وقد قال أبو الحسن الأخفش في قول الله تعالى:) فالمُلقياتِ ذكرًا عذرًا أو نُذرا (، النُّذر والنَّذير، كالنُّكر والنَّكير، في أنها مصادر، فعلى هذا العذر والعذير، وإذا كان كذلك، فمعنى عذيرك من فلان: أقم معذرتك منه، وهات معذرتك، فإن قال قائل: كيف فسر الخليل: من يعذرني من فلان، على أن معناه: لُمْ فلانًا ولا تلمني، قلت: كان فلان الكذوب عامله بما استحق به لومًا، واقتضى مؤاخذة المتكلم إياه به ومحاسبته عليه، فخاطب الفتى فقال: من يعذرني من فلان، أي من يبسط عذري من أجل فلان الذي استحق اللوم فيما يعاملني به، كأن ذاك لا عذر له، وهذا إذا عاقبه كان معذورًا، وفي لوم المخاطب لذلك بيان عذر هذا، فقال: من يعذرني منه، وكذلك قوله: حتَّى يعذروا من أنفسهم، لأن في رجوعهم على أنفسهم باللوم بيان عذر الله ﷻ في مؤاخذتهم ومعاقبتهم، وعلى هذا قول عمرو:
أريدُ حِباءهُ ويريد قتلي ... عذيرك من خليلك من مرادِ
لأنك إن جعلت عذيرك في معنى عذارك، أو جعلته في معنى معذرتك، فالطريقة واحدة في أن المعنى: اطلب من يعذر منه، أو هات المعذرة منه، ومعنى العاذر منه، من يبسط عذري ويلحق اللوم به لذلك تمثل أمير المؤمنين صلوات الله عليه بالبيت، لأنه أراد أني أختار الخير لمن يكايدني وهو يبغي الغوائل، فمن يعذرني منه، أي من يبسط عذري ويلحق اللوم به إذا تنكرت له، فإن قيل: ما الفصل بين ما اخترته في تفسير: من يعذرني من فلان، من يبسط عذري في احتمالي فلانًا على ما أحتمله عليه، فحقيقة الكلام وصوابه تضيق عذر نفسه، ويكون الاستفهام على وجه الإنكار، كأنه أراد: لا عذر لي فيما آتيه معه من الحلم والإغضاء مع إصراره على ما يسوؤني، وإذا فسِّر على أن المعنى: لُمْ فلانًا ولا تلمني، فحقيقته نفي المعذرة لفلان وإقامتها لنفسه فيما سيأخذ به وفيه من معاقبته بعد ذلك، وإذ تأملت الطريقتين، بان لك الفضل وصح.
مسألة إعراب
سأل بعضهم عن الفصل بين قول القائل: أنت أفْرَهُ عبدًا وعبيدًا، وبين قوله: أنت أفْرَهُ عبدٍ والعبيد، والجواب: أن معنى: أنت أفره عبدًا، أنت تزيد فراهة عبدك على غيرها، فالفراهة أفره عبيدًا، إذا كثر عبيده، وإن كان قولك عبدًا للجنس إزالة التوهم أن له عبدًا واحدًا، قال الله ﷿:) قلْ هل أنبئكمْ بالأخسرينَ أعمالًا (، تنبيهًا على أن زيادة خسرهم في أعمال مختلفة الأجناس لا في جنس واحد، فإن قلت: أنت أفرهُ عبدٍ، فالمخاطب من العبيد، والمعنى: أنت أفره من كل عبد، إذا أفردوا عبدًا عبدًا، وكذلك لو قلت: أنت أفرَهُ العبيد، لأن المعنى: أنت مقدم في العبيد، فإن نكَّرت العبيد لم يجز بوجه.
مسألة في التنزيل
قوله تعالى:) أصحابُ الجنَّةِ يومئذٍ خيرٌ مستقرًّا وأحسنُ مقيلا (، سأل بعضهم فقال: إذا كان أفعل في باب التفضيل موضوعة بأن جيء لتفضيل واحد على جماعة هو فيها، فكيف مورد الآية وأهل الجنة لا مشاركة بينهم وبين أهل النار في شيء يقع فيه التفضيل.
اعلم أن الفرَّاء قال في هذا: أهل الكلام إذا اجتمع لهم أحمق وعاقل، لم يستجيزوا أن يقولوا: هذا أحمق الرجلين، ولا أعقل الرجلين، ويقولون: لا نقول هذا أعقل الرجلين إلاّ لعاقلين، يفضل أحدهما على صاحبه، وقد سمعنا قول الله تعالى:) خيرٌ مستقرًّا (فجعل أهل الجنة خيرًا مستقرًا من أهل النار، وليس في مستقر أهل النار شيء من الخير، فأعرف ذلك من خطابهم، انتهى كلام الفراء، والطريقة في الآية أن المراد أصحاب الجنة أزيد استقرارًا في الخيرية من أن يوازنوا وأنفع مبادلة من أن يكايلوا، وهذا على التفخيم لأمرهم، والتعظيم لشأنهم، فأما تفضيل أحد الشيئين على الآخر، وادِّعاء الزيادة له في معنى لا يحصل في الآخر منه شيء البتة، فبعيد في العرف والعقل جميعًا، لارتفاع اللُّبس منه، وظهور الحال فيه، وسقوط الفائدة في الإخبار به، ألا ترى أن قائلًا لو قال: العسل أحلى من الصبر، أو الخل أحمض من السكر لاستُخفَّ خبره، إذ لم يكن في الصبر حلاوة بوجه من الوجوه، فيقال بفضلها حلاوة العسل، ولا في السكر حموضة فيدعي أن حموضة الخل أزيد منها، فاعلمه.
مسألة من الأبنية
1 / 18