88

آلمان نازی

ألمانيا النازية: دراسة في التاريخ الأوروبي المعاصر (١٩٣٩–١٩٤٥)

ژانرها

Neu Beuchen » والحدود البولندية سيرا على الأقدام، وهي مسافة تبلغ عشرة كيلو مترات، وكان الجنود النازيون عندما غادرنا القطار قبل هذا السير المضني، يدفعوننا ويسوقوننا أمامهم كالأنعام، وينهالون علينا بالضرب المبرح، ويحيطون بنا من اليمين واليسار حاملين بنادقهم ذات الحراب، وفي الخلف، مصوبين مدافعهم الرشاشة نحونا. وفي نهاية الأمر وصلنا إلى الحدود البولندية ونحن في حالة إعياء شديد، حتى سقط على الأرض الشيوخ من الرجال، والعجائز من النساء، وغيرهن من برح بهن التعب وكذلك الأطفال.

وكان جميع هؤلاء يتركون من غير إسعاف أو مساعدة، ولكن الحراس البولنديين لم يسمحوا لنا بالمضي في سبيلنا واجتياز حدود بلادهم وأرغم هذا الحشد - وكنا ثمانية آلاف، من همبورج وبرلين وكولون وإيسن - على المكث في غابة هناك. وفي أثناء ذلك كله ما كان يعنى بأمرنا إنسان، فأخذ منا الجوع كل مأخذ، وعضنا البرد القارس بأنيابه، وسقط منا كثيرون ضحية للجوع والبرد. وظللنا على هذه الحال حتى استطعنا أن نجد مكانا في قرية على الحدود مكثنا بها ثمانية أيام يحرسنا الجنود البولنديون ... وكانت إقامتنا خلال هذه المدة في حظائر الخيول، وفي اثنتين من هذه الحظائر التي ما كانت إحداهما تتسع لأكثر من مائة حصان، اضطر حوالي الثمانية آلاف شخص إلى الإقامة، ينامون على القش ويهلكهم البرد. وأخيرا شكلت لجنة لمساعدتنا وتزويدنا بالطعام؛ فكنا نتناول وجبتين: إحداهما في الصباح والأخرى في المساء، ولم يكن ما نأكله في كل وجبة يزيد على كسرة صغيرة من الخبز وقليل من الحساء، وهي كمية لم تكن تسد الرمق مما أدى إلى انتشار المرض. وكان المرضى يعزلون في خيام وينامون على القش. وكان عدد هذه الخيام سبعا، ويجري العمل لبناء عشر غيرها بسبب ازدحامها، وليس هناك أي مستشفى، ويزداد عدد المرضى الذين يشكون من الآم المعدة بسبب رداءة الطعام وقلة التغذية. أما الذين أصيبوا بحمى التيفود فقد بلغوا المائة. والماء الموجود في معسكرنا لا يصلح للشرب؛ لأنه ملوث، ومع هذا يدفع اليأس الجميع إلى الشرب منه؛ إذ لا يوجد سواه!

هذه القصة كتبت بعد مضي أسبوع واحد على وجود هؤلاء المنكوبين في المنطقة الحرام الواقعة بين الحدود البولندية والألمانية، وقد اضطر حوالي خمسة آلاف من هؤلاء التعساء إلى البقاء في «زبونستزين

Zbonszyn » أكثر من شهرين، يتلقون مساعدة الهيئات اليهودية البولندية التي جمعت التبرعات لإعانتهم ونجدتهم في جميع أنحاء العالم. •••

أما السبب الذي دعا إلى بقاء هؤلاء المنكوبين وأمثالهم من غير مأوى أو ملبس أو مأكل في المناطق الحرام الواقعة بين حدود دولة الريخ وحدود الدول المجاورة، فهو أن هؤلاء «اللاجئين» اليهود كانوا في الحقيقة لا يحملون «جوازات» أو أية أوراق رسمية من حكومة الريخ الثالث تدل على جنسياتهم؛ ذلك بأن النازيين رفضوا بتاتا إعطاء هؤلاء اليهود المطرودين المنبوذين أية جوازات أو أوراق رسمية، كما فعلوا مع خصومهم السياسيين الآخرين الذين اضطروا إلى الفرار من الطغيان النازي، أو أرغمهم النازيون أنفسهم على مغادرة البلاد، الأمر الذي أوجد ما صار يعرف باسم «مشكلة اللاجئين».

وذلك أنه كان من المتعذر على الحكومات، تبعا لأحكام القانون، أن تقبل في بلادها الأشخاص الذين ليس لديهم جوازات تثبت جنسياتهم، «فعرفوا لذلك باسم الأشخاص الذين لا دولة أو لا وطن لهم»، وكذلك الأشخاص الذين ليس لديهم تأشيرات من قنصليات الدول التي يبغون اجتياز حدودها أو الإقامة بأرضها.

وقد أوضح أحد الثقاة طرفا من أسباب مشكلة «اللاجئين» هذه، بقوله: «إن لعب كرة التنس الذي يتقاذف أفرادا من البشر قد أصبح أمرا مألوفا معروفا في أوروبا الوسطى منذ وضعت الحرب العظمى الماضية أوزارها، بيد أن عدد ضحايا هذه اللعبة في الماضي كان قليلا، كما أن هؤلاء الضحايا كانوا في الحقيقة من الأفراد الذين أمسوا لا دولة لهم؛ إذ فقدوا جنسياتهم من جراء التغيير الذي طرأ على الخريطة السياسية بعد انحلال امبراطورية الهابسبرج القديمة. أما الآن فقد صار تقاذف أفراد البشر من المسليات الجديدة التي أوجدها إمعان ألمانيا في طرد اليهود وغير الآريين والخصوم السياسيين دون رحمة أو شفقة، وصار حراس الحدود في كل دولة إذا ما أرخى الليل سدوله يتنافسون في الخلاص من أكبر عدد ممكن من هؤلاء «اللاجئين» الموجودين في المناطق الحرام المتاخمة لحدود بلادهم، وذلك بإرغامهم على اجتياز الحدود والدخول إلى أرض الدول المجاورة بطريقة لا يقرها عرف أو قانون، وبذلك يساعد رجال الشرطة في كل دولة مثل هؤلاء الرجال والنساء والأطفال على خرق قوانين الدولة الأخرى، بل إنهم ليدفعونهم إلى ذلك دفعا؛ فكان جند الحرس

S. S.

ورجال الجستابو ينقلون كل مساء حوالي الأربعين لاجئا من النمسا الألمانية إلى القرى الواقعة على حدود مورافيا، ثم يأمرونهم بعد إعطائهم بعض نقود تشيكية بالعدو السريع عبر الحدود، فيتلقاهم من الجانب الآخر الحراس التشيك، ويرغمونهم على عبور الحدود مرة ثانية إلى بلادهم والعودة من حيث أتوا، أما الذين يستطيعون الإفلات من قبضة هؤلاء الحراس، فكانوا يعيشون عيش المجرمين في المدن التي يلجئون إليها؛ لأنهم ما كانوا يجرءون على قيد أسمائهم في سجلات «البوليس» أو كسب قوتهم، بل كانوا في خوف دائم من أن يكشف أمرهم ويرغموا في النهاية على الخضوع لهذه التجربة القاسية مرة أخرى. وكان من أثر هذا الرعب الذي فيه يصبحون وفيه يمسون أن صاروا فريسة سهلة في أيدي أصحاب المحال التي ينزلون بها أو أصحاب الأعمال الذين يستخدمونهم؛ فيظل هؤلاء يهددونهم بفضح أمرهم «للبوليس» حتى يسخروهم في أعمالهم بأجور زهيدة لا يجد اللاجئون مناصا من قبولها؛ خشية أن يؤدي إفشاء سرهم إلى أن تطبق عليهم القوانين التي وضعتها حكومات هذه البلاد ضد الأجانب.» «وقد حدث مثل ذلك أيضا عند الحدود السويسرية، بل إن حوادث اللاجئين عند هذه الحدود ما لبثت أن زادت زيادة كبيرة؛ إذ إن سويسرة أجازت مؤقتا دخول اللاجئين إلى بلادها، بيد أن السلطات الحكومية في «برن» ما لبثت هي الأخرى أن غيرت من موقفها إزاءهم، فصارت ترفض كما فعلت حكومة «براج» - التشيكوسلوفاكية - قبول اللاجئين إليها، وهكذا أخذ جنودها ورجال الشرطة فيها ومن إليهم يبدون نشاطا عظيما في حراسة معابر الجبال وشواطئ بحيرة «كونستانس» حتى أوصد هذا الباب في وجوه اللاجئين وزادت تبعا لذلك شقاوتهم وتعاستهم.»

تلك كانت «هيستريا اليهودية» في ألمانيا النازية، وظاهر أن هذه الهيستريا بلغت ذروتها في كل من ألمانيا وكذلك النمسا «بعد احتلالها» في شهري أكتوبر ونوفمبر من عام 1938. وفي الواقع إن هذه الموجة القاسية كانت تقترن بحملة واسعة ضد اليهود في ألمانيا، فطفقت الصحف النازية تذكر الأهلين من جديد بقوانين نورمبرج. ونشرت

صفحه نامشخص