امید و آرمانشهر در فلسفهی ارنست بلوخ
الأمل واليوتوبيا في فلسفة إرنست بلوخ
ژانرها
وهي فكرة الخلاص التي ترتبط أوثق ارتباط بالأمل في «اليوتوبيا» المحتومة والموعودة، وإن لم يغب عنهم بطبيعة الحال أنه لم يتخل عن «دنيويته» وماديته التي بقيت مفعمة بالنبض الصوفي والحنين الروحي.
ولا شك أن أحد الإشكالات الأساسية في فكر بلوخ اليوتوبي تتمثل في استحالة تحقيق «الهدف اليوتوبي» داخل العالم نفسه. فطالما وجدت في هذا العالم (أي في مادته الطبيعية أو في التاريخ البشري الذي يدور فيه) إمكانات لم تتحقق بعد ولم تتحول إلى واقع، فسوف يبقى ناقصا أو غير واقعي بصورة تامة. ولو افترضنا تحقيقه للواقع الكامل أو لهويته الذاتية لكان معنى هذا أن نلغي وجوده بوصفه عالما دائب الحركة. ومعنى هذا أيضا أن «الموجود الذي يبلغ أقصى درجات الواقعية» سيصبح في هذه الحالة هو «الموجود الذي بلغ أقصى درجات الكمال»
69
وكلاهما - بحكم الضرورة الجدلية نفسها - لا يمكن أن يوجد في «العالم» بل في «متعال» يقع فوقه أو وراءه، وترتفع عنده الصيرورة وتتم النهاية الأخيرة
70
أما عن طبيعة هذا «المتعالي» فلا ننتظر من بلوخ بطبيعة الحال أن يخوض في شأنه بطريقة مباشرة، وإن كنا نشعر بأنه يصفه وصفا يوحي بتبرئه منه وهو بصدد الحديث عن هيجل، وكيف ترفع كل العلاقات والإمكانات والظواهر في «الروح» أو «العقل» المطلق الذي رجع إلى ذاته وبلغ العلم المطلق، وحقق هويته: «إن المرحلة الأخيرة، وهي الرابعة عشرة لظهور الروح، هي بالتالي تلك المرحلة التي يقف فيها على عتبة تحقيقه لذاته، أي مرحلة العلم المطلق. وفي هذه المرحلة يتمثل شكل من أشكال العلاقة والظهور الذي لم يعد في الحقيقة كذلك. فهو يظهر - كما يحدث للعمر المتقدم - أثناء تخلصه من كل ظهور، بحيث ترجع المباشرة (أي الوحدة البسيطة المباشرة التي بدأ بها الروح المطلق) بعد انتهاء جميع التوسطات. هنا تنتهي علاقة الذات بالموضوع التي ظلت مستمرة حتى الآن، وينتهي معها هدفها المثالي ألا وهو رفع الموضوع أو إلغاؤه.»
71
هذا التحديد الأنطولوجي للغاية النهائية عند هيجل لا يخلو كما نرى من مضمون ديني، وبغض النظر عن التفسيرات المختلفة للنسق الهيجلي (دينية كانت أو منطقية أو أنطولوجية واحدية ... إلخ) التي تخرج عن موضوع هذا الحديث، فإن كلام بلوخ السابق يمكن أن ينطبق على «نسقه المفتوح» نفسه. فاليوتوبيا عنده لا تقتصر على تحقيق المجتمع «الإنساني» الخالي من الطبقات وابتداء حقبة جديدة كل الجدة في التاريخ البشري، وإنما تضع في حسابها كذلك «الشكل النهائي» الذي ستتمخض عنه صيرورة المادة أو مسيرتها الجدلية، أي أنها تنتهي بصورة من الصور إلى «نهاية» ربما لا تختلف كثيرا عن النهاية التي يصفها النص السابق في كلامه عن الروح الهيجلي المطلق. صحيح أن تفكير بلوخ اليوتوبي يحرص على أن يبقى دنيويا وداخل إطار العالمين الطبيعي والتاريخي، ولكنه مضطر للاتجاه إلى أفق «متعال» يمكن أن يحدد تحديدات دينية في جوهرها مهما حاول أن يبتعد صراحة عن كل تحديد أو تعريف نهائي لهذا الأفق المتعالي أو لهدفه اليوتوبي النهائي والأخير. ولعل «النزعة الأخروية» - بالمعنى الدنيوي أو العالمي بطبيعة الحال - التي نجدها واضحة عنده ولا يمكن تجريدها من مضمون ديني، لعلها هي التي تشجع على هذا التفسير «الديني» لفلسفته، على الرغم من حرصه على إنكار أمثال هذا التفسير وحرصه على السخرية اللاذعة منه، بيد أن الفجوة واسعة بين النية والعمل، وبين ظاهر الكلام ومضمونه.
ولا بد في النهاية من الاعتراف بأهمية «النواة الأنطولوجية» لتفكير هذا الفيلسوف والإشادة باكتشافه لمقولات الوعي الذي يأمل ويتوقع، ومعادلاتها الموضوعية في تاريخ البشر وسعيهم المتصل لبلوغ «اليوتوبي» بأشكاله التاريخية المتعددة، وتأكيد دور «الذات» الإنسانية في تحقيق الأمل على المستوى الطبيعي والبشري على السواء. وإذا كنا قد أشرنا إلى المضامين الدينية والتفسيرات الدينية الممكنة لتفكيره، فإن هذا لا يجعل فلسفته نوعا من ظاهريات الدين أو الحنين الديني، وإلا كان هذا تبسيطا مخلا وتحريفا شديدا لها، لأنها ستبقى فلسفة الوعي الثائر والثوري، مهما احتفظ هذا «الدنيوي» بشيء من الحنين الديني والأشواق الصوفية والمثالية الشعرية. وإذا كان بلوخ قد صور لنا التاريخ الطبيعي والتاريخ البشري في صورة يوتوبية، فلم يكن اهتمامه بالأنطولوجيا المادية والفلسفة الطبيعية تشتيتا للأنظار عن التاريخ الإنساني الذي لا يزال في حاجة إلى التشكيل، لأن الأول يقدم الأساس أو المعدل الموضوعي الذي يقوم عليه الثاني ولا ينفصل عنه في غمرة الصراع المستمر بين الإنسان والطبيعة، كما لا ينفصل عن الصراع من أجل السيطرة على الطبيعة لكي نكون في النهاية - كما تقول عبارة ديكارت الشهيرة - سادة عليها ومالكين لها.
أخيرا فعلى الرغم من تعدد المصادر وتنوع المؤثرات التي ترددت أصداؤها في فلسفة بلوخ فقد امتزجت وشكلت نسقا فلسفيا مستقلا له بناؤه الأنثروبولوجي والأنطولوجي. وعلينا الآن أن نمهد لهذا النسق ونبين أهم معالمه ومقولاته قبل أن نتناول كلا منها بالشرح والتفصيل.
صفحه نامشخص