الفصل الثالث
كانت سعدية في الرابعة عشرة من عمرها حين توقف لطفي عن التدريس لها، وكانت يومذاك تزداد سمنا ودمامة.
وقضى لطفي سنتين في البنك لم يستطع خلالهما أن ينسرب إلى خوافي البنوك ودهاليز المعاملات فيها.
وكان لطفي مصرا على أن يعوض نفسه عن شظف العيش الذي ضيقه عليه أبوه، فلم يكن عجيبا أن يزداد تمسكا بما بيت عليه أمره، ولم لا؟! ليكن أبوها مجرما، فلا شك أنه بإجرامه هذا فرض على الناس في المنطقة جميعا أن يهابوه وترجف قلوبهم عند سماع اسمه، وهو غني يتفاقم فحش غناه كل يوم بأعمال الاغتصاب وسفك الدماء التي يقوم بها بعصابته التي تزداد توحشا في كل يوم.
وأعلم أيضا أن وجدي صفوان سيغضب مما أنتويه، ولكن ما شأني به؟ رجل حريص على حدود الله والحق ومعاني الشرف والكرامة، وتلك الأشياء التي أصبحت أساطير.
نعم كان وساطتي أن أعمل بالبنك كتر خيره، ولكن هل معنى هذا أن أسير على هداه وأنهج في الحياة نهجه، هيهات.
ونعم أبي يعمل لديه بمرتب وصل إلى ثلاثمائة جنيه، ولكن ما شأني بأبي؟
لا شأن لي بأبي ولا بوجدي ولا حتى بتامر ابن وجدي الذي كان رفيق ملعبي في الطفولة، فقد سار طريقا آخر غير طريقي، فهو من هواة القراءة، وهذا الكلام الفارغ الذي لا يؤدي ولا يجيء بشيء، وقد دهشت أنه دخل كلية الحقوق، وفي نفس العام الذي دخلت أنا فيه كلية التجارة، وتخرج فيها بتقدير كما سمعت، ولكن أباه لم يشأ أن يوظفه ليجعله يعمل محاميا بأحد مكاتب المحامين الكبار، وقد أنهى مدة تمرينه وأبوه يبحث له عن شقة في القاهرة، ولا بد أنها ستكون شقة فاخرة، ومكتبا فخما، فأبوه ليس له إلا هو؛ فليس غريبا أن يغدق عليه، وأن يكون التفاهم والوئام سائدين بين الأب وولده كسنة الحياة، ليس في هذا عجب، إنما العجب حقيقة هو أبي الذي يحب القرش أكثر من حبه لابنه الوحيد، بل أكثر من حياته. ربما كان محقا فالقرش حلو، والذي يملك مالا يملك كل شيء في الوجود. ما الذي جعلني أفكر في تامر هذا التفكير الطويل؟ ربما علمي بغضبه وغضب أبيه وجدي مما أنا مقدم عليه، ولكن أيصل الغضب إلى إبعاد أبي عن العمل؟ لا أظن، وإن فعل ما شأني أنا؟ لعل أبي يدرك أن إصراره على التقتير علي كفيل بأن يجعلني أقيم حياتي كما أشاء حتى ولو أسأت إليه بعض الإساءة، أو كل الإساءة، ولكن لا أعتقد أن وجدي سيستغني عن أبي، وأنا مالي؟ ليكن من أمر أبي ووجدي وتامر وكل الناس ما يكون. أنا ليس لي في الدنيا إلا أنا وأمي، ولكنها لا تقدم ولا تؤخر كأنها صدى صوت لأبي أو كأنها ظل من ظلاله. - آبا. - مالك؟ - أريد أن أتزوج. - ألست متعجلا؟ - يا أبي إنك ليس لك ولد إلا أنا. - وما صلة هذا بذاك؟ - ألا تحب أن ترى أطفالي تلعب حولك؟ - أهذا ما يجعلك تعجل بالزواج؟ - ليس وحده. - فقل السبب الحقيقي ولا تراوغ أباك. - السبب أنني وجدت العروس المناسبة التي لن يكلفك زواجي منها إلا أقل القليل. - هذا في ذاته شيء عظيم، ولكن من هي، هل أعرفها؟ - بل أنت الذي عرفتني بها.
وانتفض أبوه واقفا وهو يصيح: يا نهارك أسو...
لم ينطق الدال، فقد أخذه الذهول، وراح لطفي يقول له: يابا اهدأ.
صفحه نامشخص