فكلما هبطا من شأوٍ شوطهما ... من الأماكنِ مفعولٌ به العجبُ
لا يأمنانِ سباعَ الأرضِ أو بردا ... إن أظلما دون أطفالِ لها لجبُ
جاءت من البيضِ زعرًا لا لباسَ لها ... إلاّ الدَّهاسُ وأمٌّ برَّةٌ وأبُ
فكأنَّما فلقتْ عنها ببلقعةٍ ... جماجمٌ يبَّسٌ أو حنُظلٌ خربُ
مما تقيِّضَ عن عوجٍ معطَّفةٍ ... كأنَّها شاملٌ أبشارها جربُ
أشداقها كصدوعِ النَّبعِ في قللٍ ... مثل الدَّحاريج لم ينبتْ بها الزَّغبُ
كأنَّ أعناقها كرَّاثُ سائفةٍ ... طارتْ لفائفهُ أو هيشرٌ سلبُ
خبر الفرزدق والغلام الأنصاري
وحدثوا عن إبراهيم بن محمد بن سعد بن أبي وقاص، أنه قال: قدم الفرزدق بن غالب بن صعصعة المدينة، قال: فإني والفرزدق وكثيِّر عزة لجلوس في المسجد نتناشد الأشعار وتذكر أيام العرب، إذ طلع غلام شخت آدم في ثوبين ممصرين، ثمَّ قصد نحونا حتَّى انتهى إلينا، فلم يسلم وقال: أيكم الفرزدق؟ قال إبراهيم: فقلت له مخافة أن يكون من قريش، وهكذا تقول لسيد العرب وشاعرها، قال: لو كان كذلك لم أقل له هذا، قال له الفرزدق: من أنت لا أم لك؟ قال: رجل من الأنصار، ثمَّ من بني النجار، ثمَّ أنا ابن أبي بكر بن حزم. قال: أنا الفرزدق فما حاجتك لا أم لك؟ قال: بلغني أنك تزعم أنك أشعر العرب، وتزعمه مضر، وقد قال صاحبنا حسان بن ثابت شعرًا فأردت أن أعرضه عليك، وأؤجلك فيه سنة، فإن قلت مثله فأنت أشعر العرب، وإلا فأنت كذاب متنحل. قال الفرزدق: هات ويلك، فأنشده قول حسان:
ألمْ تسألِ الرَّبعَ الجديدَ التكلُّما ... بمدفع أشداخِ فبرقةَ أظلما
لنا الجفناتُ الغرُّ يلمعنَ بالضُّحى ... وأسيافنا يقطرْنَ من نجدةٍ دما
متى ما تزنَّا من معدِّ بعصبةٍ ... وغسَّانَ نمنعْ حوضنا أن يهدَّما
أبى فعلنا المعروفَ أن ننطقَ الخنا ... وقائلنا بالعرفِ إلاّ تكرُّما
ولدنا بني العنقاءِ وابنيْ محرَّقٍ ... فأكرمْ بنا خالًا وأكرمْ بذا ابنما
حتَّى أتى على آخر القصيدة، وقال: إني أجلتك فيها حولًا، ثمَّ انصرف، وقام الفرزدق مغضبًا يسحب رداءه لا يدري أين طرفه، حتَّى خرج من المسجد، وأقبل على كثير عزة فقال: قاتل الله الأنصاري، ما أفصح لهجته وأوضح حجته. قال: فلم نزل في حديثهما بقية يومنا، حتَّى إذا كان الغد خرجت من منزلي إلى المسجد، فجلست في المجلس الذي كنت فيه بالأمس، وأتاني كثير فجلس معي فإنا لنتذاكر الفرزدق ونقول: ليت شعري ما فعل الفرزدق، إذ طلع علينا في حلة أفواف، له غديرتان حتَّى جلس في مجلسه بالأمس، ثمَّ قال: ما فعل الأنصاري؟ فنلنا منه وشتمناه، فقال: قاتله الله، ما رميت بمثله، ولا سمعت بمثل شعره قط، فارقتكما فأتيت منزلي، وأقبلت أصعد وأصوب في كل فن من الشعر، فكأني مفحم لم أقل شعرًا قط، حتَّى إذا نادى المؤذن بالفجر، رحلت ناقتي، ثمَّ أخذت بزمامها فقدتها حتَّى أتيت ذبابًا، ثمَّ ناديت بأعلى صوتي: أجيبوا أخاكم أبا لبينى، فجاش صدري كما يجيش المرجل، فعقلت ناقتي، ثمَّ توسدت ذراعها، فلما قمت حتَّى قلت مائة وثلاثة عشر بيتًا، فبينا الفرزدق ينشد إذ طلع الأنصاري، فأقبل نحونا حتَّى إذا انتهى إلينا سلم ثمَّ قال: أما إني لم آتك لأعجلك عن العجل الذي وقت لك، ولكني أحببت ألا أراك إلاّ سألتك ما صنعت، فقال له الفرزدق: اجلس لا أم لك، ثمَّ أنشده:
عزفتَ بأعشاشٍ وما كدتَ تعزفُ
فلما فرغ منها قال له: قد سمعت، لا أم لك، فأنت وما سمعت، فقام الأنصاري كئيبًا. فلما توارى طلع علينا أبوه، أبو بكر بن حزم في مشيخة من الأنصار، فسلموا علينا فقالوا: يا أبا فراس، إنك قد عرفت حالنا ومكاننا من رسول الله ﷺ، ووصيته بنا، وقد بلغنا أن سفيهًا من سفهائنا تعرض لك بما نحن والله له كارهون، وبك وعنه متنزهون، فنحن نسألك بالله لما حفظت وصية رسول الله ﷺ، فينا ووهبتنا له، ولم يكن منك مالا يجمل بك.
قال إبراهيم: فأقبلت أنا وكثير نكلمه، وتكلم الناس من نواحي المسجد: يا أبا فراس، فلما أكثرنا عليه قال: فإني وهبتكم لهذا القرشي، يعني إبراهيم بن محمد.
والقصيدة قصيدة الفرزدق
1 / 75