يا للطفل العزيز الجميل ... تراه اليوم قد نسي أمه الأخرى.
وانتبذت مكانا خفيا وسمعت صوت زوجي وهو يتلقى طفله مناديا إلى الأحضان يا زينة الحياة ...!
وتركت المدينة بقطع من الليل ... وآويت من ضجيج الحياة إلى منعزل هادئ صامت لا يعرف الناس فيه من خبري شيئا، وإلى اليوم لم يبق لي من الماضي أثرا من ذلك الزوج الذي ضحيت بالحياة كلها في سبيل هناءته.
تلك خصلة من شعر وليده الذي كان دهرا يناديني: يا أمي الأخرى ...!!
زحام على قبر
كان اليوم بديعا والأرض ترسل أنفاس العبير، والشمس تعدل إلى المغيب ملقية على الغبراء شعاعها الأحمر، حين وقفت على قبر إنسان كريم عزيز.
وفي تلك المقبرة التي تحوي أجداث الشهداء في حرب ماضية عادت الشمس والرياح وخبء السموات تصلح من الأرض ما أفسدته الحرب وتكسوها ثوبها القديم الناضر، وراحت تلك القبور تتراءى ساكنة هادئة تحت زرقة السماء التي اختلطت بضياء الشمس، كل منها يضم جنديا قضى فرحا مستبشرا، أو حزينا غير مستبشر في سبيل وطنه وعشيرته، وتحت دافع وطنيته. وبينها أجداث كتبت عليها أسماء الضاجعين تحتها في مراقد الأبد، وقبور غفل من الأسماء لا يدري الطائفون بها لمن تكون.
ومشيت ميممة الجانب الغربي من صفوف القبور، ثم انثنيت أمشي وئيدة متثاقلة الخطى إلى بهرة المقبرة، وانتزعت من بين أطواء ثوبي دفترا، فاستشرته وانكفأت أطلب المشرق وأنا أغمغم لنفسي قائلة: أخشى أن يكون قد أخطأ تعيين البقعة، ثم عدت أستشير خريطة صغيرة جئت بها معي ودفتري الذي في يدي وأخدت أعد القبور من الشرق إلى الشمال فما لبث نظري أن استقر على شاهد أبيض لا يختلف عن غيره من الشواهد البيض التي حوله، فمشيت نحوه قدما، وهناك ركعت في سكون وخشوع، فقرأت هذه الكلمات على الجدث: «الضابط ف ...، قتل في الموقعة في الثاني عشر من شهر سبتمبر عام ...».
ولعل القارئ متسائل من أكون وما جملة أمري، وما باعث منقلبي إلى تلك القبور أطوف بها؟ وجوابي أنني فتاة، لا بالفارعة العود ولا بالقصيرة، بل بين ذلك قواما، ذات شعر فاحم وعينين سوداوتين، والذين يعرفونني يقولون فتاة مليحة أوتيت في الحياة رزقا حسنا، وفي العيش توفيقا ورغدا، فتاة لم تألف مسارة أصحابها الفتيات بذات صدرها، ولم تعتد مكاشفة الناس بما يعتمل في فؤادها، وإنما كل سري وهماهم نفسي لا أبوح بها إلا لصديق يدعى ... ح ... كان رفيق ف ... في الحومة وعاد منها يحمل إلى سمعي كلماته في محتضره.
وكان حديثي عن صاحبه حديث أسى وأشجان وإيمان بحبه، ولطالما مضيت أقول إنني سأظل على عهده آخر الدهر، وأجمد على موثقي له الحياة كلها.
صفحه نامشخص