وقد كان للملكية الفرنسية بين الإمبراطوريتين أنصارها وخصومها من الأدباء، وكان لها صرعاها وضحاياها، كما كان لها أصدقاؤها الذين استمتعوا في ظلها بالسعادة والنعيم، وهذا كله لا يدل إلا على أن الأدباء، أو كثرة الأدباء، لم يستطيعوا أن يؤثروا حياة العزلة.
والثورة الفرنسية الثانية سنة 1848، لم تأت من لا شيء وإنما جاءت من تطور الحياة الواقعة، ومن تصوير الأدباء لهذا التطور، ومن إقناعهم للشعب بأن سادته قد أضاعوا عليه ما جنى من الثورة الكبرى، وقد كان للإمبراطورية الثانية صرعاها من الأدباء، وما نظن أننا في حاجة إلى أن نذكر فكتور هوجو، وما أظن أحدا يستطيع أن يقول إن فكتور هوجو ولامرتين كانا من أنصار العزلة وعشاق البرج العاجي، حتى فلوبير الذي أبى أن يحفل بشيء غير الفن، وفرض على نفسه حياة خالصة للأدب وللأدب الخالص، حتى فلوبير لم يستطع أن يمتنع على المشاركة في الحياة الواقعة، والتضامن مع الناس فيما كانوا يجدون من أمل وألم.
ويكفي أن تقرأ قصته الرائعة «التربية الشعورية»
L’Education sentimentale ، وأن تقرأ رسائله، وأن تقرأ كتابه الخالد -
Bouvard et Pécuchet - لتعلم أن برجه العاجي لم يكن إلا ملجأ يأوي إليه ليستعرض ما جنى من مشاركة الناس في حياتهم الواقعة، ثم يعرضه بعد ذلك عليهم في صوره الرائعة التي تدفع إلى العمل، وتملأ القلوب شوقا إلى المثل العليا، وازورارا عن هذه الحماقة التي تعرض الشعب لعبث العابثين.
فإذا كانت الجمهورية الثالثة؛ فالكثرة الضخمة من الأدباء مشاركة في السياسة إلى أبعد حدود المشاركة، وليس من شك في أن جورس، وليون بلوم، وأناتول فرانس، وموريس باريس، وبيجي لم ينتظروا ظهور الشيوعية والفاشية؛ ليشاركوا في الحياة السياسية الواقعة مشاركة تختلف عنفا ولينا باختلاف أمزجتهم وما كان يحيط بهم من الظروف.
وقد عرف الفرنسيون في آخر القرن الماضي أزمة دريفوس تلك التي أكرهتهم جميعا على أن يشاركوا في السياسة مشاركة فعلية عنيفة لم يتخلف عنها عالم ولا أديب.
فإذا لهج الأدباء الفرنسيون الآن بالتضامن الأدبي مع الحياة الواقعة، وإذا أسرفوا في ذكر الأدب المتضامن والأدب المعتزل، فهم في حقيقة الأمر لا يأتون بشيء جديد ولا يواجهون مشكلة جديدة، وإنما هي مشكلة قديمة خالدة، إلى أي حد يستطيع الأدب أن يعتزل الحياة الواقعة دون أن يصبح لغوا من اللغو، وسخفا لا غناء فيه؟ وإلى أي حد يستطيع الأدب أن يشارك في الحياة الواقعة دون أن يضطر إلى الإسفاف الذي يفسده، وإلى الابتذال الذي يلغيه؟ والشيء المحقق فيما أعتقد هو أن الفرنسيين كغيرهم من الأوروبيين، بل كغيرهم من الناس المتحضرين، يمرون بهذه الأزمة العنيفة التي تمر بها الأمم بين حين وحين، والتي تضطر المثقفين وقادة الرأي إلى أن يتجاوزوا عن عزلتهم أكثر مما تعودوا أن يفعلوا، وإلى أن يأخذوا بحظهم من الجهاد اليومي؛ لينصروا هذا المذهب أو ذاك، وليحققوا هذا اللون أو ذاك من ألوان المثل العليا.
وقد صورت في حديث سابق ذلك الصراع العنيف بين العدل والحرية؛ فهذا الصراع لا يمكن أن يتحقق ولا أن تظهر آثاره، ولا أن يؤتي ثمره إلا إذا كان هناك مصارعون يديرون بينهم ما يديرون من هذا الجدال العنيف؛ فالحرية ليست شيئا قائما بنفسه يمكن أن يلتزم خطة الدفاع، أو أن يتخذ خطة الهجوم، والعدل كذلك ليس شيئا قائما بنفسه يمكن أن يتخذ هذه الخطة أو تلك، وإنما الحرية والعدل خصلتان قائمتان في أنفس الناس: هؤلاء يؤثرون الحرية، وهؤلاء يؤثرون العدل، وهؤلاء يؤثرون شيئا وسطا بين ذلك. وهم جميعا يختصمون ويصطرعون، ويجادل بعضهم بعضا، والخصومة بينهم لا تكون بالعمل وحده، وإنما تكون بالعمل والقول، ولعلها أن تكون بالقول أكثر مما تكون بالعمل.
وانتصار الحرية على حساب العدل يعرض الناس جميعا ومنهم الأدباء لحياة قاسية قوامها الظلم. وانتصار العدل على حساب الحرية يعرض الناس جميعا ومنهم الأدباء أيضا، لحياة قاسية قوامها المساواة وفيها شيء كثير من الخضوع؛ فالأديب مضطر إلى أن يدافع عن نفسه؛ لأنه هو نفسه معرض بحكم هذه الأزمة لفقدان الحرية أو لفقدان العدل أو لفقدانهما جميعا.
صفحه نامشخص