فالعزلة الأدبية في هذا الوقت ليست إلا حكما بالموت على الأديب، ولولا أن هذه الأزمة العنيفة تثير الشهوات، وتدفع الأهواء إلى الجموح، لما اختلف الأدباء الفرنسيون كما يختلفون اليوم حول الأدب المعتزل والأدب المتضامن.
فالحرية في حاجة إلى أن يدافع عنها أنصارها، والعدل في حاجة إلى أن يدافع عنه أنصاره، والأديب الذي ينحاز إلى نفسه ويعكف عليها ويفرغ لها، لا يزيد على أن يسجل أنه زاهد في الحرية والعدل جميعا، أي: إنه زاهد في الحياة. أو قل: إنه لا يزيد على أن يسجل أنه طفيلي يعيش من كسب غيره، ينتظر أن ينتصر هذا الفريق أو ذاك ليعيش في ظله، وينعم بما يلقى إليه من الفتات.
وهذا الأديب - فيما أعلم - لا يوجد أو لا يكاد يوجد، وفي الحياة بعد ذلك أشياء أخرى غير الحرية والعدل، والناس في حاجة إلى هذه الأشياء؛ فهم يختصمون حولها كما يختصمون حول الحرية والعدل، والأديب مثلهم يحتاج إلى هذه الأشياء كما يحتاج إلى الحرية والعدل، فهو مضطر إلى أن يخاصم ويجاهد ليحقق رأيه في كل مشكلة من المشكلات التي تمس الجماعة وتؤثر في حياتها.
ومن هنا يمكن أن يوجد الأديب الذي لا يخاصم في العدل، ولا في الحرية، ولكنه يخاصم في الدين، أو يخاصم في الإلحاد، أو يخاصم في هذا المذهب أو ذاك من مذاهب الدين، أو يخاصم فيما شئت من هذه المشكلات الإنسانية التي لا تنقضي والتي تتجدد في كل يوم.
والأدب الفرنسي ليس وحده موضوعا لهذا الخلاف حول التضامن والاعتزال، فالمسألة كما قلت آنفا قديمة لا تتصل بعصر دون عصر، عامة لا تتصل ببيئة دون بيئة، ولا بجيل دون جيل.
أكان الأدب اليوناني مثلا معتزلا أم متضامنا؟ مسألة من شأنها أن تضحك الشعراء والفلاسفة، والكتاب اليونانيين لو أنها ألقيت عليهم؛ فقد كان الأديب اليوناني بطبعه مواطنا يونانيا، يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، ويؤدي واجباته الوطنية، ويشهد الاجتماعات السياسية، ويدافع عن هذا الحزب أو ذاك، ويجني ثمر هذا الدفاع نعيما أو بؤسا وسعادة أو شقاء.
والذين يقرءون الأدب اليوناني والفلسفة اليونانية يعلمون ذلك حق العلم ويقدرونه حق قدره، ومن ذا الذي يستطيع أن يقول إن التراجيديا اليونانية لم تكن تميل إلى المحافظة السياسية، وإن الكوميديا لم تكن تعبث بالديمقراطية، وإن سقراط قد شرب السم؛ لأنه آثر الاعتزال الفلسفي على التضامن مع الحياة الواقعة، وإن أفلاطون لم يغرق في السياسة إلى أذنيه، وإن أرسطاطاليس لم يضطر بحكم السياسة إلى أن يموت غريبا.
ولم يكن الأدب عند الرومانيين أقل مشاركة في الحياة الواقعة من الأدب اليوناني، فربما كان أظهر شيء في الأدب اللاتيني الخطابة، وقد كانت كلها أو أكثرها سياسة، والتاريخ وقد كان كله أو أكثره سياسة.
فأما الشعر فقد حاول أن يتجنب السياسة فلم يبلغ مما أراد شيئا؛ لأن السياسة كانت تفرض نفسها على المواطن اليوناني والروماني فرضا، لا يعنيها أن يكون هذا المواطن أديبا أو حذاء.
وأدبنا العربي أكان متضامنا مع الحياة الواقعة أم كان مترفعا عنها؟ أهو الآن أدب متضامن أم أدب معتزل؟ مسألة لا تخلو من عبرة وعظة، فقد كان أدبنا العربي حيا قويا حين تضامن مع الحياة الواقعة، وكان فاترا متهالكا حين اضطرته الظروف إلى الاعتزال. وما أريد أن أذكر الشعر العربي في العصر الجاهلي؛ فقد كان أمره أوضح من أن يحتاج إلى بيان، كان الشاعر العربي لسان القبيلة، يسجل مآثرها، ويذيع مفاخرها، ويدافع عنها في المواطن التي تحتاج إلى الدفاع، وما كان أكثرها! فقد كان أدبنا الجاهلي، وهو كله شعر، متضامنا لا يطيق الاعتزال ولا يسيغه؛ لأن الشاعر كان فردا من أفراد القبيلة يحيا بحياتها ويشارك فيما يصيبها من خير أو شر، فإن خالف عن هذا التضامن فهو الخليع الذي يجب أن يعيش عيشة الصعاليك، وهو بهذا يخرج عن التضامن مع القبيلة إلى تضامن آخر ليس أقل منه مشاركة في الحياة الواقعة، وهو التضامن مع أمثاله من الصعاليك.
صفحه نامشخص