا، فعرف الملفان الرجل وقال: «إنه هرب من بغداد إلى أحزابه الطامعين في إرجاع الأمر إلى الفرس.» ولا ريب في أنهم يتخذون اسم مولانا المأمون وسيلة إلى تحقيق مطامعهم، فإذا بلغوا مأربهم فما أظنهم يستبقون أحدا ولا المأمون نفسه. لا تغضب يا مولاي إذا صرحت بما يجول بخاطري؛ فإن صالح الدولة يقتضي ذلك، وها هو ذا ابن ماهان صاحب الشرطة يؤيد قولي. والرأي لأمير المؤمنين.»
وكان الفضل يتكلم منفعلا متظاهرا بالغيرة على الدولة، والأمين يصغي له بكل جوارحه. وقد أهمه الأمر فأمسك عن التصريح برأيه حتى يشاور ابن ماهان، وعاد إلى الكلام عن ميمونة فقال: «سننظر في ذلك، وأما ميمونة التي ذكرت أنها ابنة جعفر البرمكي، فإنها في قصرنا بين جوارينا، ولا أرى أن نسيء إليها إلا إذا ظهر لنا ما يوجب ذلك، وقد ترفقت بها لأجل بنت أخي.»
فقال الفضل: «الرأي لأمير المؤمنين.» ولم يهمه أمر الفتاة مثلما أهمه خلع المأمون، وإن كان ابنه يؤثر ميمونة على كل الدولة لأنه شاب ربي في مهد الرخاء ولم يعان السياسة، وقضى ما مر من عمره متكلا على أبيه، وقد علق بميمونة وما كان يريد بها إلا خيرا، ولولا ما سبق من حبها بهزاد وحقدها على الفضل، لما كان ثمة ما يمنعها من قبوله.
ورأى الفضل أن الأمين يشير بفض الجلسة، فنهض وخرج وظل الأمين وحده يفكر حائرا فيما وعد به ابنة أخيه من إطلاق سراح ميمونة، ويرى في إطلاقها خطرا خوفه الفضل منه. ثم نهض وسار إلى دار النساء، وسأل عن مقر بنت أخيه فدلوه عليه.
وكانت ميمونة قد شعرت عند دخولها قصر الخلافة بانقباض شديد، وقام بذهنها أنها أضاعت آمالها، لعلمها بما ينويه حبيبها من الكيد للأمين، فلم تجف لها دمعة رغم ما حاولته دنانير من التخفيف عنها. وكانت زينب تزداد شفقة عليها ورغبة في إنقاذها، وقد بشرتها بما وعدها به عمها من إطلاق سراحها. فانقضت الليلة وميمونة يائسة لعلمها بأن الفضل لا يسكت عن كشف حقيقتها للأمين حتى ينجو من اللوم.
وفي صباح اليوم التالي جاءتها دنانير وزينب، وأدارتا الحديث معها للترفيه عنها، ولكنها ظلت منقبضة النفس لا يفرج كربتها غير البكاء، ولا سيما أن جدتها ليست معها، وأنها لا تعرف أين سلمان؛ فمكثت صامتة ودموعها تتساقط على خديها وقد ظهر عليها الذل والانكسار. وزاد هذا زينب انعطافا نحوها، وكانت واثقة من وعد عمها. وبينما هن في ذلك سمعن حركة وهرجا بين خدم القصر، ثم جاءت بعض الجواري تقول: «إن أمير المؤمنين قادم ليرى ابنة أخيه.»
فنهضت زينب للقائه بالباب، ووقفت دنانير وميمونة احتراما. ثم دخل الأمين وقعد على وسادة هناك، وأجلس زينب إلى جانبه وسألها: «أفي شوق أنت إلى قصرك يا زينب؟»
فقالت: «كما يشاء أمير المؤمنين.»
فاستحسن تأدبها على صغر سنها وقال: «لقد أمرت القهرمانة بإعداد هودج يحملك وحاضنتك إلى دجلة، ثم تركبان الحراقة إلى القصر.»
فنظرت إليه زينب نظر المدل الطامع وقالت: «وميمونة؟»
فقال وهو يضاحكها: «تبقى في ضيافتنا يوما أو يومين، ثم نبعث بها معززة مكرمة.» قالت: «ألست وعدتني بأن ترسلها معي؟»
قال: «بلى، ولكني رأيت أن تبقى عندنا ضيفة كما كانت عندك. وما أظنها ترفض الضيافة في قصر الخلافة.»
ورفعت زينب بصرها إلى دنانير كأنها تستغيث بها، فنظر الأمين إلى دنانير وقال: «قولي لمولاتك إن ميمونة ستبقى عندنا ضيفة مكرمة ثم نرسلها.»
فعلمت دنانير أنه مصر على استبقائها عنده، وأدركت سبب إبقائها لأنها تنسمت من أخبار القصر أنه اجتمع في الصباح بالفضل؛ فوقعت في حيرة وقالت: «إن أمير المؤمنين لا يرد أمره، وبقاء جاريته في قصره شرف لها.»
فلما تحققت ميمونة أنها باقية سكتت والدمع ينحدر على خديها، فوقع نظر الأمين عليها فرق لها وكاد يأمر بإطلاق سبيلها، ولكنه تذكر كلام الفضل فأمسك ونهض قائلا لزينب: «سيري في حراسة الله يا ابنة أخي.» ثم أوصى بها دنانير خيرا، والتفت إلى ميمونة وقال: «لا بأس عليك يا بنية.» وخرج فأمر قيمة الدار أن تعد ما يلزم لنقل زينب وحاضنتها إلى قصر المأمون. فأرادت زينب أن تتعلق بميمونة وتمتنع عن الذهاب، فأمسكتها دنانير وأفهمتها أن أمر الخليفة لا يرد ولا بأس على ميمونة. فلما خلت ميمونة إلى زينب ودنانير بعد خروج الأمين أطلقت لنفسها عنان البكاء حتى كاد يغمى عليها، فأخذت دنانير تهون عليها ووعدتها بأن تخبر سلمان بخبرها ليسعى في إنقاذها، كما وعدت بتوسيط سواه إذا اقتضى الأمر ذلك.
بين زبيدة وعبادة
عادت دنانير إلى قصر المأمون فرأت عبادة أم جعفر في انتظارها على المسناة، وكانت قد شاهدت ما أصاب حفيدتها من القسوة والإهانة حين أخذها إلى الأمين، وحدثتها نفسها بأن تصحبها إلى هناك لكنها خافت أن يكون ذهابها سببا لزيادة النقمة عليها؛ فامتثلت لمشورة دنانير عليها بالبقاء في القصر واعدة بإرجاع ميمونة معها، فقضت بقية ذلك اليوم وطول ليله ساهرة وقد أخذ القلق منها مأخذا عظيما وأصبحت في اليوم التالي فجلست على المسناة ترقب السفن النازلة حتى رأت حراقة عرفت من شكلها أنها من سفن الأمين. فلما وصلت ولم تر ميمونة فيها صاحت: «أين ميمونة؟»
فأخذت دنانير بيدها وقصت عليها الخبر، ومنتها بقرب رجوعها، فقالت: «لا، لن ترجع. إن الأمين إذا عرفها لا بد أن يوقع الأذى بها. ويلي! لماذا لم أذهب معها فيصيبني ما يصيبها؟ لقد أضعت تعبي في خدمتها!»
وجعلت تندب سوء حظها وتبكي بكاء الثكلى، فأخذت دنانير تهون عليها حتى سكن روعها، ففكرت فيما تستطيعه في سبيل إنقاذ حفيدتها، ووقعت يدها على حق الزمرد الذي تحمله، فخطر لها أن تستخدمه في هذا السبيل. وكان الناس يتحدثون منذ أيام بمجيء زبيدة أم جعفر والدة الأمين من الرقة ومعها خزائن الرشيد، فقالت في نفسها: «لعلي إذا سرت إليها واستعطفتها باسم زوجها أن أثير عاطفتها بما في هذا الحق من آثار الرشيد فتتوسط عند ابنها لإطلاق سراح حفيدتي.» ولما خطر لها ذلك شعرت براحة وطمأنينة، واستشارت دنانير في الأمر فاستحسنت رأيها وقالت: «لم يبق لنا باب نطرقه غير هذا، ولعل هذه المرأة إذا رأت آثار زوجها وسمعت ما أصابك من البلاء تنسى حقدها. سيري على بركة الله.»
فخرجت عبادة في ظهر ذلك اليوم تقصد إلى دار القرار قصر زبيدة، وكان الأمر صعبا عليها ولكنها استسهلت كل صعب في سبيل إنقاذ ميمونة.
وركبت من قصر المأمون حراقة أوصلتها إلى قرب دار القرار، فهبطت هناك ومشت بثوبها الأسود تتوكأ على عكازها وقد بدا الانكسار في محياها، والانكسار يبدو في الشيوخ مضاعفا.
وبلغت باب القصر عند الأصيل، فرأت عنده جماعة من الشاكرية وقوفا بأسلحتهم، فوقفت وحيتهم فلم ينتبه إليها أحد، فاقتربت من أحدهم وقالت: «لعل مولاتنا أم جعفر في القصر؟»
فأجابها بقوله: «ماذا تريدين منها؟»
قالت: «أريد أن أراها وأتبرك بلثم ثوبها.»
قال: «إنها لا تأذن لأحد الآن، وإذا كنت تلتمسين إحسانا فليس اليوم موعده.»
قالت: «كلا يا ولدي، لا أريد شيئا من ذلك ولكن لدي حديثا أريد أن أقصه عليها.»
قال: «وما هو حديثك يا خالة؟»
قالت: «إنه حديث خاص بها، فأدخلني عليها إذا شئت.»
فاستخف الرجل بقولها والتفت إلى رفقائه وكانوا وقوفا يسمعون ما دار بينهما، فتقدم شاكري آخر وقال لها: «أتريدين المثول بين يدي مولاتنا أم الخليفة نفسها؟»
قالت: «نعم أطلب الدخول على أم الخليفة السيدة زبيدة. وأرجو أن تستأذن لي في ذلك ولا تماطلني؛ فقد أتعبني طول الطريق ولا صبر لي على الوقوف!»
فقال: «أراك مسكينة وسأطلب لك إحسانا من قيمة القصر وأكفيك مئونة الدخول على مولاتنا أم جعفر؛ لأنها يندر أن ترى أحدا.»
فأثر كلامه في نفسها، وتذكرت سابق أيامها وكيف أصبح حالها لا يدل على غير الاستجداء، فقالت وهي تكاد تشرق بدموعها: «لست أطلب إحسانا يا بني، ولكن لدي أمرا يهم مولاتنا أم جعفر أريد عرضه عليها، فاستأذن لي ولك الفضل.»
فلما رأى الشاكري بكاءها رق لها ودخل للاستئذان، وظلت هي بالباب وقد تعبت فقعدت على حجر. وبعد هنيهة عاد الشاكري وهو يقول: «سألتني عن اسمك.»
فتحيرت بماذا تجيب وفكرت قليلا ثم قالت: «اسمي أم الرشيد.»
فأجفل الجميع وأخذوا يتفرسون فيها وهم لا يعرفونها، واستغربوا هذا الاسم فقال أحدهم: «اسمك أم الرشيد؟ وأي رشيد تعنين؟»
قالت: «ألم تسألني عن اسمي؟ قل لها إن أم الرشيد بالباب تلتمس الدخول.»
فعاد الشاكري ومكثت هي في انتظاره وقد سرها أن تتقدم إلى زبيدة بهذا الاسم فلعله يكون فألا حسنا. وما عتم الشاكري أن عاد وهو يقول: «تفضلي يا خالة، ادخلي.»
فدخلت في أثر الشاكري وهي تتوكأ على عكازها حتى تجاوزت الحديقة إلى باب القصر، ونزعت نعالها ودخلت في الدهليز فانتهت منه إلى غرف يستطرق بعضها إلى بعض، والجواري المقدودات يخطرن بين يديها وهن ينظرن إليها ويعجبن من حالها. أما هي فظلت تمشي مطرقة حتى وصلت إلى قاعة كبيرة فاحت منها رائحة الطيب، فلما أطلت على القاعة رأت سقفها قبة مصنوعة من خشب الصندل، مكسوة بالوشي والسمور وأنواع الحرير بألوانه الزاهية، ويتدلى على جدرانها ستائر مطرزة بأبيات من الشعر، معلقة بكلاليب من الذهب. وفي أرض الغرفة بساط واحد من السجاد الثمين عليه من الوسائد والكراسي ما يبهر النظر ولكنه لم يبهر عبادة؛ لأنها ألفت مثله في قصر ابنها أيام نعيمها وإقبال سعدها، وإنما كان همها اليوم أن تنال رضى زبيدة لتنقذ حفيدتها.
فلما وصلت إلى الباب رأت زبيدة في صدر القاعة متكئة على وسادة من الحرير الموشى فوق سرير من الآبنوس المرصع، فتركت عصاها خارجا وألقت التحية باحترام ونظرت إلى زبيدة ووقفت تنتظر أمرها بالدخول أو الجلوس. وكانت زبيدة مرتدية ثوبا سماوي اللون يأخذ بالأبصار، وقد تعصبت بعصابة مرصعة بشكل الطاوس من الحجارة الكريمة على غير عادتها، كأنها فعلت ذلك لتزيد في النكاية بعبادة المسكينة. فظلت هذه واقفة وزبيدة تلهو بجام من العاج فيه فتات المسك، وتساقط بعضه فأخذت في التقاطه فظنت عبادة أنها لم تنتبه إليها وسعلت، فرفعت زبيدة بصرها إليها شزرا وقالت: «من هذا؟»
فاستأنست بالسؤال ومشت نحوها وقالت: «أمتك عبادة.» ولما وصلت إلى وسط القاعة نظرت إليها زبيدة وقلبت شفتها السفلى ورفعت حاجبيها استخفافا وقالت: «عبادة؟ قيل لي إن أم الرشيد تطلب الدخول علي؟»
قالت: «هي نفسها جاريتك يا مولاتي. انظري إلى وجهي فعسى شحوبه لا ينسيك صاحبته.»
فضحكت زبيدة وقالت: «عرفتك يا عبادة! ألا تزالين على قيد الحياة؟»
فاستغلظت عبادة هذا السؤال لما فيه من الاحتقار، ولكنها كظمت وقالت: «نعم، لا أزال حية لسوء حظي.»
فقهقهت زبيدة وقالت: «ذلك جزاء العقوق يا عبادة، اجلسي.»
فجلست وهي ترتجف من الغيظ وندمت على مجيئها، ولكنها تذكرت ميمونة وأنها جاءت لإنقاذها فهان عليها الأمر وقالت: «لم أنكر جميلا يا مولاتي، ولكن لله الأمر، يفعل ما يشاء.»
قالت: «صدقت، لله الأمر، وهو يجزي كل نفس بما قدمت. أرأيت عاقبة سعيك وسعي زوجك وأولادك في نزع الخلافة منا؟ أرأيت عاقبة الغدر؟ أرأيت عاقبة الجرأة على مولاكم؟ أرأيت كيف رد الله كيدكم في نحركم؟ لقد كنت أحسبك قضيت كمدا من الثكل، فإذا أنت حية تسعين!»
وكانت عبادة تسمع كلام زبيدة مطرقة، فلما انتهت قالت لها: «إنما جئت الآن يا مولاتي مستعطفة، فإنك والدة وتعرفين انعطاف الوالدات، وقد صرت جدة وتعرفين انعطاف الجدات.»
فقطعت كلامها وقالت: «لشد ما أبطأ حنو الوالدة والجدة؟ أين كان ذلك الحنو لما أراد ابنك المقتول أن يخلع ابني من ولاية العهد ليجعلها لابن مراجل.» تعني المأمون.
فقالت وقد جاشت أحزانها في صدرها وكاد الكظم يخنقها: «قلت لك يا مولاتي إنما جئتك مستعطفة، ولا أستعطفك بحسنة أتيتها وإنما أتقدم إليك مستشفعة بصاحب هذه الآثار.» وأخرجت حق الزمرد ومفتاحه الذهب من جيبها، ونهضت ومدت يدها نحوها لتعطيها إياه. فتباطأت زبيدة في تناوله مبالغة في الازدراء، تاركة يد عبادة ممدودة كأنها سائل يستعطي. وأخيرا قالت لها زبيدة: «وما الذي يحويه من الآثار؟»
فأخذت عبادة تعالجه بالمفتاح ويداها ترتعشان من ضعف الشيخوخة وشدة التأثر، وتقدمت به إلى زبيدة، فإذا في الحق خصلة من شعر زوجها وبضع أسنان من أسنانه وقد فاحت منها رائحة المسك، فقالت: «ما هذا الشعر والأسنان؟»
قالت: «إنها شعر مولانا الرشيد وأسنان طفولته. ألم أكن ظئره؟ ألم أرضعه؟ ألم يكن يدعوني أم الرشيد؟ بهذه الآثار أتوسل إليك أن تسمعي شكواي وترحمي ضعفي، ليس من أجلي أنا، بل من أجل فتاة بريئة من كل ذنب، وكانت في عهد تلك الأحداث طفلة ناشئة في مهاد الرغد والرخاء، وهي الآن يتيمة طريدة لا ملجأ لها ولا نصير، وحياتها أو موتها بين شفتيك. بالله اعطفي عليها بكلمة تنقذها من الموت.» قالت ذلك وشرقت بدموعها وناهيك بعجوز تبكي وتستعطف.
فلما سمعت زبيدة كلامها ورأت ثنايا زوجها وشعره كاد الحنو يغلب على عواطفها، فسكتت هنيهة وعبادة تراقب حركاتها ولم تشك في أنها أصغت إلى ندائها.
على أن زبيدة أغلقت الحق وقالت لها: «ألم تتقدمي بهذه الآثار إلى الرشيد في حياته؟»
قالت: «بلى، فعلت.»
قالت: «ولماذا تقدمت بها إليه؟»
قالت: «تقدمت إليه بها ليعفو عن زوجي يحيى.»
قالت: «وماذا كان جوابه؟»
فحارت في الجواب ولكنها لم تر بدا من الصدق فقالت: «إنه ردني خائبة يا مولاتي.»
قالت: «وهل ينبغي أن أكون أنا أعرف منه لحقك يا عبادة؟»
قالت: «إني تقدمت إلى الرشيد أطلب حقا كنت أحسبه لي عليه، وأما الآن فإني أستعطفك وألتمس رحمتك ولا حق لي. أطلب إحسانك على فتاة لا شأن لها في أمرنا. أما أنا فإذا ظننت أني أذنبت إليك فهذا عنقي بين يديك ولا آسف على حياتي.»
فقالت: «وأي فتاة تعنين؟»
فاستبشرت بسؤالها وقالت: «أعني فتاة هي بقية ذلك القتيل السيئ الطالع، ساقها شقاؤها إلى الفرار مما أصاب أباها وأعمامها وجدها فبقيت على قيد الحياة وظللت أنا حية لأعولها وأتولى تربيتها، فقضينا السنين ونحن نتستر ونعيش عيش المتسولين وقبلنا حكم القضاء فينا، فساقت لنا الأقدار أناسا وشوا بنا إلى أمير المؤمنين وحملوا الفتاة المسكينة إلى قصره، فخفت أن يغروه بقتلها ولم أجد لي بابا أطلب الفرج منه سواك؛ فأتيتك بهذه الآثار لعلها تعطفك على تلك المسكينة، وعسى كلمة يكون لها فيها الحياة فيأمر أمير المؤمنين بإخراجها فأذهب بها وأقضي بقية الحياة معها في كوخ حقير أو أغادر هذه البلاد إلى حيث تأمرين. بالله ترفقي. أسألك برأس ابنك وبحنوك عليه إلا أصغيت لتذللي. وأنت تعلمين أني لم أستعطف أحدا في عمري حتى ولا الرشيد رحمه الله.» ولم تعد تستطيع إمساك نفسها عن البكاء.
وكانت عبادة تتوقع أن تسمع منها كلمة عطف فإذا هي تسألها: «وما اسم الفتاة؟»
قالت: «ميمونة يا مولاتي.»
فابتسمت وحول مبسمها هالة من الحقد والنقمة وقالت: «ميمونة؟! جئت تطلبين النجاة لميمونة؟ لماذا لم ينجها حبيبها الخراساني شاهر سيف النقمة على آل عباس؟ هذا الذي لو أتيح له أن يشرب دمنا لشربه!»
فلما سمعت قولها أرتج عليها ودهشت لاطلاعها على سر كانت تحسبه مكتوما عن كل إنسان، وقد فاتها تفشي الجاسوسية في ذلك العصر، وأن لكل إنسان جاسوسا على صاحبه، حتى الأب يتجسس على ابنه والابن يتجسس على أبيه. وكان لزبيدة عيون في بيت المأمون يأتونها بالأخبار عن كل حركة فيه، وقد علمت بخبر الخراساني بالأمس، وعزمت على أن تخبر ابنها به ولم تعلم أنه غادر بغداد ونجا من حبائلها.
أما عبادة فجمد الدم في عروقها ولم تحر جوابا؛ فظلت ساكتة ثم خافت أن يعد سكوتها موضعا للتهمة فأرادت التنصل منها على قدر الإمكان فقالت: «لم أفهم مرادك يا مولاتي. من هو ذلك الخراساني؟ وما شأننا والدسائس ونحن لا نكاد نملأ جوفنا طعاما؟ بالله اقبلي رجائي فقد صغرت نفسي وهانت علي، وكل ما أطلب منك إخراج هذه الفتاة من قصر أمير المؤمنين، ومهما تأمري بعد ذلك أفعل.»
فحولت زبيدة وجهها عنها ومدت يدها بالحق إليها وقالت: «كفى يا عبادة. خذي هذا الحق لعله ينفعك في غير هذا السبيل. وإذا كنت في حاجة إلى عطاء من مال أو طعام أعطيناك.»
فأيقنت عبادة ألا خير يرجى من زبيدة وأنها تريد أن تصرفها، فتناولت الحق وقالت: «كنت أقبل عطيتك يا سيدتي لو كان لي مطمع في الحياة، فأستغفر لذنبي على ما بدا من جسارتي، وأرجو أن يديم الله سعدك ويؤيد عرش ابنك.» قالت ذلك وتحولت تهم بالخروج وهي تتوقع أن يلين قلب زبيدة بما سمعته، فوصلت إلى باب القاعة ولم تسمع صوتها ولا رأتها تحركت من مكانها؛ فأكبرت أن تخرج من بين يديها ذليلة مغلوبة على أمرها؛ فعادت إليها أنفتها وتذكرت حالها على عهد ابنها وما أصابها من المصائب بسبب زبيدة، وما رأته من قساوة قلبها وشماتتها بذلها؛ فالتفتت إليها فإذا هي لا تزال جالسة على السرير وعيناها على الوسادة تتشاغل بالتقاط فتات المسك عنها وحول شفتيها ابتسامة تغني عن شرح عواطفها؛ إذ جمعت بين الاستخفاف وعز الانتصار وأنفة الكبراء وشماتة الحاقدين.
وكانت زبيدة تريد رجوع عبادة لأنها لم تشف كل غليلها منها، ولم تجبها ساعة الوداع رغبة في رجوعها، وقد لذ لها الحديث مع امرأة ساعدتها الأقدار عليها حتى سحقتها سحقا بعد أن قتلت ابنها وأذلت زوجها وسائر أهلها وشتتت شملهم واستباحت أموالهم وضياعهم وأصبح اسمهم فزعة يخافها المنتمون إليهم. وكان الرشيد قد نكب البرامكة برأي زبيدة وتحريضها، فلذ لها النصر، وليس ألذ لقلب الإنسان من النصر. ولو حللت أسباب السعادة تحليلا دقيقا لرأيتها ترجع إلى النصر أو ما في معناه؛ فالمنتصر في الحرب يتمتع بالنصر على أبسط معانيه، وناهيك بلذة القائد عندما يرى جيشه ظافرا وجيش عدوه مدحورا. وطلاب المال لا يجمعونه خوف الجوع؛ فإن الإنسان يشبعه ما لا يعجز أفقر الفقراء عن الحصول عليه، وإنما يجمع المال ليستعين به في تنفيذ أغراضه أو تقوية نفوذه في الدولة أو الهيئة الاجتماعية، وذلك هو النصر أو الفوز. وطلاب الشهرة على اختلاف وجوهها إنما يطلبونها التماسا لمثل هذه اللذة؛ فطالب الشهرة من طريق السياسة يشعر إذا مدحه الناس على عمل أعجبوا به أنه تغلب على آرائهم بقوة عقله، وأن إعجابهم به إنما هو إقرار بتقصيرهم عنه في ذلك السبيل؛ وطالبها من طريق العلم أو الشعر أو غيرهما من المهن القلمية يلذ له إعجاب الناس بنفثات يراعه أو بنات أفكاره مثل شعور القائد بانتصاره على أعدائه؛ فلا عجب إذا لذ لزبيدة انتصارها الكبير على البرامكة، وخاب رجاء عبادة وتذللها لديها لاستغراقها في تلك اللذة حتى نسيت عاطفة الشفقة أو تناستها، أو لعلها أبعدت تلك العاطفة عمدا.
فلما التفتت عبادة إليها ظلت هي مشتغلة بالتقاط المسك عن الوسادة وقلبها يخفق توقعا لما عساه يبدو من تلك الوالدة المقهورة المغلوبة على أمرها؛ فإذا هي تقول لها: «أأخرج من بين يديك ولم أنل جوابا منك غير الشماتة والاستخفاف، وقد تقدمت إليك بحرمة زوجك المدفون في طوس فاكتفيت بقولك إن الله إنما أوصلنا إلى هذه الحال جزاء ما جنته أيدينا؟ وقد سرني أنك تعرفين ذلك، وأن الله قادر على مثله في كل زمان ومكان.»
فنظرت زبيدة إليها فإذا هي قد تغيرت سحنتها من الاستعطاف والتذلل إلى الغضب والنفور، واحمرت عيناها وجف دمعهما وارتجفت شفتاها وارتعشت يداها ورجلاها حتى كادت تقع على الأرض لولا تجلدها. وكانت قد تناولت عكازتها فتوكأت عليها ولم تزد على ما قالته وأخذت تبحث عن نعلها لتلبسها وتخرج، فصاحت بها زبيدة: «عبادة!» فتغافلت وظلت سائرة في الدهليز، فصاحت بها ثانية: «عبادة يا أم الرشيد!»
فلما سمعتها تناديها بهذه الكنية استبشرت وتراجعت وكظمت ما في نفسها لعلها تستطيع أن تنفع ميمونة، فالتفتت وإحدى يديها على العكازة والأخرى على خصرها كأنه تتماسك من الضعف، فوقعت عيناها على عيني زبيدة وهي ترجو أن تقرأ شيئا جديدا يشف عن انعطاف أو حنو، فرأتها لا تزال تبتسم ابتسامتها المعهودة وقد زادها رهبة ما بدا من عينيها من دلائل الغضب، فظلت عبادة بضع لحظات تتفرس في عيني زبيدة وتقرأ الغضب فيهما، ولكنها غالطت نفسها رغبة في إنقاذ ميمونة، وإذا بزبيدة تقول بصوت مختنق : «أتدعين على ابني بالقتل؟»
قالت: «معاذ الله يا سيدتي! أطلب إليه تعالى ألا يريك مكروها فيه، بل أتوسل إليه أن يحفظ كل أبناء الناس لعل حفيدتي المسكينة أن تصيب طرفا من عنايته.» ثم تغير صوتها واختنق.
فقطعت زبيدة كلامها وقالت: «أكنت تطلبين ذلك من قبل؟»
فأدركت عبادة أنها تشير إلى أيام عزها قبل مقتل ابنها فقالت: «كنت أرجو ذلك ليبقى ابني، ولكنني لم أكن أقوله بحرارة قلب ولهفة كما أفعل الآن لأني لم أكن جربت الذل بعد. كنت مثلك يا مولاتي لا أعرف من الدنيا إلا نعيمها وراحتها، وكنت أحسب الدهر يدوم لي، فإذا هو قد أذاقني ما لم يسمع بمثله في الأرض.»
فأدركت زبيدة أنها تعرض بما تخافه عليها من النكبة، فكرهت أن تسمع شيئا يكدرها إذا هي أطالت الحديث معها، فوقفت وأخذت تتشاغل بإصلاح عقدها والعصابة التي حول رأسها كأنها تتأهب للخروج؛ فاكتفت عبادة بما قالته وتحولت وخرجت إلى قصر المأمون.
الفضل بن سهل
فلنترك أهل بغداد على ما هم عليه لنرى ما كان من أمر بهزاد بعد رحيله؛ فقد ذكر في كتابه إلى ميمونة أنه مسافر إلى خراسان، وأنه أوصى سلمان بما عليه أن يصنعه في أثناء غيابه. فغادر بغداد على فرسه وقد شد ذلك الصندوق إلى السرج، وسلك أقرب الطرق، وكان إذا بات في خان أو نزل به ادعى أنه طبيب معه صندوق العقاقير. وبعد أيام قطع في أثنائها جبالا وسهولا وأودية وأنهارا، أشرف على مدينة «مرو الشاهجان» عاصمة خراسان في ذلك العهد، وهي في منبسط من الأرض، حولها سور مربع الشكل، وفي وسطها قلعة ضخمة يقال لها في اصطلاحهم «القهندز»، تظهر للمطل على مرو من بعيد فيحسبها بلدا، وكانوا يغرسون على سطحها الأشجار والمباقل كأنها بستان على رأس جبل. ولم يكن ذلك المنظر ليثير بهزاد؛ فإنه نشأ في هذه المدينة وشب فيها، فدخل توا يلتمس منزل الفضل بن سهل.
وكان الفضل بن سهل من سرخس، وقد نشأ مجوسيا ودرس علم النجوم ثم أدخله يحيى البرمكي في خدمة الدولة في أيام الرشيد ولم يسلم إلا سنة 190ه على مذهب الشيعة. وإنما أسلم رغبة في نصرة الفرس بخراسان. وتعهده يحيى برعايته حتى صار من خاصته ثم جعله قهرمانا له. ثم توسم الفضل في المأمون نجابة وتعقلا فتوقع أن تصير الخلافة إليه فلزمه وخدمه وتقرب منه. وكان المأمون يجله ويقدمه؛ فأصبح الفضل لا يطمع في أقل من الوزارة.
ويحكى أن مؤدب المأمون قبل الخلافة لما رأى جميل رأيه في الفضل وإكرامه إياه نقل ذلك إلى الفضل وقال له: «لا أستبعد أن يحصل لك منه ألف ألف درهم.» فاغتاظ الفضل وقال: «والله ما صحبته لأكتسب منه مالا قل أو جل، ولكني صحبته ليمضي حكم خاتمي هذا في الشرق والغرب!»
وكان الرشيد لما بايع لولديه بولاية العهد جعل للأمين العراق والشام إلى آخر المغرب على أن يكون الخليفة بعده، وجعل للمأمون خراسان وسائر المشرق على أن يتولى الخلافة بعد أخيه الأمين. وكل ذلك بتدبير جعفر وغيره من أحزاب الشيعة، وفي جملتهم الفضل بن سهل. ولما أراد الرشيد سنة 192ه أن يسير إلى خراسان، أمر ابنه المأمون أن يبقى في بغداد حتى يعود. وكان الرشيد مريضا فخاف الفضل أن يموت الرشيد في الطريق فيذهب سعيه سدى؛ فجاء إلى المأمون وقال له: «لست تدري ما يحدث للرشيد، وخراسان ولايتك، ومحمد الأمين مقدم عليك، وليس مستبعدا أن يخلعك وهو ابن زبيدة وأخواله بنو هاشم، وزبيدة وأموالها كما تعلم؛ فاطلب إلى أمير المؤمنين أن تسير معه.» فطلب المأمون ذلك من أبيه فامتنع أولا ثم أجاب. فسار المأمون مع أبيه ومعهما الفضل، وكان اهتمام الفضل منصرفا أثناء الطريق إلى تأييد أمر المأمون، فأخذ له البيعة على كل من في عسكر الرشيد من القواد وغيرهم، وأقر له الرشيد بجميع ما معه من الأموال. ثم نزل المأمون «مرو» قصبة خراسان، واشتد المرض على الرشيد وهو في «طوس» والأمين في بغداد وله عيون مع الرشيد أشدهم غيرة عليه الفضل بن الربيع وزير الرشيد بعد البرامكة. فلما بلغ الأمين اشتداد المرض على أبيه بعث إلى ابن الربيع وغيره يحثهم على بيعته. فلما مات الرشيد هناك سنة 193ه، احتال ابن الربيع على من كان في ذلك العسكر وحرضهم على اللحاق بالأمين فأطاعوه رغبة في الرجوع إلى أهلهم في بغداد، وأغفلوا العهود التي أخذت عليهم للمأمون، وحملوا ما كان في عسكر الرشيد إلى الأمين وتمت له البيعة.
فلما بلغ المأمون موت أبيه ورجوع رجاله إلى أخيه بالأحمال والأموال وقد نكثوا عهده، خاف على نفسه فجمع خاصته بمرو وشاورهم في الأمر مظهرا لهم ضعفه وأنه لا يقوى على أخيه، فنشطوه ووعدوه خيرا. ولبث الفضل يترقب الفرص لنيل بغيته التي أسلم لأجلها. وكان من جملة مساعيه قبل موت الرشيد أنه أنفذ بهزاد طبيبا إلى بيت المأمون، ومعه سلمان خادما له وهو من رجال الخرمية أيضا. وكانت المراسلات السرية دائرة بين بهزاد والفضل، فلما مات الرشيد واستأثر الأمين بالخلافة وآن العمل في خراسان ركب بهزاد إليها ليكون مع الفضل.
وكان الفضل يوم وصول بهزاد إلى مرو جالسا في قصره مع أخيه الحسن، فجاءه الحاجب بأن بهزاد بالباب فأمر بإدخاله، فدخل وهو لا يزال بلباس السفر وفي يده الصندوق، فوضعه بالباب وسلم، فرحب به الفضل والحسن وأجلساه في صدر القاعة. وكان الفضل صفراوي المزاج رقيق البدن أصفر الوجه مع صحة ونشاط، وهو يومئذ في حدود الكهولة إذا نظرت إلى عينيه رأيتهما تنطقان بما في صدره من المطامع وما يضمره من المكايد وما يفكر في نصبه من الحبائل بهدوء ورباطة جأش. ولم يكن أخوه الحسن في مثل مزاجه ودهائه وكان أقرب إلى إظهار ما في نفسه وتجلي أغراضه في وجهه. فلما جلس بهزاد أخذ الفضل وأخوه يسألانه عما وراءه، فقص عليهما ما جرى؛ فأعجبا بشجاعته وغيرته، ثم سأله الفضل رأيه في حزب الخرمية ببغداد فأجابه بقوله: «إنهم على دعوتنا لا يدخرون في سبيلها مالا ولا نفسا.»
قال: «وكيف فارقت ذلك الغلام؟» يريد محمدا الأمين.
قال: «فارقته بين الكأس والطاس والجواري والغلمان.»
فقال الحسن: «إن دولته ذاهبة لا محالة، ولكن ...»
فقال بهزاد على الفور: «ولكن ذلك لا ينفعنا إلا إذا أذهبناها نحن.»
فضحك الفضل ضحك الظافر وقال: «وإنا لفاعلون إن شاء الله، إنما ينقصنا أن يستحكم الخلاف بين الأخوين حتى يستنصرنا هذا على ذاك فنشترط شرطنا.»
فقال بهزاد: «لا تلبثون أن تسمعوا بذلك قريبا بفضل صاحبنا سلمان. وإلا ذهب إسلامك عبثا!»
فشق هذا التصريح على الفضل؛ لأنه مع اشتهار ذلك عنه واشتراك بهزاد معه فيه، لم يكن يرضى أن يقال عنه إنه أسلم رغبة في الدنيا، أو لعله بعد أن أسلم احتيالا أصبح يرى الإسلام حقا. ولكنه سكت لأنه كان يريد أن يثبت قدم بهزاد في العمل معه لما أظهره من الكفاءة، ثم نظر إلى أخيه الحسن كأنه يكتم أمرا يتردد في التصريح به، ففهم غرضه وابتسم ونظر إلى بهزاد وبقي ساكتا، فابتدره الحسن بالكلام قائلا: «إننا نرى لك فضلا كبيرا في نصرة الفرس، وسيأتي يوم تنال فيه نصيبك من الفوز.»
فقطع الفضل كلامه قائلا: «بل يناله اليوم؛ فهل نجد أكفأ منه لبوران.» يعني بوران بنت الحسن بن سهل، وكانت بارعة الجمال يتحدث أهل خراسان بجمالها وتعقلها.
فلما سمع بهزاد اسمها أجفل؛ لأنه مقيد القلب، ولكنه لم يكن يستطيع رفضا. وكاد الاضطراب يظهر في وجهه ولكنه تجلد وحنى رأسه شاكرا وقال: «إنها نعمة لا أستحقها، ولم أعمل عملا يخولني هذا الإنعام، ونحن لا نزال في أوائل الطريق!»
فاستحسن الفضل عذره ولم يخطر له ببال أنه يتجنب الزواج ببوران وليس في كبراء خراسان واحد لا يتمنى رضاها وقال: «وتكون قد تدرجت في مناصب الدولة.»
فقال بهزاد: «اعذرني يا سيدي وأعفني من المناصب؛ فأنا أخدم أمتي من طريق آخر.» ثم تحفز للوقوف وقال: «وأستأذن الآن في الذهاب إلى منزلي.» قال ذلك ومشى إلى الباب وتناول الصندوق وهم بالخروج، فاستوقفه الفضل قائلا: «ما هذا الصندوق؟»
قال: «إنه صندوق العقاقير يا مولاي.»
وخرج من القصر فركب فرسه وأوغل في المدينة مخترقا أزقتها الضيقة حتى بلغ إلى بعض أطرافها وهو غارق في بحار التأمل، وقد ساءه ما ذكره الفضل عن بوران لعلمه بأن الفضل يعني تزويجه بها، وقد فاته أنه إنما قال ذلك ترغيبا له في مناهضة العباسيين، ولو علم الفضل حقيقة بهزاد لرآه أرغب أهل الفرس في مناهضتهم.
فهاجت أشجانه، وتذكر ميمونة وكيف تركها في بغداد والعداء لا يلبث أن يستحكم بين الأخوين وتنشب الحرب بين البلدين، ولكنه اطمأن لإقامتها بقصر المأمون. وأنسته هذه الهواجس طريقه فانتبه فإذا به قد جاوز المكان الذي يقصد إليه، فدار حتى أتى زقاقا انتهى منه إلى باب ترجل عنده، ووقف والصندوق بيده وقرع الباب قرعا خاصا ولبث واقفا، ففتح الباب وخرج منه عبد طويل جاوز مراحل الشباب، فلما وقع نظره على بهزاد ترامى على يديه وأخذ يقبلهما ويقول: «سيدي، سيدي، أنت جئت؟ لقد طال غيابك!» قال ذلك وأراد أن يأخذ الصندوق منه فأباه عليه ومشى، فأدخل العبد الفرس الإسطبل وأقفل الباب وسار بين يدي بهزاد مهرولا فرحا حتى وصلا في آخر الدهليز إلى فناء واسع، فتحولا من بعض جوانبه إلى غرفة في صدرها عجوز طاعنة في السن قد شاب شعرها وتضنى جبينها وطال حاجباها حتى غطيا عينيها وقد تزملت بمطرف وجلست الأربعاء، فلما أطل العبد عليها صاح: «مولاتي، جاء سيدي، جاء سيدي.»
فبغتت وصاحت: «جاء؟ أين هو؟» وكان بهزاد قد وصل إليها فجثا عند قدميها وقبل يدها، فرفعت بصرها إليه وعانقته وضمته إلى صدرها وأخذت تقبله وهي تبكي وتقول بصوت مختنق: «أهلا بولدي وحبيبي، أهلا بك. أنت جئت يا كيفر، لقد طال انتظاري يا بني وخفت أن أموت قبل أن أراك وأفي بنذري.» قالت ذلك وخنقتها العبرات.
أما هو فتجلد وقال: «ما الذي يبكيك يا سيدتي؟ فلنحمد الله على اللقاء.»
فتراجعت وأمسكت عن البكاء وقالت: «إني أحمد الله حمدا كثيرا يا بني على رجوعك سالما. من أين أنت آت الآن؟» قال: «من بغداد.»
قالت: «وهل وفقت إلى ما تريد؟» قال: «وفقت وجئت بما تطلبين.»
قالت وقد دهشت: «جئت برأسه؟» قال: «نعم يا سيدتي.»
قالت: «أين هو؟» فأشار إلى الصندوق وقال: «هنا.»
فمدت يدها لتتناول الصندوق وقد نشطت كأنها استعادت شبابها وقالت: «في هذا الصندوق؟ افتحه. أرني رأس مولاي. أرني إياه لأتمتع برؤيته قبل انقضاء أجلى!»
فاعتدل في مجلسه، والتفت إلى العبد فانصرف من الغرفة. فلما خلا إلى العجوز أخذ يعالج الصندوق حتى فتحه وأخرج جمجمة وضعها بين يديها وقد فاحت منها رائحة التراب المتعفن، فنظرت إلى الجمجمة بعينين محملقتين وصاحت: «هذا هو رأس أبي مسلم. هذا هو رأس أبي. إنك أحييته يا بني.» وأخذت تقبل الرأس وقد شرقت بدموعها.
أما هو فكاد يبكي معها ولكنه تجلد وقال: «وستفرحين يا سيدتي متى انتقمت له!»
قالت وقد ملكت أمرها رغم ما بدا من ارتعاش أناملها: «نعم، يجب أن تنتقم له، وأنا إنما دعوتك «كيفر» رغبة في ذلك. إن اسمك يا بني معناه الانتقام. إنك ستنتقم لهذا المقتول ظلما. وكيف عثرت عليه وقد بلغنا أنهم رموه في دجلة؟»
قال: «كنت أظن ذلك، ولكنني عرفت شيخا كان حاضرا مصرعه فدلني على مدفنه في المدائن وأعانني على إخراجه. هذا هو رأس أبي مسلم بلا ريب، تفرسي فيه جيدا.»
فأعادت النظر إلى الرأس وعيناها تغشاهما الدموع وقالت: «نعم، هو بعينه، يدلني على ذلك خفقان قلبي. وهل يخفى علي رأس أبي؟ نعم الرجل أنت يا كيفر! إنك ستنتقم له ... هل آن وقت الانتقام؟»
قال: «قد آن يا سيدتي. وآن أن تقصي علي خبر نسبي وتمنحيني الوديعة التي وعدتني بأن أستخدمها في الانتقام.»
قالت: «إنها حاضرة يا ولداه، تمهل قليلا. لا بد من أن أقص عليك خبرها أولا ... اجلس، ألا تتناول طعاما!»
قال: «كلا يا سيدتي.» •••
نهضت العجوز من مكانها منتصبة القامة كأنها في عنفوان الشباب وضغطت كتف بهزاد لتمنعه من النهوض معها، ثم مشت إلى خزانة في جانب الغرفة وأخرجت من جيبها مفتاحا عالجت الخزانة به حتى فتحتها وهو ينظر إليها بلهفة، فأخرجت لفافة مستطيلة من الخز ورجعت بها فوضعتها بين يدي بهزاد وقعدت وقالت: «أنت تعلم أني فاطمة بنت أبي مسلم الخراساني؟» قال: «نعم.»
قالت: «ويعتقد الناس وأنت منهم أنك ربيت في حجري. لا تعرف أبويك ولا يعرفهما أحد سواي.»
قال: «صدقت.»
قالت: «إن جماعة الخرمية يكرمونني لأني من دم أبي مسلم، ولكنهم لا يعلمون أنك أنت من دمه أيضا.»
فصاح قائلا: «أنا من دم أبي مسلم؟ وكيف ذلك؟»
قالت وهي تبتسم: «لأنك ابني.»
قال وقد أخذته الدهشة: «ابنك؟ أنا ابنك؟»
قالت: «نعم يا ولدي. إنك حشاشة كبدي.» وضمته إلى صدرها وقبلته.
فقبل يدها وقال: «وكيف؟»
قالت: «لأني تزوجت ولا يعلم الناس أني وضعت ولدا من أبيك فيزعمون أنك غلام فقير احتضنتك وربيتك.»
فاضطرب بهزاد والتبس عليه الأمر فقال: «وكيف إذن؟ كيف أنا ابنك؟»
قالت: «لا تعجب. إن أباك محرز بن إبراهيم توفاه الله وأنا فيما يقرب من سن اليأس وظننتني عاقرا، ولكنني لما توفي كنت حاملا بك، وعند الوضع أخفيت خبرك حينا ثم أظهرت أني احتضنتك وربيتك. ولما كبرت غرست حب جدك أبي مسلم في قلبك وسميتك «كيفر» أي الانتقام؛ لأن أولئك الظالمين حرقوا قلبي بقتل جدك غدرا تلك القتلة الشنعاء. وما زلت منذ تزوجت وأنا أعد نفسي بولد أكرس حياته للانتقام لأبي؛ إذ إنه لم يخلف ابنا ينتقم له، وطال انتظاري كما سمعت، ثم جئت أنت فنذرتك لهذا الغرض، وقد حفظت من أثر جدك خنجرا لم يخنه قط، وكان النصر مصباحا له طالما تقلده.» قالت ذلك وحلت اللفافة وأخرجت منها خنجرا استلته فلمع فرنده كالبرق، ودفعته إليه وقالت: «انتقم لأبي مسلم بهذا الخنجر.»
فتناول بهزاد الخنجر وقلبه بين يديه ثم قبله وأغمده وخبأه في جيبه وقال وهو يحسب نفسه في منام: «إني إذن حفيد أبي مسلم الخراساني. قد كنت أسعى للانتقام منه متأثرا بما ربيتني عليه، أما الآن فأنتقم له لأنه جدي!» ولما قال ذلك أبرقت عيناه وثارت الحمية في رأسه وتذكر ميمونة، كما تذكر رأسا آخر فمد يده إلى الصندوق وهو يقول: «وهنا رأس آخر نحن ناقمون على قاتله.» وأخرج يده وهو قابض على ذلك الرأس من شعرات في ناصيته يبس الدم عليها وقد جف جلد الوجه واسود والتصق بالعظم حتى يحسبه الناظر إليه عظما أسود.
فنظرت فاطمة إلى ذلك الرأس فلم تعرفه فقالت: «رأس من هذا؟»
قال: «تفرسي فيه. ألم تعرفيه؟»
فتفرست فيه وقالت: «لا، لم أعرفه.»
قال: «رأس جعفر القتيل الثاني.»
فصاحت: «رأس جعفر؟ جعفر بن يحيى؟»
قال: «نعم يا أماه، إنه رأس جعفر المقتول غدرا.» وحدثته نفسه أن يبوح لأمه بحبه لميمونة، ثم أطرق وهو يراجع في ذهنه ما سمعه من الغرائب في تلك الساعة.
قالت: «وكيف عثرت عليه يا بني؟»
قال: «ألم تعلمي أن الرشيد غدر به وقتله ولم يكتف بقتله، بل قطع بدنه قطعتين نصب كلا منهما على جسر من جسور بغداد ونصب الرأس على جسر ثالث. معرضة للحر والبرد والشمس والمطر سنتين حتى سافر الرشيد إلى الري، وعند رجوعه عزم على الإقامة بالرقة فمر ببغداد وأمر أن تنزل جثة جعفر وتحرق وكنت أثناء نصب الجثة قد وكلت إلى سلمان أن يسعى في الحصول على الرأس فلما أنزلوا الجثة احتال على الموكل بالإحراق وأخذ منه الرأس، فحفظته في هذا الصندوق حتى جمعت إليه رأس جدي.»
فأعجبت فاطمة بما أتاه ولدها، فقبلته وقالت: «ضع هذين الرأسين في الصندوق، وضع الخنجر معهما، حتى يأتي وقت تجريده فتتقلده وأنت فائز بإذن الله. ولكن اكتم ما ذكرته لك عن كل إنسان، وسيأتي يوم تتقلد فيه هذا الخنجر وتقتل به عدوك، تقتل به بعض أبناء قاتل جدك، ولكن احذر يا بني أن تظهر للملأ ما تعمله، فإذا دعيت إلى الحرب فلا تكن قائدا أو أميرا.»
فقال: «ذلك ما عزمت عليه؛ فإنه لا أرب لي إلا في الانتقام.»
فتنهدت وقالت: «هل أرى ذلك اليوم وأشفي غليلي؟»
قال: «أرجو أن تريه وتفرحي بي.»
قالت: «وستجتمع بالخرمية؛ فكن لديهم على ما يحبون؛ فهم يعدونك زعيمهم لأنك ربيبي، فابق معهم على هذه الحال لئلا يفسد عليك تدبيرك.»
وكانت الشمس قد مالت إلى المغيب وأعد الطعام فنهضا وأكلا. وبات بهزاد (أو كيفر) ليله وقد أحس بنشاط جديد كأن روح أبي مسلم دبت فيه ، وتذكر ما يعلمه عن حال الخلافة في بغداد وضعف أمرها، فتوقع أن تسنح الفرصة للانتقام عندما يخلع الأمين أخاه، وكان واثقا من ذلك وعالما بما دبره سلمان في هذا الشأن.
ونهض في اليوم التالي فسار إلى حيث اجتمع ببعض كبار الخرمية في خلوتهم السرية؛ فشجعهم وأبلغهم ما شاهده من استعداد أنصارهم في بغداد لنصرتهم بما يملكون، وتباحثوا في تدبير الأمور والتربص ريثما يأتي الوقت للانتقام. وكان ينتظر ما يأتيه من أخبار سلمان ببغداد.
قضى في ذلك أياما دون أن يجتمع بالفضل، ثم أصبح ذات يوم فإذا بهجان جاءه بكتاب خبأه في نعاله حذرا من أن يراه أحد، فتناول الكتاب وعلم من خاتمه أنه من سلمان، ففضه وقرأه فإذا فيه:
من سلمان خادم الخرمية إلى رئيسهم ومقدامهم بهزاد
أما بعد، فقد علمت ما نحن ساعون فيه وقد وفقت إلى ذلك بالأمس؛ فإن الفضل بن الربيع لما قدم من العراق بعد أن نكث بعهد المأمون، أصبح خائفا على نفسه منه إذا ولي الخلافة، وراح يعمل على تجنب هذا الخطر، وقد حثه رئيس المنجمين على إغراء الخليفة بخلع أخيه من ولاية العهد ليختص بها موسى بن الأمين، وشاور الأمين في ذلك ابن ماهان، وهو كثير الثقة بهذا الشيخ المغرور، فأشار عليه بالمبادرة إلى تنفيذه، فقبل مشورته، وجعله شيخ الدعوة ونائب الدولة، ولا يبعد أن يوليه قيادة الجيش، ولئن نشبت الحرب لتكونن قيادته شؤما على الخليفة، فابن ماهان مغرور لا ينفع. وقد علمت هذا الصباح أن الأمين كتب إلى عماله بالدعاء لابنه موسى بالإمارة، وأظنه يبعث إلى المأمون في خراسان يطلب إليه أن يخلع نفسه. فافعلوا ما ترونه، ونحن هنا في خير، والسلام.
فلما أتى على آخر الكتاب انشرح صدره وشعر أنه تقدم خطوة كبرى نحو الغرض المطلوب، وكان وقتئذ في منزل أمه، فأطلعها على الكتاب فاستبشرت وقالت: «قد دنا الوقت يا بني ولا أظن الفضل بن سهل يجهل ما يجب عليه في مثل هذه الحال، وإذا جهله فهل تجهله أنت أيضا؟»
قال: «أرشديني برأيك يا أماه.»
قالت: «إذا استفحل الأمر بين الأخوين فعلى الفرس أن ينصروا المأمون فينصرهم ويرعى حقهم، ولكنهم إذا أرادوا بعد ذلك أن يتخلصوا من المأمون، ليستأثروا بالسلطان لأنفسهم بلا خلافة، فلا شك في أن سعيهم يذهب عبثا؛ لأن العامة لا يحكمون إلا بالدين.»
قال: «ولكن معنا خليفة هو المأمون نحكم الناس به.»
قالت: «وهل يخلد المأمون؟ إنه إذا مات انتقل الأمر إلى بعض أهله، وقد يكون خليفته راضيا عنا وقد يكون ناقما علينا، كما كان الرشيد، فينتقم منا شر انتقام!»
فوقع قولها من نفسه موقعا عظيما، وأعجب بدهائها وتذكر ما دار بينه وبين كبار الخرمية ليلة الإيوان في المدائن وقال: «وما الرأي إذن؟»
قالت: «الرأي أن تهيئوا منذ الآن مستقبلا ثابتا لأعقابكم. فإذا لم يكن بد من وجود خليفة عربي، فالعلويون أقرب مودة لنا من سائر العرب؛ فاشترطوا على المأمون إذا نصرتموه أن يجعل الخلافة بعده لبعض العلويين (الشيعة) فيتم لكم ما تريدون. فاعرض هذا الرأي على الفضل بن سهل، وانظر ماذا يرى.»
فلما سمع نصيحتها هم بيدها فقبلها، واستأذنها في الذهاب إلى الفضل ليطلعه على كتاب سلمان ويباحثه في الأمر. ثم خرج وتوجه إلى القصر فبلغه عند الضحى، ودخل دون أن يعترضه الحاجب لعلمه بمنزلته عند مولاه، فمر في الحديقة وسار توا إلى مجلس الفضل وأخيه وكانا يقيمان معا بذلك القصر فرأى في طريقه قبة وسط الحديقة، يقف ببابها غلام، فأيقن أن الفضل جالس تحتها، واتجه إليها محاولا الدخول، فإذا بفتاة خارجة منها في غير كلفة؛ لأنه لا تعلم بوجود أحد غريب هناك، فوقف بهزاد ذاهلا ووقع نظرها عليه فأجفلت وبدت البغتة في محياها وتوردت وجنتاها خجلا، ووقفت لحظة كأنها صنم لا يتحرك، وارتبكت في أمرها لا تدري؛ أترجع إلى القبة وفي رجوعها ضعف؟ أو تقابل القادم وتحييه؟
وكانت بملابس البيت، وعلى رأسها نقاب خفيف إذا أسدلته على وجهها لم يغط إلا بعضه، فلما وقع نظر بهزاد عليها أعجب برونق جمالها وإشراق محياها وبريق عينيها بما يتجلى فيهما من الذكاء والحياء؛ فخجل لما سببه لها عفوا من الانزعاج، وابتدرها قائلا: «العفو يا مولاتي، أظنني أزعجتك؟ وإنني أريد مولانا الفضل وقد حسبته في هذه القبة على عادته.»
فقالت وهي تنظر إليه نظر السذاجة وصفاء النية: «إن عمي الفضل خرج مع أبي هذا الصباح للاجتماع بالمأمون، وليس في قدومك أي إزعاج، وإذا صدق ظني فأنت صديقهما بهزاد!» وسكتت كأنها تنتظر جوابه فابتدرها قائلا: «نعم يا سيدتي، يسمونني بهزاد.»
فقالت: «إن والدي وعمي معجبان بك، ولو كانا هنا لفرحا بقدومك. اجلس إذا شئت.»
فأعجب بهزاد بظرف الفتاة وذكائها على صغر سنها، وعلم أنها بوران بنت الحسن بن سهل، وتذكر تلميح عمها في شأنها فرأى أنها جديرة بأفضل الرجال، ولو لم يكن قلبه مشغولا لكانت نصيبا حسنا. فأجابها بقوله: «أشكرك يا سيدتي على تلطفك، وكنت أود البقاء هنا ولكني أراني مضطرا إلى الذهاب إلى مجلس المأمون أيضا.» قال ذلك وتحول يطلب قصر المأمون، وهو قصر الإمارة؛ لأن المأمون كان يومئذ أميرا على خراسان.
المأمون
كان المأمون في خراسان حينما مات أبوه الرشيد، فلما بلغه ما فعله الفضل بن الربيع من نقض بيعته والعودة بالأموال من طوس إلى بغداد، جمع أصحابه من الفرس في مرو - وكبيرهم يومئذ الفضل بن سهل - واستشارهم، فأشار أكثرهم عليه بأن يدرك ابن الربيع وأصحابه «بجريدة» فيردهم. ولكن الفضل بن سهل حذره من أن يترك خراسان وقال له: «إن فعلت ذلك جعلوك هدية لأخيك، والرأي أن تكتب إليهم كتابا وتوجه رسولا يذكرهم بالبيعة ويسألهم الوفاء.»
فعمل المأمون برأيه ولم يجد في ذلك نفعا أول الأمر؛ فقلق وخاف العاقبة، ولكن الفضل أخذ يطمئنه وقال له: «أنت نازل في أخوالك، وبيعتك في أعناقهم؛ فاصبر وأنا أضمن لك الخلافة.» وأشار عليه بأن يلزم التقوى؛ لأن العامة لا تحكم بشيء حكمها بالدين. وكان المأمون عاقلا حكيما لطيفا وديعا رقيق الجانب يحب العلم، وقد تفرغ له لما أقام بخراسان وفيها جماعة من العلماء، فكان يقضي نهاره في مجالستهم ومباحثتهم حتى اطلع على علوم القدماء ، ولا سيما الفلسفة. وكان ربعة في الرجال، أبيض جميلا، طويل اللحية خفيف الشعر، ضيق ما بين الحاجبين، في خده خال أسود، وفي عينيه ذكاء ولطف اشتهر بهما حتى ضرب به المثل، وقد تربى على مذهب الشيعة وأحبهم؛ لأنه شب في حجر البرامكة ثم الفضل بن سهل.
ولبث المأمون في خراسان ينتظر ما يكون من أخيه الأمين، حتى جاءه منه يوما وفد يكلفه أن يبايع لموسى بن الأمين ويقدم اسمه في الخطبة، ويدعوه إلى بغداد بحجة أنه قد استوحش لبعده؛ فارتاب المأمون وبعث إلى الفضل يستشيره في الأمر، فجاءه هذا إلى قصر الإمارة وخلا إليه في مجلس خاص لم يحضره إلا خواص الأمراء وفي مقدمتهم أخوه الحسن.
فقال المأمون: «جاءنا من أخينا وفد يطلبون إلي أن أقدم ابنه موسى علي ويدعونني أن أذهب إليه.» فقال الفضل: «أما تقديم ابنه ففيه نكث للبيعة، والله على الباغي. وأما خروجك من خراسان فإن عزمت عليه فأنت صاحب الأمر، ولكنك تفقد كل أمل في الدفاع عنك. وليس هذا قولي فقط، بل هو قول الخراسانيين جميعا. وهذا هشام كبير وجهاء خراسان فليسأله مولاي.»
وبعث المأمون إلى هشام، فلما جاءه واستشاره قال: «إنما بايعناك على ألا تخرج من خراسان؛ فإذا خرجت منها فلا بيعة لك في أعناقنا. ومتى هممت بالمسير تعلقت بك بيميني، فإذا قطعت تعلقت بيساري، فإذا قطعت تعلقت بلساني، فإذا ضربت عنقي كنت قد أديت ما علي!»
فلما سمع المأمون قوله تشجع، والتفت إلى الفضل فقال له: «ذلك ما يراه كل الخراسانيين وهم أخوالك.» ثم أشار عليه بإسقاط اسم الأمين من الخطبة والطراز، وقطع البريد عنه؛ ففعل وولاه الوزارة في حالي الحرب والسلم وسماه ذا الرياستين.
وفيما هم في مجلسهم دخل الغلام يستأذن لبهزاد الطبيب، فسأل المأمون عنه فقال الفضل: «هو طبيب قصركم في بغداد.» فتذكره وقال: «يدخل.»
فدخل بهزاد وحيا، فأشار إليه المأمون بالجلوس فجلس، ثم سأله المأمون: «كيف فارقت بغداد؟» فقال: «فارقتها وهي تندب أهل الصلاح، على أن أهل أمير المؤمنين والحمد لله في خير وعافية، ولكن ...» وسكت.
فقال المأمون «ولكن ماذا؟»
قال: «ولكن لا أعلم كيف يكون حالهم بعد أن استفحل أمر أصحاب المطامع حتى نكثوا البيعة، فإذا رأى أمير المؤمنين أن يستقدم أهله إليه فعل!»
فقال: «أصبت أيها الطبيب، إني فاعل ذلك إن شاء الله.»
وإنما أشار بهزاد بذلك على المأمون رغبة في استقدام ميمونة ونجاتها من أعدائها، ولم يكن سلمان قد أخبره بشيء مما أصابها في بيت الأمين.
وسأله المأمون: «وكيف فارقت أم حبيبة؟»
فقال: «فارقتها بعافية وشوق إلى أبيها.»
فابتسم المأمون عند ذكر ابنته لأنه كان يحبها كثيرا ويعجب بذكائها وتعقلها على صغر سنها، وتحقق أن بقاء أهل بيته في بغداد لا يخلو من الخطر فعزم على استقدامهم، فالتفت إلى الفضل الجالس بجانبه وقال: «كيف ترى الطالع اليوم؟ هل يستحسن أن نرسل فيه من يحمل إلينا أهلنا؟»
فأخرج الفضل من جيبه أسطرلابا صغيرا من الذهب كان لا يفارقه، وأطل من بعض نوافذ القصر ونظر فيه وعاد فقال: «لا بأس بالذهاب اليوم يا سيدي، ولكن الذهاب غدا أفضل.»
فعهد المأمون إلى خادمه نوفل في السفر إلى بغداد لاستقدام أهل بيته، ثم التفت إلى الفضل وسأله: «وبماذا نجيب وفد الأمين؟»
قال: «الرأي لأمير المؤمنين، وإذا أذن في إبداء رأيي فأرى أن ترد الوفد خائبا؛ فإنك بين أخوالك أمنع عليه منك في بغداد بين رجاله وكلهم يداجونه ويتملقونه، كما أرى أن تلاينه وتكتب إليه كتابا رقيقا لا تظهر فيه عزمك على مناوأته، بل تتلطف في استعطافه، فإن ذلك أقرب إلى الدهاء في السياسة!»
فاستحسن المأمون وكتب إلى أخيه الأمين كتابا قال فيه: «أما بعد، فقد وصل إلي كتاب أمير المؤمنين، وإنما أنا عامل من عماله، وعون من أعوانه، وقد أمرني الرشيد بلزوم الثغر، ولعمري إن مقامي به لأعود بالفائدة على سلطان أمير المؤمنين، وأعظم غناء للمسلمين. وإن يكن في شخوصي إلى بغداد ما يحقق أملي في قرب أمير المؤمنين والاغتباط بمشاهدة نعم الله عنده، فإن رأى أن يقرني على عملي ويعفيني من الشخوص فعل إن شاء الله.» ودفع الكتاب إلى رئيس الوفد.
ثم تحرك المأمون، فعلم أهل المجلس أن قد آن لهم أن ينصرفوا، فنهضوا وبهزاد أكثرهم رغبة في القيام ليبلغ الفضل رأي أمه في البيعة لأحد العلويين على أن يجعل ذلك شرطا من شروط نصرة المأمون.
فصبر بهزاد حتى رجع الفضل إلى منزله فتعقبه وطلب الخلوة به، فلما خلوا بدأ بهزاد في الثناء على ما أبداه الفضل من الرأي الصائب في المجلس، ثم مد يده ودفع إليه كتاب سلمان وقال: «اقرأ هذا الكتاب.»
فقرأه ولم يأت على آخره حتى غلب عليه الضحك وقال: «إذا صح ظن سلمان، وعهد الأمين بقيادة جنده إلى ابن ماهان، كان ذلك غاية توفيقنا، وهذا ما كنت أتمناه وأسعى إليه؛ لأن ابن ماهان - فضلا عن غروره وضعفه - تولى خراسان أيام الرشيد وأساء السيرة في أهلها وظلمهم؛ فعزله الرشيد لذلك ونفر أهل هذه البلاد منه وأبغضوه، فإذا حاربوه يحاربونه وهم ناقمون عليه. وهو يظن أهل خراسان يحبونه لأن بعضهم خدعه بكتب بعثوا بها إليه يعدونه إذا جاءهم بأن يستسلموا إليه. وهذا ما كنت أتمناه منذ بدأ الخلاف بين الأخوين.»
فقال بهزاد: «ماذا تعني بتوفيقنا يا مولاي؟»
قال: «أعني أن ننتصر على الأمين ونخلعه ونولي المأمون مكانه.»
قال: «وما نفعنا من ذلك، أليس كلاهما عباسيا عربيا، وكلاهما ابن الرشيد قاتل جعفر وحفيد المنصور قاتل أبي مسلم؟»
قال: «ولكن المأمون ابن أختنا وعلى مذهب الشيعة مثلنا، وهو صنيعتنا يعمل برأينا فيكون النفوذ لنا.»
قال: «هل تضمن بقاءه على ولائنا؟ وإذا ضمنت ذلك فهل تضمن أن يكون خليفته مثله إذا توفي، هل تأمن لبني العباس بعد ما ظهر من غدرهم بنا وبغيرنا غير مرة؟»
وكان الفضل يسمع مطرقا كأنه أفاق من رقاد، فلما بلغ إلى هنا رفع الفضل بصره إليه وقال: «صدقت يا بهزاد، وقد فهمت مرادك، إنك أصبت كبد الحقيقة، ولا بد أن نتدارك ذلك من اليوم.» وعاد إلى الإطراق وهو يحك عثنونه ثم قال: «إن الخلافة لا بد منها للسيادة، وهي لا تكون إلا في آل النبي من بني هاشم. وأقربهم مودة إلينا العلويون، وبين ظهرانينا منهم اليوم علي موسى الرضا من أعقاب الحسين بن علي بن أبي طالب، وهو عاقل حكيم، والمأمون يحبه ويقدمه، فأرى أن نشترط على المأمون من الآن أن يجعله ولي عهده فتنتقل الخلافة بعد موت المأمون من العباسيين إلى العلويين.» قال ذلك وأشرق وجهه فقال بهزاد: «إنه الرأي الصواب يا سيدي، ونهض للخروج فقال له الفضل: «إذا أتتك رسالة مثل هذه من سلمان فأطلعني عليها.»
ورجع بهزاد إلى منزل أمه وما زال قلقا على ميمونة. ولبث ينتظر وصول أهل المأمون بفارغ الصبر، لاعتقاده أنها ستكون معهم. •••
دخلت سنة 195ه وفيها جاهر الأمين بخلع أخيه، وأسقط نقودا كان قد ضربها المأمون بخراسان باسمه وليس عليها اسم الأمين، وأمر فدعي لابنه موسى على المنابر، ولقبه بالناطق بالحق، وقطع ذكر المأمون وبايع لابنه الآخر عبد الله، ولقبه بالقائم بالحق.
فاستشار المأمون الفضل في أمر التجنيد، فاغتنم الفضل الفرصة واشترط عليه مبايعة «علي الرضا» - زعيم الشيعة في خراسان بعده - فعظم ذلك على المأمون ولكنه لم ير بدا من أن يطاوعه؛ فوعده إن هو نجح في حربه وفاز على أخيه ونال الخلافة بأن يبايع لعلي الرضا بولاية العهد؛ فأخذ الفضل - ذو الرياستين - في التأهب للحرب والتجنيد، وأعد جندا بقيادة طاهر بن الحسين - ذي اليمينين - وأنفذه إلى «الري» لملاقاة جند الأمين إذا جاءوا قاصدين خراسان. وكان طاهر قائدا باسلا على صغر سنه إذا قيست بسن ابن ماهان.
أما بهزاد فقد كان يترقب رجوع أهل المأمون أو خبرا من سلمان. وعرض عليه الفضل أن يتولى قيادة الجند فأبى، ثم جاءه كتاب من سلمان قال فيه:
لقد صدق ظني ونجح سعيي وتقلد ابن ماهان رياسة الجند الخارج لقتالكم، وكتابي هذا إليك وهو يغادر بغداد وقد شيعه الأمين نفسه. وذكر مشايخ بغداد أنهم لم يروا عسكرا أكثر رجالا وأوفر كراعا وأتم عدة وسلاحا من عسكره، وهو يعتقد أن أهل خراسان يحبونه وقد أتته كتب يعدونه فيها بالطاعة إذا جاءهم. ولما علم أن طاهر بن الحسين ولي قيادة جند المأمون استخف به وقال: «إنما طاهر شوكة من أغصاني، وما مثل طاهر يتولى الجيوش.» ثم قال لأصحابه: «ما بينكم وبين أن ينقصف انقصاف الشجر من الريح العاصفة إلا أن يبلغه عبورنا عقبة همذان، فإن السخال لا تقوى على النطاح، والبغال لا صبر لها على لقاء الأسد، وإن أقام تعرض لحد السيف وأسنة الرماح. وإذا قاربنا الري ودنونا منهم فت ذلك في أعضادهم.» وقد أقطعه الأمين بعد أن ولاه إمرة الجند كور الجبل كلها، وولاه جزيتها وخراجها، وأعطاه الأموال وحكمه في الخزائن، وجهز معه خمسين ألف فارس. وكتب إلى أبي دلف العجلي وهلال الحضرمي بالانضمام إليه، وأمده بالأموال والرجال شيئا بعد شيء. وقد خرج ابن ماهان بحملته من هنا والناس يتوهمون أنه ظافر لا محالة لكبر سنه. ولما ذهب لوداع زبيدة أم الأمين على العادة المتبعة أوصته بأن يرفق بالمأمون إذا قبض عليه فقالت له: «إن أمير المؤمنين وإن كان ولدي، وإليه انتهت شفقتي، فإني على عبد الله المأمون لمتعطفة، مشفقة مما يحدث له من مكروه وأذى، وإنما ابني ملك نافسه أخوه في سلطانه الكريم فاضطر إلى أن يأكل لحمه، فاعرف لعبد الله حق ولادته وأخوته، ولا تجبهه بالكلام فإنك لست بنظيره، ولا تقتسره اقتسار العبيد، ولا توهنه بقيد ولا غل، ولا تمنع عنه جارية ولا خادما، ولا تعنف عليه في السير، ولا تساوه في المسير، ولا تركب قبله، وخذ بركابه، وإن شتمك فاحمل منه.» ثم دفعت إليه قيدا من فضة وقالت: «إن صار إليك فقيده بهذا القيد.» فوعدها بذلك، وأوصاه الأمين أيضا بمثل هذه الوصية. وقد علمت أن مولانا المأمون بعث في استقدام أهل بيته إليه ولا يلبثون أن يصلوا إليكم، وأنت تتوقع أن ترى ميمونة معهم فلا يشق عليك ألا تراها فإنها باقية هنا، ولم أخبرك بذلك من قبل حتى لا تقلق. وأما الآن فلا سبيل إلى كتمان ذلك عنك؛ لأنك ستعلمه من دنانير أو غيرها؛ فهي مقيمة ببيت الخليفة ولا خوف عليها؛ ولهذا قصة طويلة ستقصها عليك دنانير، فلا يزعجك ذلك ما دمت في منصبي حريصا على سلامتها، والسلام.
فلما قرأ بهزاد الكتاب، اسودت الدنيا في عينيه رغم ما حواه من الأخبار المبشرة بالنجاح؛ لما جاش في صدره من الغيرة على ميمونة، ونقم على سلمان كتمان أمرها عنه. ووقع في حيرة لا يدري أيخرج من «مرو الشاهجان» لملاقاة ابن ماهان في الري؟ أم يمكث حتى تأتي دنانير فيسمع منها خبر ميمونة، فغلب عليه هواه - والمحب مغلوب على أمره - ومكث ينتظر مجيء أهل المأمون ليطمئن على ميمونة قبل خروجه للقتال، وعلمت أمه بذهاب الجند إلى الري وعجبت لبقائه عندها فقالت له: «إن الخنجر في الصندوق، فمتى أنت ذاهب؟»
فخجل وتناول الصندوق وقال: «إني ذاهب الساعة وقد جئت لوداعك.»
فكشفت عن صدرها وولت وجهها شطر السماء وبسطت ذراعيها وقالت: «إن الله عونك على القوم الظالمين الذين قتلوا جدك غدرا وسلبونا حقنا وحرمونا ثمار تعبنا.» ونهضت وضمته إلى صدرها وقبلت عنقه، وطال عناقها له وأحس بدموعها تنحدر على عنقه فأثر فيه ذلك كثيرا وكاد يبكي معها، ولكنه تجلد وقال: «لماذا تبكين يا أماه؟»
فرفعت رأسها وقد تكسرت أهدابها من البكاء وبان الحزن والكآبة في وجهها وقالت: «أبكي يا ولدي لأني لا أدري أأراك ثانية أم لا؟»
قال: «أرجو أن أعود سالما ظافرا وأراك في صحة وعافية وتفرحي بما أصبناه من الانتقام لجدي.»
قال ذلك وقبل يديها، ثم تناول الصندوق فأخرج الخنجر منه فتقلده، ولبس ثياب السفر والتف بالعباءة فوق القباء والسراويل، وتلثم بالكوفية فوق القلنسوة، وجيء إليه بفرسه فركبه وأراد أن يأخذ الصندوق معه فأمسكت به أمه وقالت: «دع هذا الصندوق هنا وفيه رأسان عزيزان، فإما أن تشفعهما برأس أو أكثر من رءوس أعدائنا قتلة جدك، وإما أن يبقى الرأسان هنا فنستأنف البكاء حتى نموت.»
فأثر قولها في نفسه وقال: «بل أرجو ألا تستأنفوا البكاء يا أماه.» وترك الصندوق عندها، وحول شكيمة جواده ومضى. ولم يسر إلا قليلا حتى انتبه لنفسه ورأى أنه سيق إلى ذلك الرحيل خجلا من أمه بينما قلبه لا يطاوعه على ترك مرو قبل مشاهدة دنانير واستطلاع حال ميمونة، ونقم على سلمان لأنه لم يبسط خبرها في كتابه. وما زال سائرا في أسواق مرو والجواد دليله حتى خرج من المدينة، فلما صار خارجها أخذ يعلل نفسه بملاقاة أهل بيت المأمون قادمين بقافلتهم في طريقه.
وقضى في ذلك أياما، وكلما رأى قافلة أو جماعة أو فارسا ظن أهل بيت المأمون قادمين، حتى صار على بضع مراحل من مدينة الري حيث يقيم عسكر طاهر بن الحسين.
وأصبح ذات يوم فرأى قافلة عرف عن بعد أنها تحمل نساء من أهل البيوتات، لما فيها من الهوادج وأحمال الثياب والخيام، وما في خدمتها من الغلمان والعبيد، فدنا منها وسأل مقدمها فأخبره أنها تحمل بعض أهل المأمون. فطلب مشاهدة دنانير فأخذوه إليها. فلما رأته أمرت القوم بإناخة الأحمال قليلا فأناخوها، وقصت على بهزاد خبر ميمونة كما وقع منذ جاءها الشاكري إلى أن عادت هي وزينب من عند الأمين دونها. فقال «وماذا جرى لها بعد ذاك؟» فقالت: «لا بأس عليها في بيت الخليفة، فقد وعد مولاتي أم حبيبة بألا يمسها ضر، وسلمان خادمك حريص على راحتها.» فقال: «وهل تعلمين أين سلمان؟»
قالت: «لا أدري من أمر هذا الرجل شيئا؛ فهو يغيب أشهرا ثم يظهر بغتة، وقد رأيته قبل سفرنا وأوصاني بأن أطمئنك على ميمونة، ولعله كتب إليك فوصل كتابه قبلنا؛ لأن الكتاب يرسل على هجين ونحن نسير بالأحمال والأثقال.»
فقال: «وهل رأيتم جنود الأمين؟»
قالت: «رأيناها ورافقناها في معظم الطريق.»
قال: «وأين هي الآن؟»
قالت: «على عشرة فراسخ من الري، وبلغني أن قائدها ابن ماهان مغرور بقوته معتز بكثرة جنده، وإذا كان ما بلغني صحيحا كان طاهر في خطر.»
قال: «وما ذلك؟»
قالت: «بلغني أن جند ابن ماهان يزيد على خمسين ألف مقاتل، بينما لا يزيد جند طاهر على أربعة آلاف.»
فأطرق بهزاد ثم قال: «ليست الغلبة للكثرة وإنما هي للشجاعة والصبر.»
قالت: «مع أن الغلبة للشجاعة، ولكن كيف يقف أربعة آلاف في وجه خمسين ألفا؟ وعلمت أيضا أن طاهرا خرج بجنده القليل من مدينة الري وعسكر على خمسة فراسخ منها، ولو بقي في المدينة لكان له في حصونها ما يعصمه من الهزيمة.»
قال: «قد أحسن ابن الحسين؛ لأنه يخاف أهل الري إذا انهزم مثل خوفه جنود الأمين، وإذا أحسن الرأي بادر إلى الحرب قبل أن تعرف قلة جنده.»
فقالت: «يلوح لي أنه عازم على ذلك، وكنت أحسب عمله خطأ فلم أصدق الخبر؛ وذلك أن بعض أصحابه قال له: «إن جندك القليل قد هابوا هذا الجيش الكثير، فلو أخرت القتال إلى أن يعجم أصحابك عودهم، ويعرفوا وجه المأخذ من قتالهم.» فقال: «إني لا أوتى من قلة تجربة وحزم. إن أصحابي قليل والقوم عظيم سوادهم كثير عددهم، فإن أخرت القتال اطلعوا على قلتنا واستمالوا من معي برغبة ورهبة فيخذلني أهل الصبر والحفاظ، ولكني ألف الرجال بالرجال وأقحم الخيل على الخيل وأعتمد على الطاعة والوفاء وأصبر صبر محتسب للخير حريص على الفوز بالشهادة، فإن نصرنا الله فذلك الذي نريده ونرجوه، وإن تكن الأخرى فلست بأول من قاتل وقتل، وما عند الله أجزل وأفضل ...»
فأعجب بهزاد ببسالة طاهر وحزمه وأحب أن ينهي الحديث فقال: «كنت أود لولا العجلة أن أرى أم حبيبة فأهديها سلامي.» وودعها ومضى.
ساحة الحرب
سار بهزاد على فرسه وقد التف بالعباءة وتلثم بالكوفية وتقلد الخنجر تحت العباءة بجانب السيف، ومر بالري في الضحى فعلم من أحاديث القوم أن طاهرا ينوي المبادرة إلى القتال قبل أن يطلع عدوه على قلة رجاله. وما لبث أن سمع قرع الطبول للحرب وقد علت الضوضاء وتصاعد الغبار، فصعد إلى أكمة أشرف منها على سهل، فرأى الجيشان يتأهبان للقتال والفرق بينهما كبير، فأوجس خيفة على جند طاهر، وصمم على ألا يبرح المكان حتى يرى النصر لجند المأمون ولو كلفه ذلك حياته.
وكان ابن ماهان قد عبأ جنده ميمنة وميسرة وقلبا، وعبأ عشر رايات مع كل راية مائة رجل، وقدمها راية راية، وجعل بين كل رايتين غلوة سهم، وأمر أمراءها إذا قاتلت الراية الأولى وطال قتالها أن يتقدموا برايتهم ليحلوا محلها حتى تستريح. ثم وقف بنفسه يشرف على القتال.
أما طاهر فإنه عبأ أصحابه كراديس، كل كردوس كتيبة بصفوفها، وجعل كردوسه في الوسط، ومشى بجنده على هذا النظام وهو يحرضهم على الثبات والصبر. ولحظ بهزاد أن جماعة من رجال طاهر فروا إلى ابن ماهان فشق ذلك عليه، ولكنه ما لبث أن علم أن ابن ماهان - بدلا من أن يكرم أولئك الفارين ليرغب غيرهم في المسير إليه - أمر بجلدهم وإهانتهم وتعذيبهم مما أغضب الباقين عليه. وظل بهزاد واقفا وعيناه شائعتان وقلبه يخفق رغبة في الاشتراك في تلك المعركة ولكنه لبث يترقب الفرصة السانحة.
وبينا هو هكذا إذا بطاهر بن الحسين قد خرج من جنده على فرسه حتى أشرف على جند ابن ماهان وبيده رمح أشرعه، وفي رأس الرمح رق علم أنه صورة بيعة المأمون. فوقف طاهر بين الصفين وطلب الأمان من ابن ماهان حتى يتكلم، فلما أمنه رفع الرمح بيده والبيعة معلقة به وقال: «ألا تتقي الله عز وجل؟ إن هذه البيعة قد أخذتها أنت بنفسك؛ فاتق الله فقد بلغت باب قبرك.»
فغضب ابن ماهان لهذه الإهانة وأمر بالقبض على طاهر فلم يستطع أحد ذلك. ولم يسمع بهزاد شيئا من كلام طاهر لبعده عنه ولكنه فهم فحواه. وما عتم أن رأى الجيشين يتحركان للالتحام، فهجمت ميمنة ابن ماهان على ميسرة طاهر فانهزمت هذه هزيمة منكرة، وفعلت ميسرة ابن ماهان مثل هذا في ميمنة طاهر فأزالوها عن مكانها؛ فخاف بهزاد وتحركت حميته وأوشك أن يسوق جواده إلى وسط المعركة لينصر طاهرا، ولكنه تجلد ليرى له مدخلا نافعا. وما فتئ يستجمع الهاربين ويردهم ويحرضهم على القتال وهو يجول على جواده ملثما ويخاطب الفارين بالفارسية يعيرهم بالفرار ويحقر ابن ماهان ورجاله في أعينهم، فكان لكلامه وقع شديد على نفوسهم فأخذوا يرتدون إلى صفوفهم.
وكان طاهر من الجهة الأخرى يحرضهم على الثبات والصبر، فاجتمعت قلوبهم وحملوا على عدوهم حملة شديدة في القلب فهزموهم، وأكثروا فيهم القتل، ورجعت الرايات بعضها إلى بعض فانتقضت ميمنة ابن ماهان، وكانت ميمنة طاهر وميسرته قد عادتا إلى المعركة فتشدد قلب طاهر وقوي جنده كأن بهزاد بث فيهم روحا جديدة، فتقهقر جند ابن ماهان بغير انتظام.
فلما رأى ابن ماهان تقهقر جنده أخذه الرعب وخاف الفشل فنهض بنفسه، وأقبل يحرض رجاله على الثبات ويعدهم بالمال ويقبح عمل طاهر ورجاله؛ فرأى بهزاد الفرصة قد آنت للعمل، وأن هذا الانكسار لا يكون قاضيا إلا إذا قتل القائد الكبير، فكر بنفسه كالصاعقة ويده على خنجره لا يبالي بما يتساقط حوله من النبال أو يتكسر من الحراب، حتى دنا من ابن ماهان وصاح فيه: «قف أيها القائد ولا تقل إني أخذتك غدرا.»
فتحول ابن ماهان إلى بهزاد ولم يعرفه من تحت اللثام، لكنه استل سيفه وضربه فخلا بهزاد من الضربة، واستل خنجره كالبرق الخاطف وطعنه في صدره فخر قتيلا، ورجع بهزاد من المعركة وقد اكتفى بما فعله ولم يعد يراه أحد. وشاع في المعسكر أن ابن ماهان قتله أحد رجال طاهر بسهم، ثم احتز بعضهم رأسه وحمله إلى طاهر، وشدت يداه إلى رجليه كما يفعلون بالدواب، وحمل على خشبة إلى طاهر، فأمر به فألقي في بئر، وأعتق طاهر من كان عنده من غلمانه شكرا لله تعالى. وتمت الهزيمة على جند الأمين ووضع أصحاب طاهر فيهم السيوف وتبعوهم فرسخين واقعوهم فيها اثنتي عشرة مرة انهزم فيها عسكر الأمين، وأصحاب طاهر يقتلون ويأسرون حتى حال الليل بينهم وغنموا غنيمة عظيمة. ونادى طاهر: «من ألقى سلاحه فهو آمن.» فطرحوا أسلحتهم ونزلوا عن دوابهم ورجع طاهر إلى الري وكتب إلى المأمون وذي الرياستين: «بسم الله الرحمن الرحيم، كتابي إلى أمير المؤمنين ورأس علي بن عيسى بن ماهان بين يدي وخاتمه في أصبعي وجنده مصرفون تحت أمري، والسلام.» فورد الكتاب مع البريد في ثلاثة أيام وبينهما نحو من خمسين ومائتي فرسخ. فدخل الفضل على المأمون فهنأه بالفتح، وأمر الناس فدخلوا وسلموا عليه بالخلافة، ثم وصل الرأس بعد الكتاب بيومين فطيف به في خراسان.
خلع المأمون
تركنا ميمونة في بيت الأمين ببغداد كأنها على الجمر لفرط حزنها ويأسها، ولا سيما أنها لم تر سلمان ولا عرفت مقره حتى ظنته مات أو لحق بحبيبها بهزاد، وكذلك اشتد شوقها إلى جدتها واستوحشت لبعدها وجهلها مكانها. فكانت تقضي نهارها وحيدة تتظاهر بانحراف صحتها أو دوار في رأسها، فإذا خلت إلى نفسها أخرجت كتاب حبيبها وقبلته وكررت قراءته استئناسا بصاحبه. وكلما كررت ما قاله من عبارات النقمة على العباسيين وتهديده بالانتقام يختلج قلبها في صدرها حذرا من وقوع ذلك الكتاب في يد بعض أعدائها، ولكنها كانت حريصة على إخفائه لا تثق بأحد ممن حولها من الجواري أو الوصائف، ما عدا فريدة قهرمانة القصر؛ لأنها من صديقات دنانير المعجبات بتعقلها وحكمتها، وقد أوصتها هذه بها خيرا. على أنها مع ارتياحها لها كانت تخافها أيضا على سرها؛ وذلك لعلمها بتفشي الجاسوسية، فلم تطلعها على شيء من أمر الكتاب أو أمر بهزاد الذي انقطعت أخباره عنها كما انقطعت أخبار سلمان، ولم تكن تعلم أنه في القصر على قاب قوسين منها ولكنه متنكر، لا يعرف أحد ممن في القصر عنه شيئا إلا أنه الملفان سعدون رئيس المنجمين!
قضت في ذلك أياما لا تدري ما يصير إليه أمرها، ولا تبالي ما تراه من اشتغال جواري القصر ونسائه باللهو والضحك، أو سماع الغناء أو الضرب بالآلات، أو غير ذلك، فإذا رأتهم في مجلس أنس انفردت في غرفتها وأخرجت كتاب بهزاد وأخذت تقرؤه، فإذا سمعت وقع خطوات أو صوت متكلم أخفت الكتاب في جيبها. واتفق مرة أنها أحست بالوحشة وأرادت الاستئناس بذلك الكتاب فأرادت أن تخرجه من جيبها فلم تجده، فأحست كأن قلبها سقط من مكانه، وأعادت البحث جيدا فلم تقف له على أثر، فخافت خوفا شديدا وزادت وحشتها من الانفراد هناك. وأحست بافتقارها إلى رفيق يؤنسها فلم تجد خيرا من أن تدعو جدتها إليها، فكتبت إلى دنانير بطاقة شكت فيها استيحاشها وسألتها عن جدتها ثم عهدت إلى القهرمانة في توصيل البطاقة إلى دنانير في قصر المأمون، وكانت فريدة تتمنى القيام لدنانير بمثل هذه الخدمة، فأسرعت في إرسال البطاقة إليها في الخفاء.
فلما وصلت البطاقة إلى دنانير، سارعت إلى أم جعفر وأطلعتها عليها فقالت هذه لها: «أرسليني إليها ودعيني أمت عندها؛ فقد كنت أظنهم سيطلقون سراحها بعد أيام فإذا هي باقية إلى أجل غير مسمى.»
فقالت دنانير: «هل تذهبين إليها متنكرة؟»
قالت: «أخاف إذا عرفوني أن يزيدوا في التضييق على ميمونة.»
فقالت: «أرسلك إلى صديقتي فريدة على أنك مربية ميمونة، وأوصيها بأن تقيمك معها، ولا أظنها إلا فاعلة.»
فأثنت عبادة على غيرتها ولبست ثيابها وودعتها، وركبت حمارا توجهت به إلى مدينة المنصور، ومعها رسول من دنانير إلى القهرمانة، فلما وصلا إلى قصر المنصور بعث الرسول بكتاب دنانير إلى القهرمانة، فأدخلت عبادة القصر، ولم تخف عليها حقيقة حالها، كما أنها لم تكن تجهل أمر ميمونة، لكنها تجاهلت في الحالين رغبة في إخفاء ذلك عن أهل القصر؛ لأنها كانت من جملة الذين غمرتهم نعم البرامكة وأجبروا على كتمان شكرهم، ولا تسل عن سرور ميمونة بجدتها حتى أصبحت لا يهمها أن يطول احتباسها هناك. ولم تجد بدا من إطلاعها على ما دار بينها وبين بهزاد وما تبادلاه من عواطف المحبة حتى بلغت إلى الكتاب فأخبرتها بضياعه. ولم تكن عبادة غافلة عما بين الحبيبين ولكنها كانت تتجاهل أحيانا، وقد ساءها ضياع الكتاب في القصر، وأصبحت تخاف العقبى.
أما سلمان فكان أثناء ذلك يغري الأمين بخلع أخيه، وكان يستعين على ذلك بالفضل بن الربيع وابن ماهان، وظل الفضل يلح على الأمين في ذلك مدفوعا بخوفه من انتقام المأمون منه إذا أفضت الخلافة إليه. وكان الأمين يتردد في الأمر إن لم يكن خوفا من العواقب فحفظا للعهد أو عملا برابطة الإخاء. فلما كثر إلحاح الفضل عليه زايله التردد وبقي عليه أن يشاور أمه زبيدة؛ لأنه كان يؤمن بسداد رأيها، وكانت تقيم يومئذ بقصرها «دار القرار» بقرب قصر الخلد، فتردد بين أن يركب إليها وبين أن يستقدمها إليه في قصر المنصور، وظل يفكر في ذلك حينا ثم غلب عليه حب اللهو فشغل بصيد السمك من بركة كبيرة في حديقة القصر فيها سمك مجلوب إليها فحمل قصبه وجعل يصطاد السمك من تلك البركة وحوله جماعات من الوصفاء الخصيان بألبسة النساء، يجرون بين يديه في تهيئة الصنارة أو تنفير السمك من بعض أطراف البركة إلى حيث يلقي صنارته، وبعضهم يحملون شباكا وآخرون يعدون القصب أو الصنانير أو غير ذلك. وهو مشتغل بلهوه معجب بنشاطه يداعب الوصفاء إظهارا لقوة عضله، فيلتقط أحدهم بيده ويرفعه حتى يلقيه في الماء، فيطري الحاضرون قوته الخارقة ويعربون عن عجزهم عن الإتيان بمثل ذلك. وكان الأمين فيما يقال قوي العضل بحيث يصارع الأسد فيصرعه.
وفيما هو في لهوه جاء بعض الغلمان يقول: «إن موكب مولاتنا أم أمير المؤمنين قادم.»
فسر بقدومها لرغبته في استشارتها، فأمر قيم القصر بالاستعداد لاستقبالها، وأمر قيمة القصر بترتيب الوصائف والوصفاء صفوفا وفي جملتهم فرقة من الجواري المقدودات الحسان كانت أمه زبيدة قد أهدتهن إليه لما رأت اشتغاله بالخدم والغلمان عن النساء، فاتخذت هؤلاء الجواري وألبستهن لباس الغلمان فعممت رءوسهن وجعلت لهن الطرر والأصداغ والأقفية، وألبستهن القراطق والمناطق فبانت قدودهن وبرزت أردافهن، وبعثت بهن إليه فاستحسنهن واجتذبن قلبه وأبرزهن للناس من الخاصة والعامة، فقلده بعضهم في ذلك. فلما سمع بقدوم أمه رأى أن يسرها بإشراك هؤلاء الجواري في استقبالها فأمر القيم بترتيب الغلمان صفوفا يرأسها كوثر الذي اشتهر بافتتانه به، فصفت فرق الخصيان والجواري، وفرق الغلمان الجرادية، والحبشان الغرابية، وكل فرقة في زي خاص وأشكال وألوان خاصة؛ فهناك القصير من الملابس والطويل، وهناك الأحمر والأزرق والسماوي والوردي والأصفر. وفيهم الغلمان بألبسة النساء، والنساء بألبسة الغلمان، يتخللهم العوادون وأصحاب الطنابير والمزاهر.
واصطفوا هكذا من باب القاعة إلى باب القصر الخارجي، وبين الصفوف غلمان بعضهم يحرق البخور وبعضهم يحملون الأزهار وآخرون ينشدون الأشعار، ومشى الأمين بين الصفين لاستقبال أمه بباب القصر ، وكانت في قبة من خشب الصندل منزلة بالفضة، والقبة قائمة على هودج يحمله بغلان عليهما سرجان من الفضة، يقودهما غلمان عليهم أقبية من الديباج المزركش، وقد نقشت عليها شارة الدولة لأنهم من الجند، وفاحت رائحة المسك عن بعد.
فلما وقف الهودج بباب القصر تنحى الواقفون إلا كبير الخصيان فأعان السيدة زبيدة على نزولها، ثم تقدم الأمين وقبل صدرها فقبلت رأسه، ومشت بخفين مرصعين بالجوهر وعلى رأسها نقاب محاك بالذهب في حاشيته صور مرصعة بالحجارة الكريمة، ويلوح من خلال النقاب عصابتها المرصعة وعقود الجوهر في عنقها والقراطق في أذنيها، وعلى كتفها مطرف ذهبي اللون التفت به فغطى منكبيها وجنبيها، وظهر تحته ثوبها الحريري الوردي يغطي قدميها من الخلف ولا يغطيهما من الأمام لتظهر خفافها المرصعة. وهي أول من رصع الخفاف بعد الإسلام. على أن من يلقى زبيدة لا يشغله لباسها الفاخر الثمين عما في محياها من الجمال الجاذب، وما يتجلى فوق ذلك من ملامح السيادة ودلائل الأبهة والجلال.
ولم تطأ قدماها باب القصر حتى انتشر خبر قدومها، فبلغ عبادة فارتعدت فرائصها، وخفق قلبها، وأحبت الانزواء لئلا يظهر ذلك عليها. أما ميمونة فكانت كثيرة الشوق لمشاهدة موكب أم الخليفة، وقد طالما سمعت عنها وعن عظمتها فأطلت من كوى القصر الخفية فأعجبت بجمال زبيدة وجلالها. •••
ظل الأمين وأمه سائرين إلى قاعة خاصة عملا بإشارتها؛ لأنها كانت تريد أن تسر إليه أمرا. وقبل جلوسها جاءت المواشط فنزعن عنها بعض ما يثقلها من الألبسة، ووقف بعض الوصائف والغلمان بالمراوح والمذاب بين يديها، واشتغل آخرون بإعداد الشراب والطعام، ولكنها قالت للأمين: «أحب أن أراك يا محمد على انفراد، ولا أرب لي في الطعام.»
فأشار الأمين فخرج الجميع ولم يبق غيرهما، فجلست على السرير وأشارت إليه أن يجلس بجانبها، فجلس وقال: «ما أسعد هذه الساعة يا أماه. كأنك جئت على موعد؛ فقد كنت هذا الصباح أهم بالذهاب إليك أو استقدامك لأستشيرك في بعض الشئون، فإذا بك تفاجئينني فتفاءلت خيرا.»
فابتسمت والغضب باد في عينيها وقالت: «خيرا إن شاء الله! ولكني جئتك لأمر آخر يهمني ويهمك!»
فاهتم الأمين وقال: «وما ذلك يا أماه؟»
قالت: «ألا تزال تلك الفتاة الضالة عندك؟»
فقال: «أية فتاة؟» قالت: «أعني ابنة عدونا الذي تعمد خلعك من ولاية العهد، وأغرى أباك الرشيد بمبايعة ابن مراجل.»
فأدرك أنها تعني ميمونة بنت جعفر فقال: «نعم يا سيدتي، لا تزال بين جواري القصر.»
قالت: «وكيف أبقيتها ولم تخف شرها؟»
قال: «لأني وجدتها يتيمة مسكينة لا ضرر منها، وقد أوصتني ابنة أخي بها خيرا بعد أن أبيت إطلاق سبيلها لأبقيها هنا اتقاء ما نخشاه منها.»
قالت: «يتيمة مسكينة؟! تبا لها من خائنة غادرة! وأغرب من ذلك أن تقبل شفاعة ابنة أخيك، وأخوك أشد عداء لك من أعدائك! ألم يستعن عليك بالخراسانيين؟ وإذا أتيح له أن يخلعك عن هذا العرش ألا تظنه يفعل؟ ومن أوجد هذا الغرور في نفسه، أليس هو جعفر بن يحيى أبا هذه الفتاة؟ لقد كان أبوك رحمه الله أدرى منك بأقدار الرجال فقتله شر قتلة، ولو لم يبادر إلى قتله ما جلست أنت هذا المجلس، فكيف تقول بعد ذلك إنها يتيمة مسكينة وإن ابنة أخيك أوصتك بها خيرا؟ إن أخاك قد غلب فيه دم الفرس على دم الهاشميين فأخذ من أمه مراجل أكثر مما أخذ من أبيه الرشيد؛ فتراه يستعين بأخواله علينا.»
قالت ذلك وقد حمي غضبها وامتقع لونها وذهب احمرار شفتيها وتورد وجنتيها، ووافق ذلك ما يجول في خاطره من خلع أخيه فأراد أن يجعل ذلك برأيها فقال: «ألم يكن أبي قد بايع لي ولأخي عبد الله بالخلافة بعهد علقه على الكعبة؟»
فقطعت كلامه وقالت وصوتها يخنقه الحنق: «لا قيمة لذلك العهد لأنه كتب بإغراء الوزير الخائن رغبة في إخراج الخلافة من بني هاشم عن طريق أخيك هذا، وهل يصلح أبناء الجواري للخلافة إذا وجد أبناء الأحرار؟ أيقاس ابن الجارية مراجل بابن زبيدة بنت جعفر؟ أتعلم من هي مراجل وكيف اتصلت بأبيك حتى ولدت عبد الله؟»
قال: «لا.» قالت: «أنا أقص عليك خبرها. كانت مراجل من جملة جواري مثل مارية وقاربة وغيرهما، فرأيت أباك مشتغلا عني بمغنية ليحيى وزيره اسمها دنانير، وصار يقضي كثيرا من وقته عندها، فشكوته إلى أعمامه فأشاروا علي بأن أشغله عنها بجوار أهديهن إليه، فأهديته عشر جوار منهن مراجل هذه وهي فارسية. فلما ولدت له عبد الله رباه جعفر من صغره على حب الفرس حتى جرى ما نعلمه؛ فكيف يكون هذا صنوك. أما العهد الذي أشرت إلى أنه معلق في الكعبة فابعث من يأتي به ومزقه لأنه كتب خداعا.»
فسري عن محمد وقال: «إذن أنت ترين أن أخلع أخي عبد الله من ولاية العهد؟»
قالت: «أولم تخلعه بعد؟ اخلعه قبل أن يخلعك.»
فاعتدل في مجلسه وقال: «قد كنت عازما على استطلاع رأيك في هذا؛ فالحمد لله على أن وافق رأيك رأي الفضل.»
فقالت: «اخلعه وبايع لابنك موسى وإن كان صغيرا، فتكون الخلافة أعرق في بني هاشم؛ لأنه لم يولد لبني العباس خليفة والداه هاشميان إلا أنت، فأولادك أعرق في النسب الهاشمي من سائر العباسيين.»
فانبسطت سرائر الأمين وسكت وأطرق فابتدرته قائلة: «ولنعد إلى تلك الفتاة الخائنة، فما أجدرك أن تقتلها وتتخلص منها.»
قال: «أقتلها؟ وأي ذنب أتت؟ وما الذي نخافه من بقائها حية؟»
قالت: «إنك غافل يا محمد عما يجري حولك، وقد شغلك اللهو عن دسائس المملقين. أما أنا فساهرة على شئونك وأعلم ما يجري في قصرك. وقد تبينت أن بقاء هذه الفتاة في قصرك أشد خطرا عليك من بقاء ولاية العهد لأخيك، فاقتلها!» فاستغرب الأمين تشديدها وهو لم ير في الفتاة ما يوجب ذلك فقال: «لا شيء علي إذا قتلتها، ومثلها مئات بل ألوف في قصري، ولكنني وعدت أم حبيبة بأن أحافظ عليها.»
فأفلت جأش زبيدة من يدها عند سماعها قوله، ونهضت وقالت: «إنك لا تزال ساذجا تجوز عليك الألاعيب، وإلا لأدركت من شفاعة بنت عبد الله فيها أن هناك ما يبعث على الشك. اعلم أن ميمونة هذه مخطوبة لأكبر أعداء العباسيين، وبينها وبينه مراسلة تشف عن تعمده الانتقام لأبي مسلم الخراساني وجعفر بن يحيى، وهو يعد العباسيين خائنين غادرين، وإذا كنت في شك مما أقول فاقرأ هذا الكتاب.» قالت ذلك وأعطته لفافة فيها كتاب بهزاد، فأخذ الأمين الكتاب وطفق يقرؤه ولم يصل إلى آخره حتى ارتجفت يداه وارتعشت أنامله لما حواه من الطعن في العباسيين والنقمة عليهم وتهديدهم؛ فنظر إلى أمه وكانت قد قعدت واتكأت على الوسادة وأخذ الغضب منها مأخذا عظيما، فالتفتت إليه وقالت: «أرأيت هذه اليتيمة المسكينة؟ هذا خطيبها يزعم أننا غلبنا بالغدر والخيانة، وأنه سينتقم لأبيها وذاهب إلى خراسان لهذا، فكيف تبقيها في قصرك وبين جواريك تطلع على أحوالك ومساعيك وأسرارك؟»
فدهش الأمين لسهر أمه على شئونه وقال: «كيف وصلت إلى هذا الكتاب ومن أتاك به؟»
قالت: «أتيت به من وسط قصرك لأني ساهرة وأنت نائم!»
فأخذته العزة بالإثم وقال: «سآمر بإلقائها في قاع دجلة الساعة.»
قالت: «أتلقيها في دجلة بلا سؤال ولا جواب؟»
قال: «أليس الغرض أن نتخلص منها؟»
قالت: «ما أقل دهاءك! قبل أن تقتلها استطلعها ما تعلمه من أحوال أعدائنا؛ فلا ريب أنها تعرف أسرارهم، ومتى نلت مرادك منها فاقتلها أو أغرقها كما تشاء.»
قال: «أدعوها إليك الساعة ونسألها معا؟» قالت: «افعل.»
فصفق فجاءه أحد الغلمان فقال له: «إلي بالجارية ميمونة.»
وكانت ميمونة منزوية مع جدتها في أبعد غرف القصر خوفا من أن تراهما زبيدة. وعبادة تتوسل إلى الله أن ترجع زبيدة قبل أن تراها، وإذا بالغلام قد جاء يدعو ميمونة إلى أمير المؤمنين. فلما سمعت عبادة قوله أسقط في يدها، وتحققت أن زبيدة أتت لتحرض ابنها على الإيقاع بها بعد مقابلتها تلك؛ فندمت على ذهابها إليها. ولم تجد ميمونة بدا من الطاعة، فتبعت الغلام حتى أتى القاعة، فدخل وقال: «الجارية بالباب يا مولاي.» قال: «تدخل.»
فدخلت مطرقة خجلا وركبتاها تصطكان من الخوف؛ فوقع نظرها على زبيدة وهي متكئة وقد زادها الغضب هيبة ورهبة، والأمين جالس بجانبها كأنه بعض غلمانها. فوقفت وحيت فابتدرها الأمين قائلا: «تقدمي يا ميمونة.»
فمشت نحوه وهي تنظر إلى الأرض وقد أخذتها الرعدة من الخوف، فمد يده وفيها الكتاب وقال: «أتعلمين لمن هذا الكتاب؟»
فلما وقع نظرها على الكتاب عرفته وأيقنت بافتضاح سرها، فلم تعد يدها تطاوعها على تسلمه من شدة الارتعاش، فتناولته وأناملها ترتعد فسقط من يدها فانحنت لالتقاطه عن البساط فسقطت واهنة القوى ولم تعد تستطيع الوقوف وانحدرت دموعها على خديها، وحاولت أن تنظر إلى الكتاب فلم تستطع وغلب عليها البكاء فتربعت عند قدمي الأمين تقبلهما وتبكي ولا تفوه بكلمة.
فصاحت زبيدة فيها قائلة: «ويلك ما يبكيك؟ أتظنين البكاء ينجيك؟ من هو بهزاد هذا؟ أليس حبيبك حامل سيف النقمة على العباسيين؟» ثم رأت أنها يجب أن تحتال في كشف سرها فعمدت إلى الملاينة فقالت: «لا تخافي، إنما ينجيك الصدق. قولي لنا أين حبيبك الآن؟ وما الذي تعرفينه من أحوال الخراسانيين. فإذا صدقتنا القول أطلقنا سراحك وأبقينا عليك، وإلا فإنك مقتولة لا محالة.»
فقالت وصوتها يتقطع من البكاء: «ثقي يا سيدتي بأني لا أعلم شيئا غير ما في هذا الكتاب، وقد تفهمين من تلاوته أنني لم أكن قبله أعرف هذا الشاب، وأقسم برأس أمير المؤمنين أني لم أعد أعرف شيئا عنه بعد تلاوته.»
فضحكت زبيدة مستخفة وقالت: «وتقسمين برأس أمير المؤمنين؟»
قالت: «أقسم به لأني صادقة في قسمي.»
فقال الأمين: «اصدقينا يا بنية ولا خوف عليك. وإذا لم تقولي الصدق أتينا برئيس المنجمين في هذه الساعة فيكشف مكنونات صدرك؛ فإذا أطلعنا على شيء تنكرينه كان جزاؤك العذاب الأليم.»
قالت: «الأمر لأمير المؤمنين، وليس عندي غير الذي قلته.»
فصفق الأمين وأمر الغلام بأن يدعو رئيس المنجمين، فذهب الغلام، وكانت ميمونة قد وقفت فأمرها الأمين بالجلوس فجلست، ولم تكن تعلم أن رئيس المنجمين هو سلمان نفسه، وكانت تظن سلمان هرب أو مات لطول غيابه عنها، وبعد قليل أقبل الملفان سعدون بعمامته الكبيرة السوداء وجبته الطويلة وتحتها الثوب العسلي وقد تمنطق بزنار غرس فيه الدواة، واصطنع لحية كثيفة مسترسلة دب فيها الشيب تتصل من الجانبين بسالفين كثيفين، وغير ذلك من قيافة الحرانيين أهل الذمة، وهي تخالف ما تعرفه عن سلمان ولو خامرها شك فيه لعرفته من عينيه وأنفه.
ودخل سعدون وحيا ووقف متأدبا وقد تأبط الكتاب وعيناه تختلسان النظر إلى أهل ذلك المجلس، فرأى ميمونة وزبيدة، ووقع بصره على كتاب بهزاد بين يدي الأمين؛ فعرفه لأنه هو الذي حمله إلى ميمونة، فأدرك لأول وهلة سبب استقدامه، ثم أمره الأمين بالقعود بلا حجاب أو ستر بينهما، فقعد جاثيا وعيناه لا تتحولان عن الأرض، فابتدره الأمين قائلا: «دعوناك يا ملفان سعدون نطلب إليك أن تستطلع سر هذه الجارية؛ فقد سألناها فأنكرت وهددناها باستطلاع سرها على يدك، فاصدقنا.»
وكانت زبيدة جالسة تنظر إلى المنجم ولا تتكلم حتى ترى علمه، وكانت قليلة الإيمان بالمنجمين، وإنما رضيت باستدعاء المنجم ساعتئذ إرهابا لميمونة لعلها تعترف خوفا من العقاب. أما سعدون فأخرج كتابه والتمس أن يؤتى إليه بكانون فيه نار من خشب الزيتون زاعما أن المندل لا يتم إلا إذا كانت النار من ذلك الخشب، فأتوه بالنار في شبه مبخرة من الفضة وضعوها على طبق بين يديه، وهو ماض في القراءة والتمتمة، ثم أخرج من جيبه قطعة بخور ألقاها في النار، وطلب قدحا فيه ماء فأتوه به فأخذه بيساره بين الإبهام والسبابة وتفرس في الماء حينا ثم استأذن الخليفة في أن تتقدم ميمونة نحوه وتضع يدها على كتابه فتقدمت وهي ترتعد خوفا ووضعت كفها على ذلك الكتاب. وتناول سعدون يدها الأخرى وقرأ أساريرها ثم رفع يدها عن الكتاب وأجلسها وفتح الكتاب وقرأ همسا وهو يبتسم ابتسام الفائز ويهز رأسه، ثم نظر إلى الأمين قائلا: «إن لهذه الفتاة حديثا طويلا وإن لها لشأنا.»
فضحكت زبيدة استخفافا بهذه النبوءة؛ لأنها لا تدل على معرفة، فأدرك سعدون غرضها فنظر إليها وهو يتحاشى التفرس في وجهها تأدبا وقال: «لا أقول ذلك تعمية أو إبهاما، ولكنني أعني أنها ليست من عامة الناس، بل من أصل عريق في الكرامة والوجاهة وإن كانت اليوم في جملة الجواري.»
فقطعت زبيدة كلامه قائلة: «إذا كنت على ثقة مما تقول فأنبئنا عن حقيقة حالها بصراحة.»
قال: «وأقول ذلك أمامها؟» فقالت: «قل.»
فأعاد النظر إلى القدح ثم نظر في وجهها وقال: «إنها بنت وزير مات مقتولا.»
فلما قال ذلك اقشعر بدن الفتاة وامتقع لونها، والتفت الأمين إلى أمه لفتة ظافر فرآها لا تقل دهشة عنه ولكنها تجاهلت وقالت: «ربما كنت مصيبا فيما قلته.» ومدت يدها إلى كتاب بهزاد وقبضت عليه بكفها وقالت: «وما الذي بيدي؟» قال: «كتاب.»
فقهقهت وقالت: «بورك في مهارتك، إن الأطفال يعرفون ذلك. فإذا كنت رئيس المنجمين كما يسمونك فقل ماذا في هذا الكتاب.»
قال: «يسوءني يا سيدتي استخفافك بعلمي، وقد يجدر بي بعد ما سمعته أن أسكت عما أعلمه، ولكنني أقول لك إنك تقبضين على كتاب من نار، بل النار أخف وطأة على هذه اليد اللطيفة مما في هذا الكتاب. إن بيدك كتابا من رجل فارسي إلى هذه الفتاة وفيه من نصرة الفرس والغض من مقام العباسيين ما يسوءك ويسوء مولاي أمير المؤمنين. وإذا لم يقنعك هذا الإجمال فصلته تفصيلا. إن هذا العلم لم يكذبني من قبل، ولا أدري إذا كان قد صدقني الآن.»
فبغتت زبيدة ولم تعد تستطيع إخفاء الإعجاب فقالت: «صدقت أيها الملفان، وإذ قد علمت سر الكتاب فأعلمنا عن صاحبه أين هو الآن؟»
قال: «هو بعيد يا سيدتي. إنه في خراسان.»
قالت: «وما علاقة هذه الفتاة به؟»
قال: «إنها علاقة قريبة العهد، وإذا ادعت غير ذلك فإنها كاذبة، ولا تسأل عما حواه الكتاب من كلام التهديد أو الانتقام؛ لأنها كانت خالية الذهن منه حين وصوله إليها، ثم لم تعد تعلم عن صاحبه شيئا.»
وكانت ميمونة أكثر السامعين استغرابا؛ لأن الرجل قرأ ما في ضميرها، ولو أرادت هي أن تترجم إحساسها لم تستطع تبيانه بأوضح من ذلك، فأشرق وجهها وبانت الطمأنينة في محياها، ونظرت إلى الأمين نظر الاسترحام وظلت ساكتة.
أما زبيدة فخفت نقمتها على ميمونة ولم يخف كرهها فقالت لسعدون : «هل تعتقد أن هذه الجارية بريئة؟»
قال: «هذا ما أظهره لي المندل، وعهدي به لا يكذبني. وعند أمير المؤمنين الخبر اليقين عنه.»
فأشارت إلى ميمونة أن تخرج فخرجت وهي لا تصدق أنها نجت. ثم التفتت زبيدة إلى الملفان سعدون وقالت: «إني واثقة من علمك أيها الملفان، ولكن قلبي لا يحدثني عنها خيرا.»
قال: «لأنك تكرهينها، ولا عجب فإن أباها أساء إليك وإلى سيدي أمير المؤمنين، وإذا رأيت أن أعيد المندل في فرصة أخرى فعلت. وإذا أذن أمير المؤمنين أن أجالسها مرة أخرى على انفراد زدته تفصيلا عن أحوالها.»
فقال الأمين: «لك ذلك أيها الملفان.» ونظر إلى أمه نظرة فهمت غرضه منها بينما سعدون يتشاغل بجمع ما تفرق بين يديه من ورق كتابه استعدادا للخروج. فابتدرته زبيدة قائلة: «أما وقد بدا لنا منك هذا العلم الواسع في استطلاع الغيب فأخبرنا عما يجول في خاطري وخاطر أمير المؤمنين.»
فأدرك أن المأمون أهم ما يمكن أن يجول في خاطرهما وقتئذ فقال: «يجول في خاطركما أشياء كثيرة أهمها يمس رجلا في خراسان تحذرونه ويحذركم، وقد تخافونه وهو أشد خوفا منكم.»
فوافق قوله ما في نفسها فقالت: «صدقت، وماذا ترى بعد ذلك؟» فأعاد النظر في الكتاب طويلا حتى ظهر الاهتمام في جبينه وتصبب العرق منه، ثم رفع نظره إليها وقال: «لا أرى مناصا من تجريد السيوف.»
قالت: «ومن يجردها؟» قال: «إنما يظفر السابق وعلم المستقبل عند الله.»
فالتفتت إلى الأمين ولسان حالها يقول: «ألم أقل لك بادر إلى خلعه قبل أن يخلعك؟»
فقال الأمين: «وقد أشار وزيرنا الفضل بخلع عبد الله، فإذا لم يذعن حملنا عليه بالجيوش، فهل نغلب؟»
فتناول الكتاب ثانية وقلب عدة صفحات ثم قرأ ونظر إلى السماء من نافذة في تلك القاعة، وأخرج قلما من منطقته وغطسه في المداد وكتب وحسب ثم قال: «قلت لمولاي إن علم المستقبل عند الله وليس لي. ولكن يظهر لي من هذا الحساب أن الفئة التي فيها الفضل هي الغالبة بإذن الله.»
فازداد الأمين اعتقادا بضرورة الخلع ، فأثنى خيرا على الملفان سعدون وأمر له بجائزة، فعلم هذا أن قد آن له أن ينصرف فجمع أوراقه وأدواته واستأذن وخرج.
ثم نهضت زبيدة للذهاب، فأتتها المواشط فألبسنها ما خلعته عند وصولها. ولما ودعت ابنها نصحت له بأن يأتي للإقامة بقصر الخلد قريبا منها؛ فوعدها بذلك فعادت بموكبها إلى دار القرار.
وأقر الأمين بعد ذهابها خلع أخيه وتولية ابنه موسى، وبعث إلى خراسان بذلك كما تقدم. ثم جند جندا أراد أن يجعل الفضل قائدا عليه. ولكن هذا رغبه في ابن ماهان ففعل، وخرج الجند لمقاتلة طاهر بن الحسين في الري، وبعد إرسال الجند انتقل الأمين إلى قصر الخلد ونقل معه بطانته. أما ميمونة وسعدون فأبقاهما وأمر بالاحتفاظ بهما. •••
كانت ميمونة قد خرجت من حضرة الأمين وهي ترقص فرحا ودهشة حتى أتت جدتها وكانت تنتظرها على مثل الجمر، فقصت عليها ما جرى وأثنت على مهارة رئيس المنجمين، فاستغربت عبادة ما سمعته وقالت: «جزاه الله خيرا، إن الله سخره لإنقاذنا من هذا الخطر العظيم، ولولاه ما رضيت تلك الملكة الظالمة بغير قتلنا.»
فقالت ميمونة: «وقد تخلى سلمان عنا فأرسل الله لنا من يأخذ بيدنا، إنه سبحانه لا يترك المظلوم حتى ينصره.»
ومكثتا في ذلك القصر بعد انتقال الأمين إلى قصر الخلد لا يعلمان شيئا مما يجري من شئون السياسة، وفقدت ميمونة تسليتها بفقدها كتاب بهزاد، ولما طال غياب سلمان عنها كادت تنساه لولا ارتباط ذكره بذكر بهزاد. وكيف تنساه وهو خليفة بهزاد عليها وقد حمل إليها كتابه؟ وكانت في شوق كثير لمعرفة مكان حبيبها لتطلعه على حالها لعله يسعى في إنقاذها. وأنى لها ذلك وهي محبوسة بين أربعة جدران لا تسمع خبرا ولا ترى رجلا. وكانت عبادة تحاول التخفيف عنها جهد طاقتها.
وفيما هما جالستان ذات يوم جاءتهما قهرمانة القصر تقول: «إن رئيس المنجمين يطلب مشاهدة ميمونة.» فبغتت الفتاة وصعد الدم إلى وجهها وقالت: «ما شأننا معه؟»
قالت: «إن أمير المؤمنين أوصى بألا يؤذن لأحد في مشاهدتك غير رئيس المنجمين متى شاء ، ولا بأس عليك منه.»
فتحولت بغتتها إلى سرور وقالت في نفسها : «سأسأله عن سلمان أو بهزاد إذا آنست منه عطفا لعله يهديني إلى مكانهما.» ثم قالت للقهرمانة: «هل يأتي إلينا أم نذهب نحن إليه؟»
قالت: «طلب أن يراك على انفراد في غرفته.»
فأجفلت وقالت: «أنفرد به في غرفته، وهو رجل غريب؟»
فقالت عبادة للقهرمانة: «هل تأذنين أن أكون أنا معها في تلك المقابلة؟»
قالت: «لا بأس.»
فنهضتا وتنقبتا، وأرسلت القهرمانة معهما غلاما أوصلهما إلى غرفة الملفان سعدون في بعض أطراف القصر، وقرع الغلام باب الحجرة وأنبأ بوصول ميمونة ورجع؛ ففتح سلمان الباب وهو بقيافته المعهودة ورحب بالفتاة وجدتها وأدخلهما الحجرة وأقفل الباب وراءهما. فلما وجدت ميمونة نفسها في ذلك المكان استوحشت وتلفتت فلم تجد حولها إلا أدوات وأشياء لا تفهم لها معنى، من أنابيب وأقداح مختلفة الأشكال والألوان، وألواح عليها رسوم وخطوط بعضها يقرأ وبعضها طلاسم لا يقرأ. وكان قبل دخولهما قد نزع جبته وبقي بالإزار (القفطان) العسلي وحوله الزنار وعلى رأسه عمامة صغيرة، فأشار إلى ميمونة وجدتها بالقعود على طنفسة بجانب طراحته فقعدتا وهما لا تتكلمان. فقعد هو بين يديهما وخاطب ميمونة قائلا: «هل تعلمين يا ميمونة أني أنقذتك من القتل؟»
فدهشت لما سمعته يذكر اسمها وقالت: «نعم يا سيدي، وإني لا أنسى لك هذا الجميل، جزاك الله خيرا.»
قال: «إني لا أسألك على ذلك أجرا، وأتقدم إليك أن تصدقيني في سؤال ألقيه عليك: هل تفعلين؟»
قالت: «نعم، وهل أستطيع غير ذلك وأنت تكشف مكنونات القلوب؟»
قال: «هل تحبين بهزاد كثيرا؟»
فتوردت وجنتاها فجأة، وأطرقت حياء فابتدرها قائلا: «لا ينبغي أن تستحيي مني، قولي.»
فتنهدت وظلت مطرقة ولم تجب. فأجابت عبادة عنها وقالت: «أظن رئيس المنجمين فهم جوابها دون أن تنطق به؟»
فوجه خطابه إلى العجوز وقال: «وهل أنت لا تزالين تعرفين الحب ودلائله رغم ما مر بك من الأهوال؟»
فلم تستغرب عبادة إشارته إلى حالها بعد ما بلغها من إعجازه في كشف الضمائر فسكتت؛ فالتفت إلى ميمونة ويده على لحيته يمشطها بأنامله وقال: «قد علمت أنك تحبين بهزاد، ولكن هل هو يحبك؟»
فرفعت كتفيها وهي مطرقة كأنها تقول: «لا أعلم.»
فابتدرها قائلا: «لو كان يحبك لم يتركك في هذا القصر ويذهب، وقد تبقين فيه العمر. وقد دبرت لك سبيلا للنجاة، فإذا أطعتني أفلحت.»
قالت: «إني رهن أمرك يا سيدي.»
قال: «إني أعرف شابا هو خير شبان بغداد وأكبر وجيه فيهم، يحبك حبا مبرحا وأنت لا تحبينه.» وتوقف عن الكلام، فأدركت أنه يشير إلى ابن الفضل، فأظهرت الاشمئزاز والتفتت إلى جدتها كأنها تكلفها أن تجيب عنها، فهمت عبادة بالكلام، فقطع سعدون كلامها قائلا: «إني أعرف الجواب، ولكن رفضك لا ينفعك؛ لأن الرجل صاحب النفوذ الأكبر، وإذا طلب من أمير المؤمنين دفعك إليه فأجدر بك أن تقبلي راضية. وهذه نصيحتي؛ فإن بهزاد بعيد، ومن يدري فقد لا ترينه بعد.»
فضاق صدر ميمونة عند ذلك وانحبست عواطفها ولم تستطع أن تمسك عن البكاء، فنهضت عبادة وقالت كمن يستغيث: «أما وقد اطلعت على سرنا وعرفت حقيقة حالنا، فأتوسل إليك أن تكون عونا لنا لا علينا.»
فأشار إليها أن تقعد وقال: «ماذا تريدين؟»
قالت: «لا نصيب فينا للفتى الذي تشير إليه، وأنت تعرف السبب، والموت أيسر علينا من إجابة طلبه. وإنما أتقدم إليك أن ترشدنا بعلمك إلى أمر يهمنا.» قال: «وما ذلك؟»
قالت: «أضعنا عونا كبيرا خلفه لنا بهزاد عند سفره، وهو الذي أوصل كتابه إلى ميمونة، ثم لم نعد نراه ولا نعرف مكانه، فهل تكشف لنا خبره بالمندل؟»
فضحك وقال: «أظنك تبحثين عن سلمان؟» قالت: «نعم.»
قال: «إن الوزير سألني عنه أيضا.»
فقالت عبادة: «وهل هو في بغداد؟» قال: «نعم، إنه في هذا القصر.»
فبغتت ميمونة وقالت: «في هذا القصر؟» قال: «وفي هذه الغرفة.»
وأحست عبادة عند ذلك كأن غشاوة انكشفت عن عينيها وتذكرت ميمونة صوت سلمان فصاحت: «سلمان؟ سلمان؟»
فقال: «لا ترفعي صوتك، نعم أنا سلمان، أنا رئيس المنجمين!»
ولم تستطع الإمساك عن الضحك وبان البشر في وجهها وخفق قلبها وأحست كأنها لقيت حبيبها بهزاد لأملها في الاطلاع على أخباره، فلم تعد تعرف كيف تسأل سلمان وتستفهمه، وأرادت التكلم فتلجلجت فسبقها إلى الكلام قائلا: «ستلومينني على اختفائي كل هذه المدة، ولكنني لم أختف إلا رغبة في خدمتك، فلما رأيت منفعة لك في الظهور ظهرت، وأظنني أفدتك.»
فقالت عبادة: «إنك أنقذتنا من الموت، جزاك الله خيرا و...»
وقطعت ميمونة كلام جدتها فقالت: «وأين بهزاد الآن؟»
قال: «في بغداد أو حولها.»
فصاحت: «في بغداد؟ ألا يأتي إلينا؟»
قال: «وهل تظنين أن ظهوره سهل؟ إنه لا يظهر إلا إذا آن الأوان. وقد تغيرت أحوال بغداد منذ وطئ ترابها؛ لأن الأحزاب السرية عادت إلى عملها بإرشاده، فكثرت العثرات في طريق هذا الغلام القابض على قضيب الخلافة.»
فقالت: «بورك فيك يا سلمان، لله ما أكرم نفسك! بهزاد أتى من خراسان؟ هل رأيته؟» قال: «نعم، رأيته وحادثته.»
قالت: «وأين شاهدته وكيف؟» قال: «لنا مكان نلتقي فيه لا يعرفه أحد سوانا.»
قالت وقد أشرق وجهها: «إذن هو هنا وسنراه؟ ومتى يكون ذلك؟»
قال: «لكل شيء وقت، لا تكوني لجوجة.»
قالت: «حسنا، كما تشاء، والآن ما الذي ترى أن نصنع؟»
قال: «تبقيان كما كنتما، وتكتمان ما رأيتما عن كل إنسان، حتى يأتي الوقت الموافق وأظنكما تثقان بما أقوله.»
فقالت عبادة: «مضى علينا زمن لم نسمع فيه خبرا عن المأمون ولا عن الأمين ولا عن الحال بينهما.»
قال: «أبشرك يا سيدتي بأن الله سينتقم لك ولنا. إن الأمين خلع أخاه المأمون من ولاية العهد، فخلعه هذا أيضا، وقام الفرس لنصرة المأمون لأنهم أخواله، وجردوا جيشا بقيادة طاهر بن الحسين، وجرد الأمين جيشا بقيادة ابن ماهان صاحب الشرطة، فالتقى الجيشان في الري فانتصر جيش المأمون وقتل ابن ماهان وتشتت جيشه، ولما وصلت هذه الأخبار إلى الأمين وقع في حيرة وبعث إلي فذهبت إليه في قصر الخلد واستشارني، فأشرت عليه بأن يرسل الفضل بن الربيع في الحملة الثانية، وأنا أعلم أن الفضل لا يذهب، وجعلت نجاحه في الحرب مشروطا بإرسال الفضل وابنه ، فآل ذلك إلى اختفاء الفضل، ولم تفلح الحملة الثانية فضعف حال الأمين واستخف به رجال دولته حتى هموا بخلعه، ولكنهم لم يستطيعوا لأن سلمان لم يكن معهم، ولو شئت لخلعوه ولكنني أردت إضعافه فقط.»
فأعجبت ميمونة بدهاء سلمان، وسرت بما دبره للفضل وابنه. ثم قال سلمان: «فامكثا في قصر المنصور هذا برعاية قهرمانته، وربما ذهبت أنا إلى الخليفة ومكثت في قصر الخلد أياما.» وصفق فأتى غلامه فقال له: «اذهب بهما إلى القصر، وقل للقهرمانة فريدة أني أحب أن أراها.»
فمضى بهما. وهم سلمان بلبس ثيابه وأمر الغلام أن يعد له بغلته ليركب إلى قصر الخلد ويمر في طريقه على القهرمانة ويوصيها بهما. ثم ركب ومر بالقهرمانة وأوصاها بأن تحتفظ بهما، فأشارت مطيعة، فتحول يطلب قصر الخلد والغلام في ركابه، والناس ينظرون إليه ويوسعون له إعجابا بما اشتهر عنه من معجزات التنجيم.
وصل سلمان إلى قصر الخلد فوجد بالباب جماعة من العيارين يحرسونه بدلا من الجند، وعرفه أحدهم فنهض وحياه ووسع له فدخل على بغلته إلى ردهة القصر، ولقي الهرش رئيس العيارين خارجا على فرسه، فلما وقع نظر هذا على الملفان سعدون أوقف فرسه وسلم عليه. فسأله عن سبب وجود رجاله بالباب بدلا من الجند فقال: «إن الجند غاضبون على أمير المؤمنين.»
قال: «لماذا؟» قال: «إن خبره يطول ولا أستطيع بسطه ونحن راكبان، ولا أظنه يخفى عليك ولكنني أقول موجزا: إن طاهرا وأصحابه لما أفلحوا في وقعة الري وقتل ابن ماهان ضعفت عزائم جنده وهربوا وتقدم طاهر فاستولى على أعمال الجبال، فجند الأمين حملة أخرى فعادت خائبة، وضعفت سطوة الخليفة حتى حاول قواده خلعه ثم رجعوا عن ذلك، وظل طاهر يتقدم في جنده حتى أتى الأهواز ثم استولى على واسط فالمدائن، ونزل أخيرا إلى صرصر وهي على مقربة منا. وكان أمير المؤمنين يخرج الأموال ويفرقها في رجاله. وبلغ ذلك رجال طاهر فطمعوا في الأموال، فجاء منهم جماعة إلى الأمين فأعطاهم وغلف لحاهم بالغالية وأكرمهم كثيرا؛ فغضب جنده لأنه لم يكرمهم مثل هذا الإكرام فتفرقوا عنه غاضبين، فبعث إلي أن آتي برجالي لنصرته .»
فضحك سعدون وقطع كلام الهرش قائلا: «رب مصيبة أتت بنعمة، لا بد أن يكون الأمين قد بذل لكم الأموال فغنمتم، وأنت تعلم أن ما يسرك يسرني وأنك أهل للعطاء أكثر من أولئك القواد الخائنين ومن الوزراء؛ فهذا الفضل بن الربيع لما رأى الأمر استفحل ترك مولاه واختفى وهو سبب هذا البلاء كله.» قال ذلك وودع الهرش وساق بغلته فاستوقفه الهرش قائلا: «إنك داخل على الخليفة، ومتى رأيته يزول عجبك مما بلغ إليه أمرك.»
فلم يفهم سلمان قصده، فلما نزل عن بغلته عند الباب الثالث من أبواب القصر ودخل الحديقة أدرك السر.
وذلك أنه سلم البغلة لغلامه ومشى في الحديقة يتوكأ على عصاه وينظر ذات اليمين وذات الشمال، فلا يرى إلا غلمانا يركضون وبعضهم حفاة مكشوفو الرءوس، فأوجس خيفة من هذا المنظر. وظل ماشيا في بعض طرق الحديقة حتى أشرف على بركة كبيرة في وسط الحديقة وقد تكأكأ حولها الغلمان ونزع بعضهم ثيابه وغطس فيها، وآخرون واقفون يحدقون في مائها، ثم رأى الأمين نفسه مقبلا كالواله وعليه ثياب المنادمة وقد ذهبت القلنسوة عن رأسه، فظن سلمان أن دسيسة كشفت في القصر يراد بها قتل الأمين وأن الغلمان يفتشون عن صاحبها وتوهموا أنه نزل البركة التماسا للفرار إلى دجلة؛ لأن البركة متصلة بقناة تمر من تحت السور، فإذا أغلقت الأبواب على الهارب وكان يحسن السباحة استطاع الخروج من القناة إلى دجلة لا يعترضه إلا شبكة كالمصفاة منصوبة عند مخترق القناة من السور لا يصعب عليه نزعها.
ثم سمع الأمين يصيح قائلا: «أين مقرطتي؟ أين ذهبت؟ من أخذها؟ يا سعيد، يا جوهر، يا كوثر، يا ... تعالوا، أظنها وقعت في البركة، ابحثوا عنها، ألقوا الشباك.»
فلما سمع كلامه تذكر ما سمعه من الهرش، وعرف ما يعنيه؛ فقد كانت هذه الضجة كلها لأن الأمين أضاع مقرطته، وهي سمكة كانت قد صيدت له صغيرة فقرطها حلقتين من ذهب فيهما حبتا در، وكثيرا ما كان يلهو بها، فاتفق أن تفقدها في هذه الساعة فلم يجدها، وشغل أهل القصر بالتفتيش عنها. فلما رأى سعدون ذلك تنحى جانبا حتى يفرغ الأمين من لهوه أو يجد مقرطته، وقال في نفسه: «كيف تستقيم أمور دولة هذا شأن خليفتها؛ فلا عجب إذا فاز أخوه الساهر على أمره، ومعه جند يتفانون في نصرته؟ وهذا إنما يحيط به المتملقون طمعا في رفده.»
وفيما هو كذلك رأى الأمين ينظر إليه وقد تحول مجونه وتهتكه إلى جد واهتمام، وأشار إليه أن يتبعه؛ فمشى سعدون في أثره حتى اجتاز باب القصر الداخلي واتصل منه إلى دهليز ينتهي بقبة يسمونها «طارمة» مصنوعة من خشب الصندل والعود، مساحتها عشر أذرع في مثلها، اتخذ لها فراشا مبطنا بأنواع الحرير والديباج المنسوج بالذهب الأحمر وغير ذلك من أنواع الإبريسم، ورأى رجالا وقوفا ببابها عليهم سيماء الوجاهة، وقد وسعوا للأمين عند دخوله، ومنهم: إبراهيم بن المهدي عم الخليفة، وسليمان بن جعفر المنصور من شيوخ بني هاشم. فلما دخل الأمين أشار إلى سعدون بالدخول وصرف الباقين، فترك سعدون عكازه ونعاله بالباب ودخل. فجلس الأمين على دكة في صدر القبة وأشار إليه أن يقعد، فقعد وهو يعجب لتغير حاله. ووقع نظره على آثار لمجلس شراب وغناء كان منعقدا هناك قبل مجيئه، فرأى الأقداح مبعثرة والأباريق متفرقة بين فارغ ومملوء وأطباق الفاكهة مصفوفة، ورأى بين يدي الأمين قدحا من بلور يسع شرابا يزن خمسة أرطال وقد قلب وانكسر. ورأى قدحين مثله بين وسادتين كان عليهما اثنان من خاصة الجلاس لعلهما سليمان بن المنصور وإبراهيم بن المهدي، وهما أرفع مقاما من سائر جلاسه.
فأدرك سعدون أن الأمين كان في مجلس طرب وعلم بضياع مقرطته فأسرع للبحث عنها، ولكنه استغرب انقلابه من اللهو إلى الاهتمام، فلبث ساكتا حتى يبدأ الأمين بالكلام. أما هذا فإنه أزاح بقايا القدح المكسور بين يديه ونظر إلى سعدون وتنهد وقال: «لم يبق لي صديق أودعه سرى إلاك؛ فرجالي تفرقوا عني ولم أجد بينهم مخلصا؛ لأنهم إنما يطلبون مالي، أما أنت فقد أعجبت بعلمك واطلاعك على الخفايا فأحببت أن أستشيرك، ويسوءني أنك جئتني ورأيت اشتغالي بعبث الغلمان، ثم دخلت هذا المجلس ورأيت ما فيه من آثار الندمان، على ما نحن فيه من أسباب القلق وبواعث الاهتمام.» ثم تنهد تنهدا عميقا وقال: «ولكنني أفعل ذلك لأذهب ما بي من اليأس، فبعثت إلى بعض أعمامي، فجاءوا إلي بالمغنيات والشراب فشربنا وسمعنا، ولم يذهب شيء مما في نفسي، بل زدت يأسا وكدرا لما سمعت الجواري ينشدن من أبيات الشؤم، ولا أدري أفعلن ذلك عمدا أم اتفاقا كقول إحداهن:
وهم قتلوه كي يكونوا مكانه
كما غدرت يوما بكسرى مرازبه
وإني لأخشى ممن حولي وهم مثل مرازبة كسرى ليس فيهم من يهمه أمري، حتى الفضل وزيري تخلى عني وتركني واختفى، وزادني تشاؤما أن إحدى المغنيات قامت لحاجة لها فعثرت بهذا القدح فكسرته، وهو قدحي ما برحت أشرب به منذ أعوام لم يصبه عطب. فهل ألام إذا تطيرت؟» قال ذلك وصوته يكاد يختنق.
فقال سعدون: «لا بأس عليك يا مولاي.»
فقطع الأمين كلامه قائلا: «حتى أنت لم تصدقني هذه المرة أو أن تنجيمك لم يصدق.»
قال: «وكيف ذلك؟»
قال: «أتذكر حديثك في قصر المنصور لما سألتك عن القتال بيني وبين أخي فبشرتني بالنجاح؟»
فأطرق كأنه يفكر ثم قال: «لو راجع مولاي ما قلته يومئذ لتحقق صدق قولي؛ فقد قلت إن العلم يدلني على أن الفئة التي فيها الفضل هي الغالبة، فهل ذهب الفضل في تلك الحملة؟»
فانتبه الأمين لذلك وقال: «نعم لم يذهب، وقد أردت أن أرسله مع الحملة الثانية فتنصل، ولما ألححت عليه خاف التبعة فاختفى ولم أعد أراه ولا أعلم أين هو.»
فهز سلمان رأسه متعجبا، ثم أطرق هنيهة وهو يحك جبينه بسبابته وقال: «بل أرى المندل قد صدقني أيضا؛ فإن وزير أخيك في خراسان اسمه الفضل، وهو أقوم على نصرته من قيام هذا الفضل على نصرة أمير المؤمنين. إني واثق من صحة ما أعلمه، وإذا ظهر خطأ فإنما يكون في فهم ما يظهر لنا من النتائج.»
فصدق الأمين قوله وزادت ثقته به وقال له: «والآن لا أخفي عليك أني قد فرغت يدي من الرجال وخزانتي من الأموال، حتى ضربت ما في قصوري من آنية الذهب والفضة نقودا وأعطيتها لرجالي، وبعت الآنية الثمينة وفرقتها فيهم، وجمعت ما استطعت جمعه من أموال التجار لأسترضي جندي، ولكن هذا كله لم يفدني شيئا وأصبحت كما ترى.» قال ذلك وغص بريقه. ورأى سعدون دمعتين تتلألآن في عينيه فلم تتحرك شفقته أو حنوه، وإن أظهر ذلك احتيالا للوصول إلى غرضه. وكان يود استفحال الأمر بين الأخوين حتى لا تذهب مساعي الفرس عبثا، فأبدى أسفه لما سمعه من حال الأمين وقال: «ألم تبحث عن المال في قصر أخيك، فقد علمت بمال حفظه نوفل خادم القصر من أيام مولانا الرشيد؟»
فقطع الأمين كلامه قائلا: «كان عند نوفل هذا ألف ألف درهم أخذناها مع الضياع والغلات.»
فأطرق سعدون وقد سره تضعضع الأمين، ثم قال: «أنت تطلب المال لإرضاء الجند، وفي بغداد جند يحارب بلا عطاء ويأخذ عطاءه مما يغنمه.»
قال: «أظنك تعني العيارين والشطار؟»
قال: «نعم، فهؤلاء يحاربون عراة وسلاحهم المقاليع ومخالي الخوص يحملون بها الحصى يرمون بها الناس فتؤذيهم أكثر مما تؤذيهم السيوف والرماح. وفي بغداد اليوم من هؤلاء نحو خمسين ألفا فأمر زعيمهم أن يجندهم.»
قال: «أتظنني غافلا عن ذلك؟ كان الهرش عندي الساعة وقد أمرته بإعدادهم فوعدني بأن يفعل، وأظنه سيجمع من تصل إليهم يده من باعة الطريق وأهل السجون والأوباش والطرارين وأهل السوق. وهؤلاء إذا قاموا خربت المدينة، ولكن ...» وسكت.
فأدرك سعدون أنه يكتم شيئا يخاف التصريح به، فظل ساكتا ينتظر ما يبدو، فعاد الأمين إلى الكلام فقال: «أشار علي بعض خاصتي الباقين على ولائي بأن أخرج من بغداد بمن بقي من رجالي، وهم سبعة آلاف فارس فأمر ليلا من أحد أبواب المدينة حتى آتي الجزيرة أو الشام، فيفرضون الفروض ويجبون الخراج ويكون لي مملكة واسعة هناك، وأترك بغداد لأصحابها حتى يقضي الله بما يشاء؛ فما رأيك؟»
فلما سمع سعدون ذلك تحقق أنه الرأي الصواب، وخاف إذا عمل الأمين به أن يعرقل مساعي الفرس؛ لأن بقاء الأمين حيا في مملكة أخرى يفسد عليهم سعيهم، فقال: «هل يرى أمير المؤمنين فائدة من الفرار؟ ومن أي باب يخرج بسبعة آلاف فارس وبغداد محاطة بالأعداء من كل جانب شرقا وغربا وشمالا وجنوبا؛ فإذا وقع في يد أعدائه - لا قدر الله - فإنهم يستحلون منه ما لا يستحلونه في حال أخرى.»
فقال الأمين: «ألا نجد لنا مخرجا من بغداد؟»
قال: «إذا شاء أمير المؤمنين صعدنا إلى إحدى المنائر العالية، وأشرفنا على بغداد وأرباضها فنرى أماكن العدو رأي العين والأمر بعد ذلك له.» •••
استحسن الأمين رأي سلمان، ونهض وقال: «في هذا القصر منارة عالية هلم بنا إليها.» فنهض سعدون في أثره حتى صعدا المنارة وأطلا منها على بغداد وقصورها، فالتفتا أولا نحو الشرق وقال سعدون: «انظر يا مولاي، هذه مضارب هرثمة بن أعين وراء دجلة؟ وهذه مضارب عبيد الله بن وضاح في الشماسية ومعه جند عظيم وقد حفظ الجسر الأعظم. وجند هرثمة يحرسون طريق خراسان؛ فلا سبيل إلى الفرار من هذه الجهة، وأما جهة الغرب فهذا طاهر وجنده في البستان قرب باب الأنبار وكأني أراهم يقتربون بأعلامهم. أراهم دخلوا محلة الكرخ حول باب الكوفة وما يليها وسائر الأرباض الغربية الجنوبية، وكادوا يحصروننا والعيارون يدفعونهم بالمقاليع، ألا ترى الحصى يتطاير فوق البيوت؟»
وكان الأمين ينظر إلى ذلك وقلبه يختلج وامتقع لونه، وتحقق ضياع أمره، فلم يجب ولكنه وجه نظره نحو الحربية في الشمال فرأى النار قد لعبت فيها فصاح: «ويلاه! ما هذا؟»
فقال سعدون: «أظن أوشاب السكان وأهل السجون اغتنموا فرصة اشتغال الناس بالقتال فألقوا النار في البيوت ليتمكنوا من السرقة والنهب. انزل يا سيدي إلى قصرك فإنك آمن فيه وهو حصن منيع.»
فنزل الأمين وسعدون وراءه حتى بلغا الدار فرأيا أهلها في هرج ومرج يركضون ذات اليمين وذات الشمال كأنهم يفتشون عن ضائع، وحالما وقع بصرهم على الأمين أجفلوا وصاحوا: «هذا مولانا أمير المؤمنين. هو هنا .» وما عتم أن رأى أمه زبيدة تعدو نحوه حتى ضمته إلى صدرها ودموعها تتساقط وهي تقول: «ولداه، أين كنت؟ لقد بلبلت بالي لغيابك هذه الساعة. وقيل لي إنك كنت جالسا هنا ثم لم يجدوك وذكروا أنك لم تخرج فطار صوابي لتغيبك في مثل هذا الوقت.»
فأثرت لهفة أمه تأثيرا شديدا في نفسه ولم يتمالك عن البكاء، ثم تجلد وأظهر رباطة الجأش وقال: «وما الذي يخيفك يا أماه؟ إننا في خير إن شاء الله. وإنما كنت مع رئيس المنجمين. ما الذي جاء بك الآن؟»
فأمسكت بالأمين ودخلت به غرفة ودخل سعدون في أثرهما وأقفلوا الباب وقالت: «جئت لأمر مهم؛ أنت تعلم أني لا أغفل عن التفكير في أمرك، وقلبي يدلني على خطر يهددنا من يد ذلك الخراساني بهزاد. وما زلت أبث العيون للبحث عنه حتى قيل لي إنه في بغداد، ولكنني لم أقف على مسكنه، وبينما أنا أتوقع الوقوف عليه حلمت حلما مزعجا لا أقصه على أحد، بل أنا أريد نسيانه. على أنني لم أعد أستطيع صبرا على بهزاد هذا، وإذا استطعنا القبض عليه فكأننا هزمنا نصف الجيش؛ لأنه منذ وطئ هذه الديار تغيرت حالنا وقوي جند طاهر؛ وذلك لأن بهزاد زعيم كبير وله نفوذ على كبار البغداديين، وقد ذكرت لك مرارا أنه رئيس عصابات سرية أعضاؤها من أكبر تجار بغداد وأهل النفوذ فيها.» قالت ذلك وقعدت.
فقعد الأمين وهو يشير إلى سعدون أن يقعد، وقال لأمه: «وأين هو؟»
قالت: «لا أدرى أين هو، ولكنني سأبعث إلى هذه الفتاة أستقدمها إلي لعلها تعترف بمكانه فيسهل علينا القبض عليه.»
فالتفت الأمين إلى سعدون كأنه يستطلع رأيه ثم قال: «ما لنا ولتلك الفتاة؟ هذا رئيس المنجمين عندنا.»
فقالت وهي تعتدل في مجلسها على الوسادة بجانب ابنها: «أخبرنا أيها الملفان عما يدلك عليه علمك عن ذلك الخراساني.»
فأخرج كتابه وقرأ فيه على عجل ووضع قطعة من البخور في فمه ومضغها قليلا ثم قال: «إنه في بغداد يا سيدتي.» قالت: «هل تعرف مكانه؟»
قال: «يلوح لي أنه بين ماءين، ولكن ليس في النهر، على أن تحقيق ذلك يحتاج إلى وقت أوسع وجو أصفى، أما تلك الفتاة فلا تعلم مكانه. وكيف يتأتى ذلك وهي محبوسة في قصر أمير المؤمنين لا يراها أحد ولا ترى أحدا؟»
فأطرقت زبيدة هنيهة وقالت: «علمت أن ابن الفضل يهواها وهي لا تريده، ولولا اختفاء ابنه لزوجته بها برغم أنفها.» وسكتت ثم قالت: «والفضل هذا خاننا عند الحاجة إليه. إنه أصل هذه المصائب وهو الذي حرض محمدا على خلع أخيه والتجريد عليه. لعنه الله من خائن!»
وغصت زبيدة بريقها كأنها شعرت بالخطر المحدق بابنها، ثم استأنفت الكلام وبدا على وجهها الاهتمام وقالت: «ولكنني حسنة الظن بالفضل.» وأحس الأمين بما تضمره من الخوف عليه فأحب أن يصرف ذهنها عن هذا فتجلد وتكلف الابتسام وقال: «سوف يلقى الخائن جزاءه، اذهبي يا أماه إلى قصرك الآن واطمئني وادعي لنا بالنصر، ولا يغرنك ما ترين من كثرة جند الأعداء فإننا غالبون بإذن الله، ولنا من العيارين أكبر معين.»
فعلمت أنه يريدها أن تنصرف، فنهضت وهمت بالخروج فأحست بما يحبب إليها البقاء، ولم يطاوعها قلبها على فراق ابنها كأنه أنذرها بالخطر عليه، فأرادت أن تعود إلى مقعدها فخافت أن تكدر ابنها فوقفت هنيهة تتردد ثم أكبت على الأمين وقبلته في عنقه قبلات حارة، فأحس بسخونة الدمع فدفعها بلطف وقبل صدرها وهو يغالب عواطفه ويخاف أن تخونه دموعه. أما هي فأسرعت في الخروج وشعرت بأن قلبها خلع من صدرها وانصرفت في موكبها إلى قصرها.
وكانت الشمس قد مالت إلى المغيب فقال سعدون: «هل يأمر لي مولاي بالانصراف؟»
فقال: «امكث، لا تفارقني. إني سأحتاج إليك الليلة.»
فتوقع سعدون من وراء ذلك نبأ جديدا، فنظر إلى وجه الأمين فرأى اضطرابا لم يعهده فيه من قبل، فهم بالخروج إلى بعض غرف الأضياف فأشار إليه الأمين أن يمكث، ثم صفق فجاءه غلام فقال: «إلي بالشراب وأنر الشموع.» فلما خرج الغلام نزع الأمين عمامته عن رأسه وزفر زفرة سمع لها دوي وقال: «يلومونني على الشراب، وماذا يفعل اليائس في مثل هذه الحال؟ إن الشراب ينفس الكرب ويذهب الغم حتى يقضي الله بما يشاء.»
أما سعدون فجلس متأدبا محتشما، ثم جاء الغلمان بمائدة الشراب والفاكهة وأناروا الشموع الكبيرة المعروفة باسم الأمين، فصاح الأمين بالغلام قائلا: «هل عمي إبراهيم هنا؟» يريد إبراهيم بن المهدي المغني.
قال: «كلا يا مولاي.»
فأشار إليه أن يملأ له قدحا، ثم أخذه وأشار إليه أن يملأ قدحا آخر وقال لسعدون: «ألا تشرب يا ملفان؟»
قال: «إذا أمرني أمير المؤمنين أطعته، ولكنني لم أذقها قبل الآن والشراب لا يتفق وصناعتي.»
فقال الأمين للساقي: «دعه لا تسقه؛ إننا في حاجة إلى علمه وصناعته الليلة، وإذا جاءنا رسول فأوص صاحب بابنا أن يوصله إلينا حالا ولو في نصف الليل.»
فازداد سلمان رغبة في استطلاع ما يضمره الأمين، ولبث ينتظر ما يبدو منه، فشرب الأمين بضعة أقداح وسري عنه، فالتفت إلى سعدون وقال: «أتدري لماذا استبقيتك هنا دون سواك؟» قال: «كلا يا سيدي.»
قال: «لو أردت لكشفت سري لبعض خاصتي، ولكنني أصبحت لا أثق بأحد من أهل بطانتي بعد أن تكشفوا لي عن أعداء في ثياب الأصدقاء، وما منهم إلا من يطمع في مالي، ويكفيك مثلا منهم وزيري سبب هذا الخصام بيني وبين أخي؛ فإنه لما رأى اشتداد الأزمة خاف على حياته واختفى ولم يبال ما يهددني، وهكذا فعل كل رجال دولتي؛ فإنهم بقوا معي حتى أنفقت أموالي وبعت جواهري وآنيتي، فلما فرغت يدي تخلوا عني. وشدد الأعداء الحصار علينا فمنعوا الأقوات عنا.» وكأنه خاف أن تبدو جهشة بكائه فتناول قدحا وفاكهة يتشاغل بهما، وأعطى سعدون بعض الفاكهة وهو يقول: «ومن كان هذا شأنه مع رجال بطانته كيف يرجى فلاحه؟»
فاستبشر سعدون من شكواه وتحقق سقوط دولته، ولكنه تظاهر بالاستغراب وقال: «لا ييأس أمير المؤمنين، إن الله ناصره فليتوكل عليه.»
فقال: «طالما خدعتني الآمال، وصدقت المتملقين أهل الفساد حتى نزغ الشيطان بيني وبين أخي، فرأيت رجاله أثبت من رجالي وقواده أكفأ من قوادي ورجعت إلى رشدي، فإذا أحببت أن أصالحه لا أجد من يتوسط بيني وبينه، فها أنا ذا أطلعتك على سر ضننت به على أهل دولتي. وعلى أمي.»
فقال سعدون: «إني عند ثقة مولاي.» فقال الأمين: «لا أخفي عليك أني لما فرغت يدي من الرجال والمال وامتنع علي الخروج بعثت إلى هرثمة في البر الشرقي أطلب الأمان وأنا في انتظار الجواب، فهل أحسنت؟»
مقتل الأمين
أظهر سعدون الأسف للأمين، ثم رفع حاجبيه، وقال: «حسنا فعلت، وما في الأمان عار لا سيما أنك ستكون في أمان أخيك، والدم لا يتغير ولا يخون، ولكن ...» وسكت.
وكان الأمين يصغي لكلام سعدون وبيده تفاحة يقشرها، فلما رآه توقف قال: «ولكن ماذا؟»
قال: «لا أدري الحكمة في الاتصال بهرثمة دون طاهر، وهو صاحب الجند المحاصر لهذا الشطر من بغداد.»
فتنهد الأمين ورمى التفاحة من يده وقال: «لا، لا أتصل بطاهر؛ فإني أتطير منه وأكرهه، وقد رأيت في منامي كأني واقف على حائط من آجر شاهق عريض الأساس لم أر مثله في الطول والعرض، وعلي سوادي ومنطقتي وسيفي، وكان طاهر عند أساس الحائط فما زال يضربه حتى سقط وسقطت قلنسوتي عن رأسي فتشاءمت منه. أما هرثمة فإنه من موالينا وهو بمثابة الأب لي.»
فرقص قلب سعدون طربا لهذه البشرى وقال: «الأمر لمولانا.»
وفيما هما في الحديث جاء الغلام يقول: «إن رسول أمير المؤمنين بالباب.»
فقال الأمين: «يدخل حالا.»
فدخل الرجل متخفيا بثياب التجار، فوقف الأمين وقال له: «قل ما وراءك؟»
قال: «أأقول كل شيء؟» قال: «قل ولا تخش شيئا.»
قال: «لقيت هرثمة وعرضت عليه ما أمرتني به فقال: «السمع والطاعة.» ولكنه يرى أن يكون نزول أمير المؤمنين عنده في الليلة القادمة وليس في هذه الليلة و...»
وكان الأمين مقبلا على سماع الرسول، فلما سمع قوله أشار إليه أن يقعد وقال: «وماذا بعد ذلك؟ قل ولا تخف، ما الذي بعثه على تأجيل الذهاب؟»
فقعد الرجل وقال: «لأنه على ثقة من أن ذهاب أمير المؤمنين إليه يسوء طاهر بن الحسين، وهو قريب من هذا القصر، وإنما شدد الحصار رجاء أن يختار أمير المؤمنين الخروج بأمانه إليه فيفتخر بالفوز على يديه وله عيون مبثوثة في هذه الأطراف. وأخبرني هرثمة أنه شاهد على الشاطئ أمرا رابه؛ فهو حريص على حياة أمير المؤمنين.»
فأدرك الأمين أن طاهرا يهدده فقال: «بل أذهب إلى هرثمة. ولا بد من الذهاب الليلة لأني أصبحت وحيدا وقد تفرق عني الناس والموالي والحرس وغيرهم، ولا آمن أن ينتهي الخبر إلى طاهر فيدخل علي فيأخذني.»
ونهض وقد بان الانقباض في محياه، وأمر فجيء إليه بثياب بيض وطيلسان أسود فلبسها واعتم بعمامة خفيفة ثم أمر الغلام أن يأتيه بولديه، فوقف سعدون وسكت تهيبا واحتراما وقال للأمين: «أيأمر مولاي بخدمة أقضيها، فإن نفسي فداؤه.»
قال: «لا تفارقني حتى أخرج، إني أرى وحشة.» ثم جاءوه بولديه فضمهما إليه وودعهما وبكى وقال: «أستودعكما الله عز وجل.» ومسح عينيه بكمه ومشى إلى بغلة أعدوها له فركبها، وسعدون واقف إلى جانبه، فأشار إليه مودعا فقبل سعدون ركابه وقال: «سر في حراسة الله.» فأوصاه بأهله خيرا وخرج راكبا إلى الشاطئ، وكانت حراقة هرثمة في انتظاره هناك فنزل فيها فحول ربانها الدفة نحو الشاطئ. وكان في الحراقة هرثمة نفسه وجماعة من رجاله. فلما دخل الأمين قاموا له وجثا هرثمة على ركبتيه واعتذر إليه من نقرس في رجله، واحتضنه وضمه إليه وجعله في حجره ليؤنسه. وكانت ليلة باردة - لأنه خرج في مساء الأحد لخمس بقين من المحرم سنة 198ه، وهي توافق 28 سبتمبر سنة 863 - وأمر هرثمة النوتية أن يسرعوا في التجذيف فقد شاهد حركة على الشاطئ. وإذا بزوارق لطاهر كانت راسية هناك قد أسرعت إلى حراقة هرثمة ونقبوها ورموا فيها بالآجر والنشاب فدخل الماء إلى الحراقة فغرقت وسقط هرثمة والأمين إلى الماء فشق الأمين ثيابه وخرج إلى الشاطئ ونجا هو وهرثمة، فأركبوا الأمين حمارا وساروا به يطلبون مخبأ وهم لا يصدقون أنهم نجوا. •••
كان سلمان بعد ذهاب الأمين قد جعل همه أن يقتله؛ لأن في بقائه على قيد الحياة ما يجعل سبيلا إلى الصلح مع أخيه فلا يستفيد الفرس شيئا. فنزع عنه ثياب التنجيم وسبق الأمين إلى الشاطئ، وأخبر رجال طاهر بأن الأمين خارج الساعة إلى حراقة هرثمة فترقبوا قدومه، ولما رأوا الحراقة تتحرك أغرقوها كما تقدم، وكان سلمان معهم فنزل في جملة من نزل للبحث عن الأمين فرافق الذين فروا به إلى المكان الذي خبئوه فيه ثم رجع إلى بهزاد.
وكان بهزاد منذ وصوله إلى بغداد يحرض رجال الشيعة على الأخذ بناصر إخوانهم وفيهم جماعة الخرمية، ولكنه لم يظهر لطاهر، ولم يعلم طاهر به، على أنه كان يغتنم الفرص لمساعدة الجند كما فعل في واقعة الري، وكان نفوذه على الخرمية ببغداد عونا كبيرا لرجال المأمون حتى تضعضعت أحزاب الأمين وضعف أمره واضطر للتسليم. ولم يكن بهزاد يرى أن يأخذ الأمين أسيرا، وإنما كان همه أن يلتقي به في ساحة قتال ويبارزه ويقتله بخنجره ليتم وعده لأمه فيرجع إليها برأسه ظافرا غانما. وكان في أثناء إقامته ببغداد أو ضواحيها يجتمع بسلمان ويسأله عن ميمونة، فيطمئنه هذا لئلا يشغله داعي الغرام عن إتمام مشروعه. وإتمام هذا المشروع يهم سلمان كما يهم بهزاد، ولكن غرضه ومطمح أمله في خراسان وليس في بغداد.
قضى بهزاد مدة طويلة على هذه الحال حتى اشتد الحصار وبلغه حديث الناس عن الأمين، فتوقع قرب استسلامه. وفيما هو ذات ليلة في منزل أحد الخرمية بالكرخ وقد انتصف الليل ونزع ثيابه وعلق سلاحه فوق رأسه ونام، جاءه أحد الغلمان ينبئه بقدوم سلمان، فعلم أنه لا يأتيه في مثل ذلك الوقت إلا لأمر مهم، فنهض وأمر بإدخاله، فدخل سلمان وعليه ثياب لا هي لرئيس المنجمين ولا للخادم سلمان، ودلائل التعب بادية في وجهه، فصاح فيه: «ما وراءك يا سلمان.»
قال: «أبشر بالنصر.»
قال: «إني مستبشر به وواثق من الحصول عليه، ولكن ماذا حدث؟»
فقص عليه الحديث كله إلى أن قال: «فالأمين الآن مختبئ في بيت لبعض الناس على الجانب الشرقي، وقد تركته عريان وليس عليه من الثياب إلا السراويل والعمامة وعلى كتفيه خرقة خلقة، ومعه أحمد بن سلام صاحب المظالم لأنه لقيه في فراره عرضا. وسمعت الأمين يسأله عن اسمه، فلما عرفه استأنس به وقال له: «ضمني إليك فإني أجد وحشة شديدة.» فضمه إليه وكانت عنده مبطنة ألقاها عليه، ثم سمعته يقول له: «يا أحمد ما فعل أخي؟» فقال له: «هو حي.» فقال: «قبح الله بريدهم، كان يقول قد مات.» وأنا واثق بعلمه أنه حي، ولكنه ما قال هذا إلا استرضاء واعتذارا. فأجابه ابن سلام: «قبح الله وزراءك.» وسمعته يقول: «وما تراهم يصنعون بي، أيقتلونني أم يفون لي بأمانهم؟» فقال له: «بل يفون لك.» وقد كذب فأله.» وتنحنح سلمان، فأدرك بهزاد غرضه من ذلك فقال: «ماذا تعني يا سلمان؟ أترى أن ننكث عهد الأمان؟»
قال: «وهل تريد أن يبقى هذا الرجل حيا؟ فإذا حمل إلى أخيه وقع الصلح فيذهب سعينا عبثا؟ لماذا حملت هذا الخنجر معك من خراسان؟ ألم تذكر أنك نذرت أن تنتقم به لأبي مسلم وجعفر؟ فكيف تنتقم لهما؟ ها قد سنحت لك الفرصة والرجل في قبضة يدنا وفي قتله ختام فوزنا. أنتركه يفلت منا؟»
قال بهزاد: «أنت تعلم أني أول ناقم على هذه الدولة، وقد كرست حياتي لمناهضتها ونجحت في مسعاي والحمد لله. وأقصى رغبتي أن أقتل هذا الخليفة بيدي وبخنجري لأضيف رأسه إلى الرأسين اللذين تركتهما في مرو. نعم أريد أن أقتله في ساحة الوغى، أقتله متقلدا سلاحه بالمبارزة وليس غدرا وخلسة وهو أعزل خائف دخل في أماننا. أننكث ونحن إنما نقمنا على هذه الدولة لأنها نكثت العهود وغدرت ببعض رجالنا؟ والغادر تعود عاقبة غدره عليه.» قال ذلك وبانت الحماسة في عينيه. فتكدر سلمان من هذه الأريحية لأنه لم يكن يفهم مغزاها، وإنما هو رجل ماكر داهية يهمه تنفيذ مآربه لا يبالي ما يعترضه ولا يهمه ما يأتيه في سبيل ذلك من أساليب الكذب والمكر والغدر، لا يخاف ضميرا ولا يرعى ذماما؛ ولذلك اختاره صاحب الأمر بخراسان للعمل الذي تقتضيه هذه الخصال، على خلاف بهزاد؛ فإنه رئيس شريف وكل أعماله تؤيد ما طبع عليه من الأريحية وصدق اللهجة والبسالة .
فلما سمع سلمان إباءه لم يستغربه، ولكنه ندم على تكليفه ذلك وتظاهر بأنه اقتنع وقال: «صدقت يا بهزاد، بورك في بطن حملك.» وتناعس فنام ونام بهزاد وهو يفكر فيما انتهت إليه هذه المهمة وما عساه أن ينجم عنها. وبينا هو في رقاده في أواخر الليل إذ سمع خربشة فاستيقظ وفتح عينيه فرأى شبحا واقفا بجانب فراشه وهو يتطاول إلى الحائط، فنهض والتفت ولم يذعره ذلك وقال: «من هذا؟»
فرأى شيئا وقع من يد الرجل على الفراش فتوسمه فإذا هو خنجره والرجل سلمان، فقال: «ماذا تفعل يا سلمان؟»
قال: «لا أفعل شيئا، وقد فعلت ما أريده، وهذا خنجرك خذه.»
فمد يده إلى الخنجر فرأى عليه أثر الدم فقال: «ماذا فعلت؟ هل قتلت الرجل؟»
قال: «قتلناه لا أقامه الله، أكنت تريد أن يبقى عثرة في طريقنا؟ لقد مات واسترحنا منه.»
فصاح به: «ويلك! قتلته؟ وبخنجري؟»
قال: «لأن خنجرك موجود لهذا الأمر كما قلت، فأحببت أن أتحمل أنا ذنب القتل وأترك لك فضل الإباء والنزاهة والأريحية وكبر النفس.» وهز رأسه استخفافا وقال: «تريدون إنشاء دول لا نكث فيها ولا غدر، ولم نر صاحب دولة استغنى عن ذلك، ولولا أن غدر أبو مسلم الخراساني ما غلب، والمنصور لو لم يغدر به لم تثبت دولته، والرشيد لو لم يغدر بجعفر لكان في خطر على خلافته. بل ارجع إلى صدر الإسلام تر عليا وأبناءه لم يفشلوا في سياستهم إلا لأنهم توخوا الحق والوفاء وبالغوا في البعد عن الغدر والدهاء. ولو لم يمكر معاوية ويغدر لما استطاع أن ينشئ دولة ولا أقام سلطانا. وقد توارث العلويون حب الحق والتدقيق في الوفاء من علي فكان حظهم الفشل مثل حظه. ما أحوجنا نحن إلى الغدر الآن، على أني لم أكلفك ارتكاب هذه الجريمة فتحملت الذنب وحدي.»
فأعجبه اعتذاره وقال: «ومع ذلك، فإن الغادر تعود عاقبة غدره عليه، والتاريخ أصدق شاهد.» وسكت وقد سره التخلص من الأمين على يده ودون أن يتحمل وزر دمه فقال: «وكيف فعلتم؟ كيف قتلتموه؟ قبحكم الله!»
قال: «سرقت خنجرك وتزييت بزي جند الفرس، وأسرعت إلى المكان الذي تركت الأمين فيه وقد مضى نصف الليل والظلام شديد، فلقيت ببابه بضعة رجال من العجم وسيوفهم مسلولة، فاختلطت بهم ودخلت معهم على الأمين فوجدته قاعدا، ولما رآنا نهض قائما وقد أخذ الرعب منه مأخذا عظيما وقال: «إنا لله وإنا إليه راجعون، ذهبت والله نفسي في سبيل الله، أما من مغيث أما من أحد من الأبناء؟» أما نحن فظللنا داخلين عليه وكان بيده وسادة تترس بها وهو يقول: «ويحكم! أنا ابن عم رسول الله، أنا ابن هارون، أنا أخو المأمون، الله الله في دمي!» فخفت أن تدرك القوم رأفة فيفسد علينا أمرنا؛ فألححت على رجل أمامي كان سيفه مسلولا بيده وقلت: «عليك به.» فضربه بالسيف على رأسه فرماه الأمين بالوسادة فتقدمت أنا وطعنته بهذا الخنجر في خاصرته فكانت القاضية فصاح: «قتلني، قتلني.» فدخل بقية القوم فذبحوه من قفاه وأخذوا رأسه ومضوا به إلى طاهر وجئت أنا بالخنجر إليك. فإن كنت ترى أني أستوجب القصاص فاحكم علي.»
قال: «يظهر أن الرجل كان مقتولا لا محالة، ولكنك جعلت لخنجري أثرا في القتل حتى يصح النذر. رحم الله الأمين، وهنيئا لنا فقد انتهت مهمتنا.»
قال سلمان: «ونحن راجعون إلى خراسان غدا إذا شئت.»
قال: «ولماذا هذه العجلة؟»
فقال وهو ينظر إليه شزرا: «فرغت أنت من عملك وضمنت مستقبلك، وهذه ميمونة تحت أمرك لو مكثتما هنا أو في غير هنا فأنت مطمئن. أما أنا فلي مأرب في خراسان لم أتوثق منه بعد؛ لذلك أحببت الرجوع.»
قال بهزاد: «وميمونة؟ ألا تخرجها من المكان الذي حبستها فيه؟»
فضحك وقال: «صدقت، هي في قصر المنصور، وفي الغد أحملها إليك مع جدتها. ألا يكفيك ذلك؟»
قال: «بلى، وإني شاكر لك معروفك، وقد آن لنا أن نكون كالإخوة؛ فأنت أخي وصديقي منذ الآن، وقد انقضى زمن الخدمة بانتهاء هذه المهمة.»
فأثنى سلمان عليه، وباتا بقية ذلك الليل ونهضا مبكرين، فقال سلمان: «إني ذاهب لساعتي بلباس رئيس المنجمين حتى يسهل علي الدخول إلى قصر المنصور لإحضار ميمونة، وأنت ماذا تفعل؟»
قال: «أسير في ظلك أو أنت تسير في ظلي حتى لا نضيع فرصة.» قال: «حسنا.» •••
تزيا سلمان بزي رئيس المنجمين وركب بغلته، وركب بهزاد جواده وعليه القباء والقلنسوة والسراويل كأنه أحد كبراء الفرس. فمرا بأسواق الكرخ وقد لاح الفجر، وتحولا من ناحية باب الكوفة فهالهما ما شاهداه من ازدحام الأقدام، واستغربا كثرة ما يتساقط عليهما من الحصى التي كان العيارون يرمونها من الأسوار. وقبل وصولهما إلى الباب رأيا جماعات من الناس وفيهم أهل الأسواق فضلا عن الجند الخراساني يستبقون إلى البستان الذي كان طاهر معسكرا فيه، وإذا برأس مرفوع على قناة فعلم سلمان أنه رأس الأمين جاء به طاهر وغرسه على برج فوق حائط البستان. ولما رآه الناس سقط في أيديهم وهلعت قلوبهم، أو لعلهم فرحوا لانتهاء الحرب. ولما وقع نظر بهزاد على الرأس كبر واستعاذ بالله وقال: «سبحان الحي الباقي، اليوم سقطت دولة وقامت دولة أخرى. إذا عرف الفضل بن سهل الانتفاع بهذا النصر.»
فقال سلمان: «ماذا ترى طاهرا يفعل بهذا الرأس؟»
قال: «أظنه يرسله إلى المأمون في خراسان ومعه البردة والخاتم والقضيب، لتطمئن القلوب ويتحققوا النصر، ولينال طاهر جائزة كبيرة ويصبح المأمون الخليفة الوحيد.»
أما قصر المنصور فكان سلمان قد غادره بالأمس وأهله غافلون عما يجري في قصر الخلد، وكانت القهرمانة فريدة مشتغلة بشئونها فجاءها الحاجب يقول: «إن ابن الفضل بن الربيع بالباب يطلب أن يراك.» وكانت تعرف الفضل ومنزلته عند الأمين، فظنت ابنه قادما بأمر مهم فأذنت في دخوله. وكان قد مضى عليه وقت طويل وهو مختف مع أبيه، لكنهما لم يفارقا بغداد فكانا على بينة مما يجري فيها، فلما علم في ذلك المساء أن الأمر قد استفحل ولا تلبث بغداد أن تسقط في أيدي الخراسانيين، وكان يراقب حركات ميمونة ويعرف أمرها، أخذ يسعى جهده في الحصول عليها حتى ذهب إلى زبيدة في صباح الأمس وأقنعها بأنه يستطيع أن يستعلم منها عن محل بهزاد ولمح أنه يحبها، فقالت: «إذا استطعت معرفة مكان الرجل فإنها لك.» فطلب منها أمرا للقهرمانة أن تأذن في مقابلتها. ولما رأى اضطراب الحال أتى ببعض العيارين واستأجرهم لاختطاف ميمونة إذا لم تأذن القهرمانة بتسليمها وجاء إلى قصر المنصور.
فلما دخل على القهرمانة قابلته أحسن مقابلة، وسألته عما يريده فدفع إليها كتاب زبيدة، فتذكرت أن سعدون كان قد أوصاها بألا تأذن لأحد في إخراجها، فلم تر بأسا من أن يقابلها ابن الفضل فدخلت عليها وأخبرتها أن ابن الفضل يريد مقابلتها، وكانت جدتها عبادة معها فقالت: «لا حاجة لنا به.»
فقالت: «ولكنه جاءني بأمر من مولاتنا زبيدة.»
فلما سمعت عبادة ذلك الاسم اضطربت جوارحها وتشاءمت، وتوسلت إلى القهرمانة أن ترد عنهما هذا الشاب فلم تفعل.
فأقبل ابن الفضل على الغرفة وقد أنيرت بها الشموع وجلست ميمونة بثوبها الأسود وقد تغير لونها من توالي المصائب وأصابه شحوب زاده رقة، فدخل وهو يبتسم ابتسامة الاستعطاف وفي وجهه أمارات الحب؛ فحالما رأته اقشعر بدنها وظلت جالسة مطرقة فتقدم نحوها وحياها وقال: «ألا تعرفينني يا ميمونة؟»
قالت بنفور وجفاء وهي تحول وجهها عنه: «كلا.»
قال: «ألا تعرفين شابا يهواك إلى حد التلف؟ ألا تعرفين ابن الفضل؟»
قالت: «سمعت بهذا الاسم وذكره يؤلمني لأن أباه ألبسني هذا الثوب.»
فقال متلطفا: «وأنا أتكفل أن أعوضك منه ثوبا أبيض ومن أيامك السود أياما بيضاء كالثلج!»
قالت وهي تنظر إليه شزرا: «قد تعودت السواد ولم أعد أشتهي سواه.»
قال: «البسي ما تشائين وافعلي ما تشتهين، ولكن تعطفي على فتى يحبك حبا مبرحا. إني أحبك يا ميمونة ومن سوء الطالع أنك لا تحبينني.» قال ذلك وجثا بين يديها وأراد لمس يدها فجذبتها منه كأن عقربا همت بلدغها!
فوقف وقد شق عليه جفاؤها وقال: «جئت يا ميمونة أتوسل إليك باسم الحب، فإذا لم تشفقي على تذللي جئتك من سبيل آخر.»
فقالت: «لا أعرف لك سبيلا إلي، دعني وشأني وابحث عن سواي فإن النساء كثيرات.»
قال: «لم يقع اختياري على سواك، ويدلك على ذلك ثباتي في حبك رغم ما تظهرين من النفور. ألم يأن أن تتعطفي؟»
فتحولت عنه وقالت: «دعني يا رجل.»
فنهض وقال مهددا: «قلت لك إذا ظللت على هذا الجفاء عاملتك بالقسوة ولو شق علي ذلك.»
قالت وهي لا تنظر إليه: «لا تستطيع شيئا ونحن في قصر أمير المؤمنين.»
قال: «إني أستطيع حملك بالقوة؛ فإن معي فرقة من الجند وبيدي أمر من أم الخليفة.»
وكانت جدتها جالسة تسمع ما يدور بينهما فصاحت قائلة: «كنت أحسبك شهما يؤثر فيك الكلام. أما كفاك ما سمعته؟ دع الفتاة وشأنها. ولو كنت مكانك وعلمت أنها لا تحبني لتركتها وشأنها.»
قال: «يشق علي أن أفشل بعد الصبر الطويل؛ فإني أريد الآن أن أعلمها من أنا وأن مثلي لا يعامل هكذا وفي بغداد مئات من بنات الأمراء والقواد يتمنين رضاي.» والتفت إلى ميمونة وقال: «ارجعي إلى صوابك وثقي بأني أنصح لك فلا تلجئيني إلى القوة، إن فرقة من العيارين في انتظار أمري خارجا.»
فضاقت نفسها وتململت وصاحت: «ويلاه! أين الجند؟ أين الحرس؟» فنهضت جدتها وقالت لابن الفضل: «اكفنا أيها الشاب شرك ودعنا وشأننا. إذا كنت تعرف من نحن فاشفق علينا وكفانا ما قاسيناه من البلاء.»
وفيما هم في ذلك سمعوا جلبة في الدار، فظنت ميمونة أن العيارين دخلوا للقبض عليها فصاحت: «ويلاه يا ربي! إذا لم يكن قد انتهى حبل مصائبي فخذ روحي.» وطفقت تبكي ولم تتمالك لاضطرابها ولهفتها أن صاحت: «أين سلمان؟ أين بهزاد؟ أواه ما أشقاني!» وكانت جدتها في أثناء ذلك واقفة إلى جانبها تهون عليها والدموع تتساقط من عينيها.
أما ابن الفضل فعلم أن الضوضاء ليست من العيارين، فخرج ليرى سببها فسمع الخدم يقولون: «السيدة زبيدة أتت.»
فاستغرب الجميع مجيئها في تلك الساعة وقد مضى معظم الليل.
والسبب في مجيئها أنها بعد أن خرجت من قصر الخلد في ذلك المساء وهي على ما وصفنا من الخوف على ابنها، ذهبت إلى قصرها مبلبلة البال، وكأن قلبها دلها على الخطر القريب، فذهبت إلى الفراش ولم تنم. وبعد منتصف الليل أيقظتها قهرمانة قصرها فنهضت مذعورة وسألت عن الخبر فقالت القهرمانة: «إن بعض شاكرية قصر الخلد يسأل عن أمير المؤمنين.»
فصاحت: «يسأل عن ابني؟ يسأل عنه هنا، أين هو؟ إني تركته في قصر الخلد منذ ساعتين! أين الشاكري؟»
فأدخلوه إليها فقالت: «أين أمير المؤمنين؟»
قال: «لا نعلم يا سيدتي، وقد بحثنا عنه في كل مظانه بالقصر فلم نجده ولا نعلم أين هو.»
فنهضت والتفت بمطرفها وركبت إلى قصر الخلد وفتشت عنه هناك فلم تجده؛ فخطر لها أنه قد يكون ذهب في أمر وسيعود، فمكثت على مثل الجمر حتى كاد الفجر يلوح فحدثتها نفسها أنه دخل مدينة المنصور للامتناع في قصرها، فركبت إلى هناك وسألت عنه القهرمانة فذكرت أنها لم تره.»
فقالت زبيدة: «رأيت بالباب بعض العيارين، فمن أتى بهم إلى هنا؟»
قالت: «ابن الفضل، وقد جاءني بكتاب منك ليكلم الجارية ميمونة.» فلما سمعت اسمها اشتد غضبها وصاحت: «أين هي؟»
قالت: «هي في هذه الغرفة.» ولم تصبر زبيدة لتستقدمها إليها فتوجهت إلى الغرفة ودخلت فجأة وقد أخذ الغضب منها مأخذا عظيما، فلقيها ابن الفضل بالباب فتنحى، ودخلت فرأت ميمونة واقفة وجدتها عبادة إلى جانبها فلما رأت عبادة هناك لم تتمالك أن صاحت: «وأنت هنا أيضا؟ تبا لك من عجوز شقية. إنك سبب متاعبي وأصل بلائي، ما الذي جاء بك إلى هذا المكان؟»
فأطرقت عبادة وسكتت لأنها لم تجد وجها للكلام ولا عذرا للمجيء؛ فوجهت زبيدة خطابها إلى ميمونة وقالت: «والآن ألم يئن لك أن تقولي لنا عن مكان ذلك الشقي الخائن الذي تسمونه بهزاد، وقد علمت أنه في بغداد، وكل بلائنا منه؛ أين هو؟»
فقالت وصوتها يختنق من الخوف: «لا أعلم يا سيدتي؛ فأنا سجينة هنا لا يصل إلي خبر ولا أعرف من حوادث الدنيا شيئا.»
قالت: «أتكذبين والعلاقة بينك وبينه على يد خادم اسمه سلمان؟»
فقالت: «اسألي القهرمانة، إني لا أرى خادما ولا أميرا، بالله أشفقي علي يا سيدتي وكفاني ما أقاسيه.» وأغرقت في البكاء.
قالت: «أشفق عليك؟ لماذا؟ لو استطعت خنقك بيدي ما ترددت.» ثم التفتت إلى الخارج فرأت ابن الفضل واقفا فصاحت به: «خذ هذه الجارية فقد ملكتك إياها، افعل بها ما تشاء، وهذه العجوز النحس سوف أذيقها ما تستحقه.»
فلما سمعت عبادة قولها جثت بين يديها وقالت: «افعلي بي ما تشائين، وارفقي بهذه الفتاة فإنها بريئة من كل ذنب، قد تضرعت إليك في شأنها قبل الآن فرددتني، والآن أتوسل إليك - وأنت والدة وتعرفين حنو الأمهات - أن تترفقي بهذه الفتاة. وأما أنا فلا آسف على حياتي.»
فلما سمعتها تذكر حنو الوالدات أحست بشيء أوهن عزمها، لعلمها بما يهدد ابنها من الخطر ولا سيما في تلك الساعة؛ فقد أضاعته ولا تعلم أحي هو أم ميت.، ولكنها تجلدت لئلا يظهر الضعف عليها، فنهضت وتظاهرت بالغضب وقالت: «قلت لك إنه لا سبيل إلى خلاصها إلا إذا اعترفت بمكان بهزاد، وإلا فهي ملك لابن الفضل.» وأشارت إليه أن يأخذها.
بهزاد وميمونة
خرج ابن الفضل لينادي العيارين ليقبضوا على ميمونة ويحملوها قهرا، فسمع الخدم يقولون: «أتى رئيس المنجمين.» فأراد أن يراه ويخاطبه لعله يقنعها بالحسنى، فقيل له: «إنه عند السيدة زبيدة.» وكانت قد انفردت في القاعة الكبرى وأخذت تفكر فيما أحاط بها وما يهددها وقلبها خائف على ابنها. فدخلت القهرمانة وأخبرتها بقدوم رئيس المنجمين فقالت: «ادعيه إلي.»
وكان سلمان قد وصل إلى القصر مع بهزاد منذ هنيهة والمدينة قد سقطت وأهل قصر المنصور لا يعلمون. فلما أتيا وجدا في ساحته جماعة من العيارين فلم يبال سلمان وتقدم إلى الباب فرآه موصدا وسمع ضوضاء من الداخل، فقرعه فلم يجبه أحد، فبالغ في القرع فأطل عليه خادم من كوة فوق الباب وقال: «من الطارق؟»
فرفع سلمان بصره فرأى غلاما عرفه فصاح به: «افتح حالا.»
فعرف الغلام أنه رئيس المنجمين فأسرع وفتح الباب، فدخل ببغلته ودخل بهزاد في أثره إلى فناء القصر وترجلا وسلما الدابتين إلى الغلام، فرأيا أهل القصر في هرج والخدم يدخلون ويخرجون من باب القصر الداخلي، فقال رئيس المنجمين للغلام: «أين القهرمانة؟»
قال : «هي بين يدي مولاتنا زبيدة.»
فلما سمع ذلك تشاءم من وجودها فقال: «ادع لي القهرمانة الساعة. قل لها رئيس المنجمين يطلبك لأمر مهم.»
فمضى وعاد وهو يقول: «ادخل فإن السيدة زبيدة تطلبك.»
فالتفت إلى بهزاد وقال له: «لا شك أنها ستسألني عن ابنها وعن مكانه، وربما تسألني عنك، فهل أذهب إليها وحدي؟»
قال: «دعني أذهب معك.»
فقال سلمان للغلام: «قل للقهرمانة إن مع رئيس المنجمين رفيقا لا يدخل إلا معه.»
فعاد وقال: «ادخلا إلى القاعة.» فدخلا والغلام يمشي أمامهما إلى القاعة. فدخل أولا سعدون وحيا، ثم دخل بهزاد ولم تنتبه له زبيدة لاشتغالها عنه بهواجسها، وكانت قد تربعت ووضعت على حجرها وسادة أسندت إليها كوعيها وألقت رأسها بين كفيها. فحالما دخل سعدون رفعت رأسها وصاحت به: «ويلك؟ أين كنت وكيف أتيت في إبان الحاجة إليك؟»
ثم أشارت له بالقعود فقعد، وقعد بهزاد وهي لا تراه.
فقال سلمان: «كنت مجدا في البحث عن بهزاد حتى وجدته.»
فأبرقت أسرتها وصاحت: «وجدته؟ أين هو؟»
فأشار إلى بهزاد وقال: «هذا هو يا سيدتي.»
فدهشت وأجفلت وصعد الدم إلى وجهها، ونظرت إلى بهزاد وحدقت فرأت فيه جمالا وهيبة ووقارا، فلم تتمالك أن صاحت فيه: «أنت بهزاد؟»
قال: «نعم، أنا هو.»
قالت: «كيف تجرأت على المجيء إلينا؟ ألم تخف بطش أمير المؤمنين؟»
فقال بهدوء ورزانة: «لم أخفه حيا، فكيف أخافه ميتا؟»
فذعرت واقشعر بدنها ولطمت خديها وصاحت: «أمير المؤمنين مات؟ ابني محمد ... ماذا تقول؟ أتهزأ بي يا نذل؟»
قال: «كلا يا سيدتي، إني أقول الحق، ويسوءني أن يؤلمك هذا، ولكنك سألتني فلم أكذبك.»
فالتفتت إلى سلمان وهي تحسب نفسها في منام وقالت: «سعدون، قل الصحيح، قل أين أمير المؤمنين؟ أظن الرجل يهذي، أين ابني محمد؟ ولدي حبيبي، أين هو؟ قل.»
فأجابها بفتور: «رأيت رأسه معلقا على حائط البستان يا سيدتي، وقد قضي الأمر.» قال ذلك ونهض فلطمت زبيدة خديها بكفيها وصاحت وولولت. وسمع بهزاد في تلك اللحظة صوت ميمونة تستغيث وتقول: «آه، أين أنت يا بهزاد ؟ أنجدني، أنقذني.»
فوثب من القاعة ويده على خنجره وهو يقول: «لبيك يا حبيبة.»
فرأى جماعة من العيارين قد أمسكوا بشعرها وأخذوا يجرونها وابن الفضل واقف يقول: «خذوا هذه الخائنة.»
فما كان من بهزاد إلا أن استل خنجره وطعن ابن الفضل طعنة قضت عليه، وتحول إلى العيارين وصاح فيهم: «اخسئوا يا أنذال جاءكم بهزاد.» فلما سمعوا صوته ورأوا ابن الفضل مجندلا فروا هاربين. ولم تكن ميمونة تعلم بوجود بهزاد هناك، ولكنها لما يئست من النجاة ورأت ابن الفضل يأمر العيارين بجرها استغاثت على غير هدى، فلما رأت بهزاد ترامت عليه وأغمي عليها وأسرعت جدتها إليه وقالت: «من أين أتيت إلينا أيها الملاك؟ إني أخاف عليك من هؤلاء الأنذال.»
فقال: «لا تخافي يا سيدتي، إن بغداد في قبضتنا ورأس الأمين معلق على الحائط يراه الناس.»
فلما سمع أهل القصر ذلك ذعروا وأخذوا يتراكضون إلى زبيدة فرأوها في القاعة وقد حلت شعرها وأخذت في النحيب وهي تقول: «وا ولداه! قتلك البغاة الظالمون!»
فسمعتها عبادة تقول ذلك، فأثر قولها في نفسها فدخلت إليها، ولما رأتها في تلك الحال غلب عليها الحزن ورقت لحالها، فأكبت على يديها تقبلهما وتقول: «ارفقي بنفسك يا سيدتي، هذه إرادة المولى.» وتذكرت مصيبتها بابنها فشاركتها في البكاء.
وكانت زبيدة تتوقع أن تشمت عبادة بها، فلما رأت مجاملتها وسمعت بكاءها خجلت ونظرت إليها نظر الانكسار والذل، ولا يذل مثل الموت، وقالت: «صدقت يا أم الفضل (عبادة) لا يعرف قيمة الثكل إلا الذي ذاقه، أواه! يا ولداه! رحم الله جعفرا والرشيد ورحم الله محمدا ... مات؟ مات حقيقة؟ قتلوه؟ علقوا رأس ابني؟ بالله ارفقوا ببدنه الغض، إنه لم يتعود الشقاء، لا طاقة له بحر الشمس، كيف علقتموه؟ إنه لم يتعود غير الرفاه والنوم في الحرير، حرام عليكم، إنه شاب في مقتبل العمر، ألم يكن الأولى أن أقتل أنا ويبقى هو حيا، أنزلوه وعلقوني مكانه. صدقت يا أم الفضل، إنني لم أصغ لتضرعك لأني لم أكن قد ذقت الثكل ...» وأخذت في البكاء والنحيب، وطفقت تلطم وجهها وتخطر في القاعة ذهابا وإيابا على غير هدى حتى لم يبق أحد هناك إلا بكى، ثم اشتغل كل بنفسه.
أما بهزاد فلم يكن همه إلا ميمونة فحملها من بين الغوغاء وخفف عنها وهي تحسب نفسها في منام؛ تنظر إلى بهزاد ولا تصدق أنها تراه وقد جاءها في إبان الحاجة إليه فأنقذها من القتل. وبينما هي تمشي بالدار متكئة على ذراعه انتبهت إلى جثة ابن الفضل ملقاة على الأرض، فقالت لبهزاد: «إني آسفة لمقتل هذا الشاب، فقد كان يريد خيرا، ولكنه كلفني ما لا طاقة لي به، إن قلبي لا يحب غير بهزاد؟»
فقال بهزاد: «ولكنني رأيته ينتهرك ويهددك فلم أطق صبرا فقتلته. ما لنا وللناس، قد قضي الأمر، هلمي بنا، أين سلمان؟ هيا بنا.»
فجاء سلمان وأخذ بيد عبادة وأخذ بهزاد ميمونة، وخرجوا فركبوا دوابهم وانصرفوا وتركوا أهل قصر المنصور في مأتمهم.
وانتهى بمقتل الأمين ما كان من النزاع بين المتخاصمين، ودخلت بغداد في حوزة المأمون وأصبحت الخلافة له، ولكنه بقي في خراسان وأناب عنه في بغداد وغيرها الحسن بن سهل أخا الفضل، وكتب إلى طاهر بن الحسين بذلك.
أما بهزاد فلم يبق له عمل في بغداد، وأصبح راغبا في الرجوع إلى أمه بمرو ليبشرها بالفتح ويخبرها بحبه ميمونة لتباركه وتزوجه بها. وفي أصيل اليوم الذي خرج فيه من قصر المنصور ركب هو وميمونة وعبادة وسلمان يقصدون إلى خراسان، وميمونة لا تصدق أنها مع حبيبها، ولا ترتوي من النظر إليه، وكثيرا ما اشتاقت لمعرفة حقيقة حاله، وما هو نسبه، وماذا كان يحمل في ذلك الصندوق من أسرار، وهمت بأن تسأله أثناء الطريق فمنعها الحياء ووجود جدتها، على أنها عللت النفس بمعرفة ذلك عند وصولها إلى خراسان.
وكانت فاطمة والدة بهزاد وسائر أهل خراسان ينتظرون خاتمة الأحداث بفارغ الصبر، وقد قضوا في ذلك منذ توفي الرشيد بطوس نحو خمس سنوات، والفضل بن سهل وزير المأمون في خراسان يشير عليه ويدير شئونه وسماه المأمون ذا الرياستين.
فلما جاءهم البريد بمقتل الأمين وتسليم بغداد فرحوا واستبشروا، ثم أرسل طاهر رأس الأمين إلى المأمون ومعه البردة والقضيب والخاتم، فوصل الرأس إلى الفضل فأدخله للمأمون على ترس فلما رآه سجد. وقد تمكن الفضل مما أراده من تمهيد الأمور لإرجاع سلطة الفرس بظل الشيعة؛ إذ بايع المأمون بالخلافة بعده لعلي الرضا زعيم حزب الشيعة، وأمر الناس بترك السواد شعار العباسيين والاستعاضة عنه بلباس الخضرة؛ فكان لذلك وقع سيئ لدى العباسيين في بغداد وكاتبوا المأمون يعاتبونه ويهددونه. وكان الفضل يأخذ كتبهم ولا يطلع المأمون عليها لفرط دالته ونفوذ كلمته. •••
وصل بهزاد إلى مرو وقد نال ما يرجوه من ثمار سعيه وخطيبته معه، أما سلمان فقد قام بما عليه ولكنه لم ينل جزاءه بعد. فلما وصل بهزاد إلى مرو واستأذن سلمان بالذهاب إلى بيته مع عروسه، قال له سلمان: «أما أنت فقد فرغت من مهمتك، وأنا لا أزال أتوقع الجزاء.»
فقال بهزاد: «ستكون رئيسا لجماعة الخرمية، وقد أوصيت لك بذلك من قبل، ألا يقنعك هذا الجزاء؟»
قال: «كلا، وإنما أرجو شيئا آخر هو أهم عندي من الرياسة، فكن ساعدي فيه كما كنت ساعدك في مثله.» قال: «وما ذاك؟»
قال: «ألم أكن نصيرك في الحصول على ميمونة؟ فأنا أطلب الزواج ببوران بنت الحسن بن سهل، وإذا شاء عمها الفضل، فالأمر سهل، وأظنني أهلا لها بعد ما أتيته من المعجزات في نصرة هذه الدعوة.»
فأطرق بهزاد وأعمل فكرته في هذا الطلب، فلم يجده بعيد المنال، وتذكر ما دار بينه وبين الفضل في شأن بوران قبل عودته إلى بغداد، فرأى في تزويجها من سلمان فضا للمشكلة، فقال: «غدا ننظر في ذلك، ولكنني أطلب منك أمرا هو خاتمة أفضالك علي.»
قال: «وما هو؟» قال: «إني أحتاج إلى رأس الأمين. هل تحتال في إخراجه إلي من مدفنه سرا كما أخرجنا رأس جعفر ورأس أبي مسلم؟»
فأدرك سلمان غرضه، فقال: «ذلك شيء يسير، فانتظرني إلى الغد فآتيك بالرأس إلى منزلك .» وافترقا.
وسار بهزاد توا إلى بيت أمه فاطمة ومعه عبادة وميمونة وهو يخاف أن يكون قد دهمها الموت أثناء غيابه، فقرع الباب وهو مصيخ بسمعه فلم يجبه أحد، فخفق قلبه، فقرع ثانية فسمع وقع أقدام في الداخل، ثم فتح الباب وأطل الخادم الذي فتحه له في المرة الماضية وأنس في وجهه تغيرا وانقباضا، فابتدره قائلا: «كيف الوالدة؟»
فرحب به وقال: «في خير، ولكنها تشكو ضعفا من شدة شوقها إليك.»
فأوصى الخادم بأن يدخل الضيفتين إلى غرفة ترتاحان فيها، وأسرع ودخل على والدته فوجدها ملقاة على سريرها وقد غارت عيناها وبرزت وجنتاها وبان فيها الهرم المتناهي، فوقف بإزائها وحياها بصوت ضعيف وهو يخشى أن تكون قد ماتت.
فلما سمعت صوته أفاقت وفتحت عينيها وأدارت رأسها ببطء لشده الضعف وتبسمت تبسما لا رونق فيه، فجثا بجانب سريرها وأكب على يدها وقبلها، فأشارت إليه أن يدنو منها، فقبلت جبينه ونظرت إليه نظرة مستفهم، فقال: «قد جئتك يا سيدتي بما تريدين، فغلبنا القوم الظالمين، وقتلنا خليفتهم الغلام الغر، وأصبح ابن أختنا المأمون خليفة المسلمين، وغدا يكون الخليفة علي الرضا صاحب الشيعة، ثم تعود الدولة إلينا؛ فها أنا ذا انتقمت لجدي بخنجره كما أمرت.» ومد يده فأخرج الخنجر وأراها أثر الدم على نصاله وقال: «وانتقمت لجعفر بن يحيى.»
فبان السرور في وجهها وتنهدت تنهد مرتاح، وقالت بصوت متقطع: «بورك فيك يا بني، لقد نزعت العار عن قومك، وجبرت قلب أمك.» ثم تنهدت وتململت وهي تتجلد وتغالب الضعف، وقالت: «أين الرأس الثالث؟»
قال: «يكون هنا في صباح الغد وتدفن الرءوس الثلاثة معا.»
فرفعت يدها نحو السماء كأنها تدعو له، ثم لمست وجهه لتباركه فأحس ببردها وجفافها، كأن أصابعها من حديد بارد. وأومأت إليه فانحنى عليها فقبلته ثانية وهمست في أذنه بصوت لا يكاد يبين: «ادفنه معي غدا.»
فنظر إلى وجهها الشاحب الضئيل، فرأى في عينيها دمعتين تحاولان الانحدار، ولا تجدان مخرجا من المقلتين لشدة غورهما وهي مستلقية فتحقق قرب أجلها، فابتدرها قائلا: «لقد باركتني يا أماه ، فأتوسل إليك أن تباركي فتاة ستكون شريكة حياتي كما كانت شريكتي في المصائب.» والتفت فأشار إلى الخادم أن ينادي ميمونة وعبادة.
وكانت ميمونة قد سمعت بهزاد يسأل الخادم عن أمه ساعة وصولهم فعلمت أنها في المنزل وأصبحت مشوقة إلى معرفة نسبه، فلما جاءت لمشاهدة أمه ذعرت لما رأته فيها من الضعف والشيخوخة، وبان ذلك عليها وأدرك بهزاد ذعرها، فابتدرها قائلا: «طالما أحببت أن تعرفي نسبي، فاعلمي الآن أن هذه الراقدة أمي، وهي بنت أبي مسلم صاحب الدعوة، مؤسس الدولة العباسية الذي قتل غدرا، كما قتل أبوك، وليس في خراسان من يعلم أني حفيد ذلك البطل إلا سلمان الخادم وأمي، والناس يحسبونني ربيبها لأني ولدت بعد وفاة أبي، وادعت هي أني ربيبها وأوقفتني على الانتقام لأبيها وسمتني كيفر. وقد آن لي أن أخبرك أيضا عما في ذلك الصندوق، فاعلمي أن فيه رأس جدي ورأس أبيك.»
فلما سمعت ميمونة ذلك أجفلت وتغير لونها، فشغلها عن دهشتها بإتمام حديثه فقال: «وقد حفظتهما في الصندوق حتى أتيت برأس الأمين وهو ثالثهما، وسيؤتى به إلينا غدا ويدفن الثلاثة معا؛ فأكون قد وفيت نذر والدتي وزدت على ذلك أني أتيتها بابنة جعفر حبيبنا.»
وكانت فاطمة في أثناء ذلك مستغرقة في النوم لشدة ضعفها، فلما فرغ بهزاد من حديثه أمسك ميمونة بيدها وأدناها من سريرها وهو يقول: «هذه ميمونة بنت جعفر بن يحيى قتيل الرشيد، قد أسعدني الحظ بلقياها، وأحببتها وأحبتني، وقاست العذاب معي، وقد فرحنا معا، وهي ستكون زوجتي فباركيها.»
فرفعت يدها وأشارت إليها أن تدنو منها، فدنت فقبلتها ومسحت وجهها بكفها وتمتمت وأشارت إلى ثوبها الأسود وشفعت ذلك بإشارة النهي، ففهمت أنها تأمرها بنزع الحداد فأشارت مطيعة، ثم استقدم عبادة وكانت بجانبه، وقال لها: «وهذه أم الفضل والدة جعفر.»
فحدقت فيها مع شخوص بصرها وجموده وتكلفت الابتسام، كأنها تقول: «عرفتها.» فقالت عبادة: «نعم، إني أعرفك منذ صباي.» وانحنت عليها وقبلتها فلمستها فاطمة بشفتيها وقد أخذ منها الضعف مأخذا عظيما وأحست بضيق صدرها وسرعة تنفسها، فعلم القوم أنها في حالة النزع، ولكنها ما زالت مبتسمة ابتسام الفوز حتى فاضت روحها وهم ينظرون.
الخائن لا صديق له
وبعد أيام عقد لبهزاد على ميمونة، ثم بعث إلى سلمان فولاه رياسة الخرمية، فذكره سلمان بوعده بالتوسط لدى الفضل فأشار مطيعا. وفي اليوم التالي ركبا إلى بيت الفضل بن سهل، وكان الفضل قد بلغ أوج سعده بما أوتيه من التوفيق باستقلال المأمون بالخلافة، وبالوصية بها بعده لعلي الرضا، فأصبح الفضل الآمر الناهي تجري إرادته حتى على المأمون. فلما أنبأه الحاجب أن بهزاد وسلمان بالباب أمر بإدخالهما، وكان مجلسه غاصا بأصحاب الحاجات وفيهم الوجهاء والقواد إلا أخوه الحسن لأنه سار إلى بغداد. فلما دخل بهزاد رحب به الفضل ودعاه للجلوس إلى جانبه على السرير، وأشار إلى سلمان فجلس على كرسي بين الخاصة، فأخذ الفضل يسأل بهزاد عن سفره وما شاهده فأخبره أنه قادم من بغداد بعد أن شهد سقوطها فقال له: «وهل كنت فيها يوم مقتل الأمين؟»
قال: «نعم، كنت مع صديقي سلمان وشاهدنا رأس الأمين منصوبا على حائط البستان.» فضحك ضحكة الظافر وقال: «على الباغي تدور الدوائر.»
ثم شغل بقضاء مصالح الناس وسكت بهزاد ريثما ينفض المجلس، ولم يتم ذلك إلا بعد أذان الظهر، فانصرف الناس ولم يبق غير بهزاد وسلمان والفضل.
فنظر بهزاد إلى الفضل وقال: «يسرني أن أروي لك ما أتاه صديقي سلمان من المعجزات في أثناء هذه الوقائع؛ فإنه كان من أكبر العاملين في تنفيذ رغبات ذي الرياستين بعقله وسيفه.» فابتسم الفضل وقال: «سنكافئه بولاية عمل من الأعمال المهمة، أم تراه مثلك لا يرغب في المناصب؟»
فضحك بهزاد وقال: «إذا قلدته عملا فقد أسبغت عليه نعمك، ولكنني أحب أن ينال حظوة أخرى في عينيك يتشرف بها بين الأقران.»
فقال: «وما ذلك؟» قال: «أن تزوجه بابنة أخيك.»
فوجم الفضل ثم قال: «وأي بنات أخي تعني؟» قال: «بوران.»
فتراجع وتغير وجهه وهز رأسه وقال: «أيطلب هو ذلك؟»
قال: «بل أنا أطلبه له إذا شئت؛ فإنه من خير الرجال.»
قال : «يعز علي رد طلبك يا بهزاد؛ فإن بوران مخطوبة.»
فظن بهزاد لأول وهلة أنه يعني خطبتها له فأراد الاستفهام، فسبقه سلمان إلى الكلام وقال: «لمن؟»
فنظر الفضل إليه وقد امتعض من اعتراضه وقال: «مخطوبة لأعظم رجل في الإسلام اليوم.» فأدرك سلمان أنه يعني المأمون، وتحقق ذهاب العروس من يده فانقبضت نفسه وهاج غضبه وقال: «يلوح لي أن ذا الرياستين نسي وعده.»
قال: «أي وعد؟» قال: «ألم نتواعد على شيء؟»
قال وفي صوته جفاء وانتهار: «متى تواعدنا؟»
قال: «هل أقول ذلك الآن؟» قال: «قل ما تشاء.»
قال: «تواعدنا عليه لما كفرت بالمجوسية واعتنقت الإسلام رغبة في المناصب وتواطأنا على السعي في هذا السبيل، وأنت يومئذ لا تملك شيئا، وكانت بوران طفلة. أما الآن فقد تغيرت الأحوال وأصبحت ذا الرياستين وصاحب الأمر والنهي، فاذكر ما تعاقدنا عليه وأني قمت بما علي، فهلا قمت بما عليك؟» فظهر الغضب في وجه الفضل لما يتخلل كلام سلمان من التعريض والتلميح وقال: «لا أذكر شيئا من ذلك. ولكن ما رأيك، هل نرد خطيبها خائبا ونزفها إليك؟ وعلى كل حال فالأمر لوالدها وهو غائب.»
فوقع قوله في قلب سلمان وقوع السهم وامتقع لونه ورقص شارباه في وجهه وتحفز للنهوض، فرأى بهزاد تغيره فوقع في حيرة وأراد أن يستأنف الكلام فرأى الفضل يتناول مذبته ويتزحزح في مجلسه فعلم أنه يفض المجلس، فوقف بهزاد وسلمان وانصرفا بعد أن حياهما الفضل تحية فاترة. فلما خرجا أراد بهزاد أن يخفف من غضب سلمان فلم يدعه هذا يقول شيئا وهم بوداعه فقال بهزاد: «لا تغضب يا أخي، لعل للرجل عذرا مقبولا.» فأجابه وفي صوته خشونة الغضب: «لا عذر له، ولكنه دنيء الأصل لا يعرف قدر الرجال وسأريه عاقبة أمره.» ومشى مهرولا. وظل بهزاد واقفا حتى توارى سلمان عنه وهو يحسب لهذا التهديد ألف حساب. لعلمه أن صاحبه ذو كيد ومكر لا يثنيه عن الأذى ضمير أو عهد ولا يرعى ذمة أو جوارا.
أما سلمان فسار توا إلى قصر المأمون واستأذن في مقابلته فأذن له، فلما اختليا قال سلمان: «إني من موالي أمير المؤمنين، ويفرحني أن ما بذلناه في سبيل نصرته لم يذهب عبثا فمن الله علينا ببقائه وبالخلافة وهو خليق بها.»
فتوقع المأمون من وراء ذلك خبرا جديدا ولم يكن غافلا فاغتنم هذه الفرصة وقال: «إني شاكر لأخوالي الخراسانيين فإنهم أصحاب الفضل.»
فتظاهر سلمان بالتردد كمن يقدم رجلا ويؤخر أخرى فقال له المأمون: «قل ما بدا لك ولا تخف.»
قال: «أنا أعلم أني أستهدف للموت بما سأقوله، ولكنني أقوله رغبة في حفظ حياة أمير المؤمنين ودوام دولته، وأرجو أن يبقى قولي سرا عن كل إنسان.» فاهتم المأمون وقال: «أتوصيني بحفظ السر وقد قامت دولتنا به؟ قل سريعا. لا تخف.»
قال: «إن وزيرك الفضل بن سهل يوهمك أنه رد السلطة إليك وهو يدبرها لنفسه.» فخاف المأمون أن يكون الرجل مدسوسا من الفضل عليه فقال: «إن مثل الفضل أهل للتمتع بنفوذ الكلمة بعد الذي بذله في سبيلي.»
قال: «أرى مولاي يحاذر أن يظهر ما يجول في خاطره ورأيه الأعلى، ولكنني أقول إن الفضل إنما أراد السلطة لنفسه ليس لنفوذ كلمته فحسب، ولكنه يسعى في نقل الخلافة من العباسيين إلى العلويين لترجع إلى الفرس؛ ولذلك اشترط البيعة لعلي الرضا بعد أمير المؤمنين.»
فانتبه المأمون لمساعي الفضل في هذا الشأن، ولم يكن غافلا عنها من قبل، ولعله اضطر إليها رغبة في التغلب على أخيه، فقال: «ولكنني بايعت لعلي الرضا مختارا لأني لم أجد في بني العباس من هو أهل للخلافة.»
قال: «وهل تضمن أن يكون بنو علي أهلا لها ... وهب أنك فعلت ذلك مختارا، فهل تضمن أن يصبر الفضل على نقلها حتى يستوفي أمير المؤمنين حظه منها؟ اعذر صراحتي يا أمير المؤمنين، وأنا واثق من بقاء هذا سرا، ولا أطلب إلا الحذر من هذا الرجل على حياتك ثم على دولتك.»
فأطرق المأمون وقد جالت في خاطره خواطر كثيرة وحدثته نفسه بأمور سكت عنها واكتفى بقوله: «وما الحيلة؟»
فاستبشر سلمان بهذا السؤال وقال: «إذا عهد أمير المؤمنين في ذلك إلي فإني أنقذه بجرعة عسل أو شربة ماء.»
فأعظم المأمون جسارة هذا الرجل وقال في نفسه: «إن وجود مثل هذا الغادر خطر على أعدائه وأصدقائه؛ لأنه بعد أن بذل نفسه في خدمة الفضل أصبح يسعى في قتله؛ فلا بد لذلك من سبب حمله على التغير، ولا يبعد أن يحدث ما يغيره على سواه.» لكنه رأى فيه عونا على التخلص من الفضل، فسكت هنيهة ثم قال: «سننظر في ذلك.» واكتفى سلمان بهذا الجواب لعلمه أنه لا يجيبه على اقتراحه جوابا صريحا لأسباب يعرفها مثله.
وتحرك المأمون فخرج سلمان ولبث المأمون بعد خروجه يفكر فيما سمعه وهو يخاف أن يكون قد جاء جاسوسا من قبل الفضل، فعزم على استطلاع رأي الفضل خلسة.
وفي ذلك المساء جاء الفضل إلى المأمون على عادته وقد أنبأه جواسيسه بدخول سلمان على المأمون في ذلك اليوم، فظنه جاء ليوسطه في شأن بوران ولم يخطر بباله أنه يجيء للوشاية به في أصل مشروعه لما في ذلك من الإيقاع بالفرس كافة. وتعمد المأمون الخلوة بالفضل وتبادلا الأحاديث المتنوعة حتى ذكر سلمان فقال المأمون: «قد بلغني عن هذا الرجل أعمال أتاها في بغداد يمدح عليها.»
فقال الفضل: «نعم يا سيدي، قد أعان حزبنا بمساع أساسها المكر والخيانة وقد أفادتنا، ولكنه كبير المطامع.» قال: «لا بأس من تقليده منصبا.»
فابتسم الفضل وقال: «عرضت عليه ذلك فرأيته طامعا فيما يقصر أمثاله عن نيله. ولو علم أمير المؤمنين بمطمعه لاستغربه.» قال: «وما هو؟»
قال: «إنه طامع في بوران ابنة أخي، ولما قلت له إنها مخطوبة غضب كأنه أولى بها من أمير المؤمنين.» وكان المأمون قد خطب بوران من أبيها سرا.
فأدرك المأمون سر الخلاف وعلم أن الرجل لم يبح بسر الجماعة إلا انتقاما، ولم يفت المأمون إطلاع الفضل على مجيء سلمان، فأحب أن يذهب خوفه من تلك الزيارة فهز رأسه احتقارا لسلمان وسكت، وترك المسألة وأظهر الاستغراب لما سمعه وغير الحديث، فانصرف الفضل وهو مقتنع بأنه أوغر قلب المأمون على سلمان . •••
ولبث المأمون بعد ذلك يراقب ما يبدو من الفضل ليتحقق ما بلغه حتى جاء علي الرضا ذات يوم لزيارته وهو ولي عهده على الخلافة، فرحب به وجرى الحديث بينهما فقال علي: «إنما جئتك لأنبئك بما يخفيه وزيرك الفضل عليك.»
قال: «وما ذاك؟» قال: «إن أهلك في بغداد لما علموا أنك بايعتني بعدك نقموا عليك أشياء وقالوا عنك إنك مسحور مجنون، وبايعوا إبراهيم ابن عمك المهدي مكانك وخلعوا بيعتك لاعتقادهم أنها ستئول بعدك لي.»
فاستغرب المأمون ذلك لأنه لم يكن بلغه فقال: «لم يبلغني شيء من ذلك.»
قال: «لأن وزيرك الفضل يتناول أخبار البريد ويخفيها عليك رغبة في منافعه.» فشكر المأمون لعلي حرية ضميره وقال: «أذكر أن الفضل قال لي إن أهل بغداد أقاموا إبراهيم بن المهدي أميرا عليهم لا خليفة.»
قال: «إن الفضل قد كذبك. والخلاف قائم الآن بين الحسن بن سهل وبين إبراهيم، والناس ينقمون عليك مكانه ومكان أخيه الفضل، ومكاني ومكان بيعتك لي من بعدك.» فقال المأمون: «ومن يعلم هذا؟»
فسمى له رجالا اطلعوا على ذلك فاستقدمهم المأمون، وسألهم بعد أن أعطاهم الأمان من الفضل وكتب لهم خطه به، فأخبروه بالبيعة لإبراهيم بن المهدي، وأن أهل بغداد قد سموه الخليفة السني، وأنهم يتهمون المأمون بالرفض لمكان علي منه. فلما سمع المأمون ذلك أثنى على علي وصرفه، ولما خلا بنفسه أخذ يفكر في أمره فصمم على قتل الفضل، ولكنه خاف من بقاء علي الرضا وليا للعهد، وأنه إذا لم يقتل ظل موقفه حرجا.
وبلغ سلمان ما كان من علي وما قصه على المأمون، فعلم أن التمرة قد نضجت، فدخل على المأمون في خلوة فلمح له المأمون تلميحا فهم مراده منه، وانصرف يعد المكائد ويغتنم الفرص.
وسافر المأمون إلى بغداد سنة 202ه، فلما وصل إلى سرخس وثب قوم على الفضل في الحمام فقتلوه، وكان ذلك بمساعي سلمان، فحاكم المأمون الذين وثبوا عليه وقتلهم، وبعد أن وصل المأمون إلى بغداد بقليل شاع مقتل علي الرضا بأكلة عنب مسموم، وتحدث الناس أن المأمون دس له ذلك العنب، وإنما دسه سلمان.
فنجا المأمون بذلك وظلت الخلافة في أهله، ولكنه ظل خائفا من سلمان فدس إليه من قتله خوفا من انقلابه عليه، فمات جزاء غدره فصح فيه قول بهزاد: «إن الغادر تعود عليه عاقبة غدره.»
أما بهزاد فلم يعد يرى سلمان منذ افترقا يوم خروجهما من عند الفضل، ثم بلغه مقتل الفضل بن سهل وعلي الرضا فأسف لضياع مساعيه في نقل السلطة إلى الفرس، ولكنه تعزى بما وفق إليه من الانتقام لجده وحميه، وعاش مع عروسه في راحة والناس لا يعرفون أنه حفيد أبي مسلم وأنها ابنة جعفر البرمكي. ثم بحث عن سلمان فعلم أن المأمون قتله خوفا من غدره، فقال في نفسه: «ذلك جزاء الخيانة وعاقبة الغدر.»
أما المأمون، فبعد أن جاء بغداد تزوج ببوران بنت الحسن بن سهل ترضية لأبيها عما لحق بأخيه؛ فإن سبب قتله لم يخف عليه. ولزفاف بوران احتفال محفوظ في بطون التاريخ.
صفحه نامشخص