هذه قصة رجل كان أول أمره كأكثر معاشر الرجال، جنوحا إلى القسوة في أحكامه، لا يعرف قيمة الحب الصادق إلا بعد الحرمان من نعمته، رجل كان يرى أن زلة قدم واحدة من أية امرأة، كافية مهما يكن الباعث لطردها من حظيرة الإنسانية، ووصمها بميسم العار إلى الأبد، فلا تصلح زوجا، ولا ينبغي أن تكون أما ...
ولست أدري ما الذي بعثني على أن أكتب قصتي هذه، إلا أن يكون دافعي عليها الأمل في أن تروح نذيرا لغيري من الشباب حتى لا يقع في الخطأ الذي وقعت فيه، أولئك الشباب الذين يجنحون إلى القسوة في الحكم، والذين لا تواتيهم الفرصة بعد ذلك لتعديل أحكامهم الماضية. ولعلي أريد بسرد قصتي للملأ اليوم أن يعلم الناس كذلك مبلغ السعادة العجيبة التي نعمت بها منذ أدركت غلطتي الأولى، ومضيت ألتمس إصلاحها، وأكفر عما كان مني في عهدها.
كنت في الرابعة والعشرين عندما لقيت الفتاة التي حسبتها متحلية بكل الصفات والمفاتن والمزايا التي كنت أتطلع إلى اجتماعها في الفتاة التي أرتضي مثلها لي زوجا، وكانت قد مضت علي أربعة أعوام وأنا أشتغل بصناعة النقوش والزخارف، وقد وجدت توفيقا في عملي، وكنت وحيدا من الأهل، خليا من النزوع إلى اللهو، مقتصدا غير متلاف. فاجتمع لي على الأيام مبلغ طيب من المال ادخرته لأيام الحاجة، فكان الذين لا يعرفون دخيلة أمري يحسبونني غنيا في نعمة حال، ولما كنت أحاول أن أحدث هذا التأثير في نفوس الناس، تركتهم إلى هذا الظن فلم أشأ أن أغير رأيهم في أمري. وكانت الفتاة «د» من هؤلاء، وإن لم أدرك ذلك في أول العهد بمعرفتنا ... بل كنت أحسبها تعرف حقيقتي وتعلم أنني لست إلا عاملا يكدح لرزقه، وكنت أعتقد أن ميلها لي عن حب محض، لا صلة له بالمادة ولا دخل للمال فيه، فبعثني هذا الاعتقاد على حبها، وذهبت أعطيها من ذات نفسي ما تشاء.
وكان هناك شيء آخر أدناني منها وأسر فؤادي من ناحيتها، وهو جمالها الهادئ الساكن المهيب، أشبه شيء بجمال الهياكل ورهبة التماثيل ... جمال كنت مؤمنا بأنه - ولا ريب طاهر - لم يلوث، نقي لم تشب نقاءه شائبة ولا مجرد خطرة عارضة، ولا فكرة دنسة، مما يجول في أحلام العذارى عند اكتمال نموهن.
وكنت من أولئك الرجال الذين - وإن لم يرتفعوا هم أنفسهم إلى مصاف الملائكة - لا يزالون ينتظرون من الفتاة التي تحبهم أو المرأة التي يبنون بها، أن تكون ملكا من السماء، وأن تكون أنقى من النقاء.
وكذلك كان مذهبي في الزواج وديني، وكنت مجمعا نيتي على أن لا أرتضي لنفسي في شركة هذه الحياة إلا الفتاة الطاهرة النقية العذراء.
فلما أحببت «د» حسبتها مجتمع ذلك كله، وكانت أيامنا الأولى حافلة بالهناءة، ثم ما لبث أفق عيشنا أن غام واكفهر، والآن، وأنا أعود بالذاكرة إلى ذلك العهد، أحسبني كنت يومئذ من «الدقة» القديمة، ولم أكن في عرفاني بواجبات الزواج «ابن العصر» وفتى الجيل.
لست أدري ... وإنما كل ما أدريه أنني لم أك أحمقا في ذلك الحين؛ إذ كنت أنتظر في عودتي إلى البيت من عملي على مطالع المساء أن أجد زوجي في الدار ترتقب عودتي من كدح نهاري، وكنت أرتقب منها أن تقوم على رعاية شؤون المنزل وتعهده، ولكنها كانت تذهب في الزواج غير هذا المذهب، وترى في عيش الأسرة غير هذا الرأي، وكان حسبي ما عانيت من ألم الوحدة وعيش العزلة في أيام عزوبتي، أنعم بحياة الزواج ورفقة الزوج والمقام بدار حسنة نظيفة مكفولة الرعاية في ظل المرأة التي اخترتها من بين نساء هذه الأرض لشركة الحياة. وكنت قد جمعت ما ادخرت من المال من قبل، فابتعت دارا صغيرة غناء ذات حائط آنف، فجملتها بما شاء الذوق الرفيع من نفيس الرياش، وظننتني بذلك قد ابتنيت عشا حلوا بديعا لمقامي بجانب امرأتي الحسناء.
وكنت أحسبها ستحسن القيام على تلك الدار وتتعهدها بالعناية الواجبة، ولكن وا أسفي ... لقد أخطأت الظن، فقد كانت «د» لا تعرف من فن الطهي كثيرا أو قليلا، ولا تحفل بأن تتعلم منه شيئا، وكانت أجهل امرأة كربة بيت، وأعلم امرأة كغادة برزة تغشى المجامع وتلتمس أماكن القصف واللهو، وتبين لي أن مطالب البيت لن تكون يوما من واجبها، وإنما أنا الكفيل بغناي الذي تعرفه عني أن أملأ البيت خدما لها ووصيفات. وألفيتها تشرب الخمر في مجالس الصواحب والخلطاء، وتدخن التبغ، ولا ريب في أن أكثر السيدات يعاقرنها اليوم ولا يمتنعن عن اللفافة أو اللفافتين، ولكن لعلي كنت يومئذ من «الدقة القديمة» كما قلت، فكرهت ذلك منها ونكرته، وزادني استنكارا له أنها جعلتني أعتقد قبل الزفاف أنها لا تعاقر الخمر، ولا تدخن، ورأيتها حوامة هوامة على مجالس اللهو، فتبعتها بادئ الرأي وسايرتها في هواها حتى تبين لي أنها لا تبغي عن اللهو حولا ولا تجد منه شبعا، وأن البيت عندها هو آخر مكان تلجأ إليه إذا أعوزها اللهو أو لم تجد قصفا. وكاشفتها في أمر الخلفة والرغب في الذراري والبنين، فصارحتني أنها لا تريد من ذلك شيئا، فأخذت أدرك رويدا أن كل غرضها من الزواج بي لم يكن سوى الركض في ميدان اللهو كيف شاءت وشاء لها الهوى. ولم تكن تشعر لي بشيء من الحب، وهو ما ينتظر من أية امرأة سواها ما دامت ترى زوجها ذا مال تنفق منه وتجده هينا لينا معها، يأذن لها أن تسلك في العيش المسلك الذي تحب، فبدأت أرفض الذهاب معها إلى مغاشي السمر واللهو، إلا على فترات معقولة وفينات متناسبة، فراحت تغشاها وحدها أو مع رجل آخر. ولم أكن أعرف مع من كانت تذهب، ولا حفلت بأن أعرف؛ إذ لم تكن حركاتها وسكناتها في تلك الفترة عندي ذات بال. وعدت إلى نفسي في آخر الأمر فقلت لها: إن هذا الأسلوب من العيش لا ينبغي أن يمضي على سننه، وما دمنا في فهم الحياة الزوجية على خلاف، فعلام نبدد أيامنا هكذا خلية من الهناءة المتبادلة والنعمة المشتركة، وحاولت أن أقنعها بوجوب الطلاق والسماح لي بتسريحها، ولكنها غضبت وتمادت ... فاستحوذت علي من ناحيتها سآمة ممضة، ودفعني الاشمئزاز من عبثها وخطتها إلى تركها، فخرجت في ذات يوم هائما على وجهي تاركا كل شيء ورائي، متحملا إلى بلد بعيد لم أكاشفها به، واعتزلت النساء كارها لهن واجدا عليهن الدهر كله، ووجدت لي عملا في ذلك البلد النائي فسلكتني فيه، ولكني لم أقبل عليه إقبالي فيما فرط من أيام الشباب، وعهد النشاط وامتلاء الفؤاد بالأماني والآمال، ورحت أتلهى وأتناسى مرير الخسة في زواجي بغشيان المشارب وإقامة الليل، وبدأت أعاقر الشراب قليلا، ثم ما لبثت من إيلافي له أن رحت ألح عليه لحاحا ...
وكذلك مضى بي العيش رحيا حتى التقيت بالحسناء «ر» ... وفي الحق لم تكن هذه بالمرأة الأولى التي عرفتها منذ رحيلي عن تلك الزوج الناشز الحوامة المتلاف، بل لقد لقيت قبلها كثيرات، جعلت أتناولهن كما جئن، وأعاملهن المعاملة التي يستأهلن، فمنهن من أصابت مني الاحترام، وأخريات لم يجدن عندي غير الاحتقار والعبث، ولكنهن جميعا لم يكن يظفرن مني بعاطفة صادقة. فلما جاءت هذه، وجدتني لأول مرة قد وقفت لأتروى وأفكر ماذا ينبغي لها في فؤادي، فكانت بادئ الرأي امرأة متعة أتلهى بها حينا لكي أنبذها إذا أنا بشمت بها، ولكن ما عتمت بعد عرفاني قدرها، وامتحاني خلقها وعاطفتها، أن وجدتني أحس لها احتراما عميقا في أطواء النفس، ولم أكن يومئذ أدري ما الذي بعثني على احترامها، وما عرفت ذلك إلا على ختام هذه القصة كما سترى ...
صفحه نامشخص