امید و آرمانشهر در فلسفهی ارنست بلوخ
الأمل واليوتوبيا في فلسفة إرنست بلوخ
ژانرها
ظهرت في هذا الكتاب المبكر فكرة بلوخ عن حركة التاريخ نحو مملكة الحرية التي تتحقق فيها هوية الإنسان مع ذاته ومع العالم الذي يعيش فيه، بحيث تصبح ذاته هي كل إمكاناته، كما يصبح العالم وطنه. وهذه الفكرة نفسها هي التي جعلت فلسفته التاريخية في تلك الفترة ذات طابع ديني؛ إذ أنه وضع الكل والغاية الممكنة على شكل متعال يتحرك التاريخ البشري نحوه متخطيا الهنا والآن - بلغة هيجل في ظاهريات الروح التي يكثر بلوخ من استخدامها - فكأن فكرة الخلاص كانت تمتد عنده منذ البداية إلى العالم المادي والمادة غير العضوية، كما تمتد إلى تحرير الإنسان من كل أنواع القهر والحتمية المادية الطبيعية وغير الطبيعية، بحيث يتحقق الخلاص في «الجماعة الشيوعية الحرة» التي ظلت هي هدفه من البداية إلى النهاية، أي منذ أن كان ثوريا عاطفيا في شبابه إلى أن أصبح اشتراكيا علميا إلى حد كبير في رجولته، وإن كان يتهم بأنه ظل اشتراكيا إنسانيا حالما ولم يصل أبدا إلى الاشتراكية بالمعنى العلمي.
وتسري في هذا الكتاب الذي وضعه بلوخ أثناء الحرب العالمية الأولى روح دينية وصوفية تمتزج فيها نزعته الاشتراكية مع التبشير بالخلاص في لحن جياش عالي الصوت، وتهيب بالإنسان أن يجد نفسه، كما تدعو الأنا إلى الاتحاد الصوفي بالوجود الكلي. وقد استخلص بلوخ من النزعة الاشتراكية والتصور الديني ومن التراث الصوفي تصوفا جديدا يمكن وصفه بأنه تصوف دنيوي أو علماني، يدعو إلى الخلاص الأخير، ويبحث عن نهاية التاريخ، ويصرخ بأن العالم لم يكتمل بعد. وتعود أهمية هذا الكتاب إلى أنه حارب اتجاهين في الفكر الفلسفي والسياسي المعاصر، أحدهما هو جمود الفلسفة الأكاديمية واقتصارها على تدريس كانط، والآخر هو الاشتراكية الديمقراطية للطبقة الوسطى أو البرجوازية الألمانية الصغيرة التي اعتبرت أن الإنسان مجرد ملحق أو هامش للأساس الاقتصادي الذي يتحرك بقوته الذاتية. وقد امتدت جذور الاتجاهين في شباب بلوخ المبكر،
14
كما عكس الكتاب اهتمامه المبكر بالتفكير المستقبلي، وانطوى على بذور ميتافيزيقا جديدة. والواقع أن الكتاب متأثر بروح الحركة التعبيرية في أسلوبه ومضمونه وعاطفته ورؤيته العامة، غير أن هذه النغمة التعبيرية العالية تراجعت بالتدريج لتحل محلها لغة فلسفية أكثر دقة وتجريدا في كتاباته التالية، وإن لم يستطع بلوخ أن يتخلص نهائيا من تأثير الحركة التعبيرية التي ظل متمسكا بها، بل ومدافعا عنها حتى النهاية. وإذا كانت الذات الفردية هي التي طغت على «روح اليوتوبيا» فإن الذات الجماعية هي التي ستحل محلها وتؤكد نفسها بعد هذا الكتاب.
وفي عام 1921م صدر كتاب «توماس مونتسر، لاهوتي الثورة» وهو عن زعيم الحركة الشعبية المتمردة في ألمانيا، الذي أعدم عام 1525م بوصفه قائد الفلاحين الثائرين ضد الأمراء في منطقة التورنج. وتغلب على الكتاب فكرة الخلاص التي سيطرت على بلوخ طوال حياته، لقد صور شخصية مونتسر في هذا الكتاب وكأنه نبي من أنبياء العهد القديم. والحقيقة أن تصويره لمونتسر يمكن النظر إليه على أنه تصوير لشخصه هو نفسه، فقد استعمل بحرية لغة الكتاب المقدس، ونطق على لسانه بأسرار التراث الصوفي، وجعله ينادي بالخلاص وإن لم يكن هو الخلاص بالمعنى الديني المتعالي ولا المفارق لهذا العالم، وإنما هو «نبي الخلاص الأرضي» وهدفه هو الحرية وتحرير الإنسان.
ويعد هذا الكتاب قراءة ماركسية جديدة للتاريخ؛ إذ قدم فيه بلوخ تفسيرا جديدا لمونتسر وثورة الفلاحين الألمان في عهد الإصلاح الديني. ولا ترجع أهمية هذا التفسير فقط إلى وقوفه في وجه النقد اللوثري والكاثوليكي لمونتسر، بل إلى أنه يعد دفاعا - له دلالة خاصة من ماركسي جديد - عن الأبعاد الدينية للتغير الاجتماعي، وعن الدور الأساسي الذي يؤديه الخيال الديني في الرؤية الثورية لمونتسر. لم يبد بلوخ اهتماما بسرد الحقائق التاريخية ولم يقدم تفاصيل لأحداث تاريخية، بل استخدام دراسته لمونتسر كنموذج مثالي لثورية الوعي الطبقي وامتزاج العامل الاقتصادي بالخيال الديني والواقع السياسي والأحلام وكيف يتفاعل كل منها مع الآخر. وقد أثارت معالجة بلوخ لأهمية بصيرة مونتسر الدينية في الإصلاح؛ أثارت مشكلة استخدام التاريخ واللاهوت لأهداف سياسية، كما جذبت الانتباه إلى أهمية دور الدين في حركات التغير الاجتماعي.
15
يضاف إلى ما سبق أن هذه المعالجة تكشف عن محاولة بلوخ إيجاد جذور تاريخية لأفكاره الاشتراكية واليوتوبية، كما ترسم صورة لرؤيته للتاريخ باعتباره محددا من جهة المستقبل كما هو محدد من جهة الماضي. وليس توماس مونتسر مجرد شكل بطولي أو نموذج من الماضي، ولكنه يمثل نضال البشرية من أجل التحرير وخلق سماء جديدة وأرض جديدة وفي سبيل مستقبل مفتوح لم ينته أبدا. وقد استهل بلوخ كتابه بهذه العبارة ذات المغزى، «لا نريد أن ننظر إلى الوراء. ولكننا لا نملك إلا أن ننخرط فيه ... الموتى ينهضون مرة أخرى، وتعود أعمالهم لتحيا وسطنا.» ثم يضيف بلوخ: «إن مونتسر قبل كل شيء هو التاريخ بمعناه المثمر، فهو وعصره وكل ما يستحق الكتابة عنه إنما وجد لكي يتحدانا ويشعرنا بالحماس.»
16
هذا بإيجاز هو الإطار العام لمنهج بلوخ التاريخي، وهو يعبر عن رفضه التفرقة بين «مملكة الروح» و«مملكة السياسة» وهو ما كان سائدا بين اللاهوتيين والمؤرخين. فقد صاغ مونتسر وعيه الثوري من الكتاب المقدس، واستخدم في رسالته الشهيرة للأمراء صور الرؤية في العهد القديم من أجل إثارة قضيته: «كنت تنظر إلى أن قطع حجر بغير يدين فضرب التمثال على قدميه اللتين من حديد وخزف فسحقها، أما الحجر الذي ضرب التمثال فصار جبلا كبيرا وملأ الأرض كلها.» «ويقيم إله السموات مملكة لن تنقرض أبدا.»
صفحه نامشخص