آلمان نازی
ألمانيا النازية: دراسة في التاريخ الأوروبي المعاصر (١٩٣٩–١٩٤٥)
ژانرها
هذا إلى أن نجاح الدعاوة المضادة في استخدام الصحف السرية دل على أن أنصار الدعاية عديدون بل ومنتشرون في أرجاء أوروبا المحتلة؛ لأن إصدار هذه الصحف السرية لم يكن بالأمر السهل الهين، فهناك قبل كل شيء مشكلة الحصول على الورق؛ لأن سلطات الاحتلال الألماني تهيمن على توزيعه، فلا يستطيع إنسان أو هيئة الحصول على الورق إلا إذا سمح الحاكم الألماني، وعرفت سلطات الاحتلال الوجوه التي يراد استخدامه فيها، وهذا إلى أن الكميات التي تسمح بها السلطات محدودة وتكاد تكفي حاجة البلاد العادية، فكيف يحصل إذن أنصار الدعاوة المضادة على الورق الذي يلزم لصحفهم؟ لا بد من وجود مؤيدين لهذه الدعاية الخفية قبل كل شيء من بين الأهلين الذين استطاعوا التمتع بثقة الألمان؛ لأن هؤلاء وحدهم هم الذين كانوا يحصلون على هذه الكميات المحدودة من الورق. وكانت هناك مجازفة أخرى؛ إذ كيف يحمل مصدرو الصحف السرية كميات الورق التي يحصلون عليها تحت أنوف هيئات الشرطة والجستابو اليقظين؟ وإذا استطاع أصحاب الصحف الإفلات من ذلك كله، فأين يجدون المطبعة التي تطبع صحيفتهم؟ بيد أنه كما كان هؤلاء يجدون أفرادا وشركات وطنية تعطيهم حاجاتهم من الورق خفية، فإنهم كانوا كذلك يجدون أصحاب مطابع لا يضنون على أصحاب الصحف السرية بما يريدون من أدوات الطباعة كالحبر والحروف والآلات وغير ذلك؛ وكان مصدرو الصحف دائما يعمدون إلى استخدام حروف الطباعة من «البنط» الذي لا تختص باستعماله شركة أو هيئة دون أخرى، حتى يصعب على رجال الجستابو الوقوف على المصدر الذي أمد الصحف السرية بأدوات الطباعة. ورغبة في أن يتعذر العثور على المكان الخفي الذي أقيمت فيه المطبعة السرية كثيرا ما كان أصحاب هذه الصحف يختارون مكانا منعزلا خوفا من أن يسمع القاطنون في الأماكن المجاورة صوت الآلات، ويعرف خبر وجود المطبعة، وقد حرص مصدرو الصحف السرية على ألا يعتمدوا على شركة واحدة لتموينهم بالورق أو مدهم بآلات الطباعة وأدواتها، أو يظلوا في مكان معين يطبعون فيه صحيفتهم مدة طويلة. والسبب في ذلك الإمعان في الحيطة حتى لا يتسرب شيء عن نشاطهم، أو يتعرض معاونوهم في هذا كله لإثارة سخط سلطات الاحتلال عليهم فيكون نصيبهم الموت أو التشريد لا محالة، فإذا ما تم طبع الصحيفة، صادف أصحابها صعوبة التوزيع، فكان عليهم أولا أن ينقلوا ما طبعوه من نسخ عدة قد يثير نقلها الريبة والشكوك، وأن يجدوا موزعين، يوصلون هذه النسخ إلى أيدي الأهلين في كل مدينة وقرية.
ومع هذا، وبالرغم مما كان ينتظر كل مشترك في أية عملية من هذه العمليات جميعها من عقوبة قاسية، الأمر الذي كان يعرفه الأهلون في أوروبا المحتلة حق المعرفة، وبالرغم مما كان ينزله النازيون بمصدري هذه الصحف ومحرريها وموزعيها من عقاب صارم يبلغ حد الإعدام في حالات كثيرة، فإن أصحاب الصحف السرية مضوا في إنجاز أعمالهم وطبع صحفهم وتوزيعها، وكان من الطبيعي أن يتمكن النازيون بين حين وآخر من القبض على بعض الأفراد المسئولين عن إصدار هذه الصحف وإعدامهم. ومع هذا فإن ذلك لم يفد شيئا في منع صحف أخرى، غير تلك التي مات أصحابها أو أرغموا على الفرار من قبضة الجستابو وترك أوطانهم، من الظهور في أماكن أخرى، وكثيرا ما كان يحدث أن تصدر الصحيفة نفسها التي ظنت سلطات الاحتلال الألماني أنه قد قضي عليها، محتفظة بنفس الشكل الذي اعتادت الظهور به، يتولى تحريرها آخرون لا يقلون وطنية ورغبة في مقاومة الطغيان النازي عن أسلافهم. •••
والوقوف على طرف من قصة هذه الصحف السرية وانتشارها يظهرنا على مبلغ نشاطها وأهمية الخدمة التي كانت تؤديها كأداة من أدوات الدعاية الخفية ذات الأثر الفعال في مكافحة دعاة النظام الجديد في أوروبا النازية. ولما كان عدد من أصحاب هذه الصحف ومحرريها قد استطاع الفرار إلى إنجلترا أو إلى غيرها من الدول الحرة المحاربة أو المحايدة، وكانت أسرات الكثيرين منهم ما تزال تعيش في البلدان المحتلة تحت رقابة الجستابو وفي خطر التعرض للموت أو التشريد والنفي إلى معسكرات الاعتقال، أو قضاء بقية العمر في غياهب السجون، إذا عرف النازيون شيئا عن نشاط أعضاء الأسرة الهاربين، فقد أصبح من المتعذر وقتذاك نشر أسمائهم أو تدوين قصة نشاطهم الخفي كاملة. ولذلك حرصت الحكومات الحرة المحاربة على أن تظل شخصيات هؤلاء الشجعان المغامرين بحياتهم مجهولة، واكتفت بتمجيد ذكرى الأبطال الذين لم يستطيعوا الخلاص والنجاة وكشفت سلطات الاحتلال الألماني أمرهم، فلقوا حتفهم على أيدي الجستابو اللعينة أو قدموا للمحاكمة أمام المحاكم الألمانية العسكرية، ونفذت فيهم أحكام الإعدام الرهيبة، وأصبح من حق التاريخ وحده أن يرفع ذكرهم عاليا، كمثال للتضحية الحرة النزيهة من أجل مصلحة الوطن، وفي سبيل خلاصه من ربقة الاستعمار الأجنبي.
وفي فرنسا بدأ ظهور الصحف السرية من وقت مبكر، عقب الاحتلال الألماني مباشرة. فقد سبب انهيار فرنسا كوارث عظيمة، وكان «بول سيمون» من بين الذين فقدوا ثرواتهم وهو من الوطنيين الممتلئين حماسة وغيرة، متوقد الذهن عظيم النشاط، قرر منذ اللحظة الأولى أن يشن بمفرده حربا شعواء على السادة الألمان. هذا إلى أنه وجد في هذه الحرب المزمعة وسيلة للترويج عن نفسه إلى جانب إشباع رغبته في الانتقام من غير الاصطدام بالنازيين المدججين بالسلاح والذين كان لا يجرؤ - وهو الأعزل - على الاصطدام بهم. لذلك عمد «بول سيمون» في أيام الاحتلال الأولى، إلى العمل على تعكير صفو الألمان، فصار لا يدع فرصة تمر دون أن يلصق على نوافذ سيارات ضباطهم وكبار رجالهم قصاصات الورق المعد لتغطية ألواح الزجاج حتى لا تتحطم وتتناثر قطعها وقت الإغارات، بعد أن يكتب عليها عبارات مثيرة، مثل: «من هو أجمل رجل آري في أوروبا؟ الدكتور جوبلز على وجه التأكيد!» و«من هو أعظم البلوتاركيين في أوروبا؟ - أي أعظم رجال الحكومة البلوتاركية أو التي تتألف من الأغنياء - الماريشال جورنج دون شك!» هذا عدا عبارات أخرى تهتف بحياة ديجول أو كتابة شعار الجمهورية الفرنسية المعروف: «الحرية والمساواة والإخاء»!
واعتمد «بول سيمون» من مبدأ الأمر على معاونة ثلاثة من الوطنيين، واستطاع مع زملائه العثور على حروف للطباعة صغيرة مصنوعة من الكاوتشوك - مما يلعب به الأطفال عادة - ثم اشترى الجماعة كل ما استطاعوا شراءه من ورق الزجاج المصمغ واستخدموا ذلك كله في لصق عبارات مماثلة لتلك التي تقدم ذكرها، من عبارات الدعاوة المضادة، على جدران باريس. وذات مساء، فكرت الجماعة في إنشاء صحيفة سرية. وبعد مضي أربع وعشرين ساعة كان «بول سيمون» يبذل كل جهد لإقناع أحد أصحاب المخازن المعدة لبيع الورق وأدوات الكتابة حتى يبيعه مطبعة من الكاوتشوك ذات حروف أكبر حجما من الحروف التي كانوا يستخدمونها وتمكنهم من طبع أربعة سطور في وقت واحد. وفي مكان سري أمين، وبعيد عن أعين رجال الجستابو، وبعد عمل شاق مضن استمر شهرا بأكمله وكلف أحدهم فقد إحدى عينيه من كثرة الإجهاد، تمكنت الجماعة من إخراج أول أعداد هذه الصحيفة السرية، وكان اسمها «فالمي
Valmy » وهو اسم المعركة التي أحرز فيها الفرنسيون أول انتصاراتهم على البروسيين في عام 1792 في أثناء حروب الثورة الفرنسية المعروفة. وأما الاسم الآخر فكان: «عدو واحد، هو الغاضب!
Un seul ennemi-L’envahisseur » وكانت جملة ما طبع من هذا العدد الأول خمسين نسخة فحسب، ولكن سرعان ما أحدث ظهور هذه الصحيفة أثرا عظيما وضجة هائلة، والسبب في ذلك أن ظهور «فالمي» كان تحديا صريحا لسلطات الاحتلال الألماني، وبرهانا ساطعا على أنه ليس من العسير أن يجد الوطنيون سبيلا للإفصاح عما يشعرون به نحو السادة الألمان من كراهية واستخفاف. هذا على الرغم من عيون الجستابو المنبثة في كل مكان، وعلى الرغم من سيف العقوبة الصارمة المسلط على أعناق كل من تحدثه النفس بمقاومة النظام الجديد.
بيد أن «بول سيمون» لم يلبث أن واجه بضع عقبات، أهمها ناشئ من عدم وجود ما يكفي من حبر الطباعة لإصدار العدد الثاني من صحيفته. ولما كان يعرف حق المعرفة أنه كلما قل عدد المشرفين على إصدار هذه الصحيفة، كان ذلك أعون على كتمان سرها، فضلا عن أنه لم يكن يريد أن يلحق بأصدقائه أي أذى بسبب ما قد يقدمونه لصحيفته من معاوية. فقد قرر أن «يسرق» ما يريد من حبر من مقر القيادة الألمانية العامة نفسه في شارع ريفولي، وكان من المتعذر على أي فرنسي الاقتراب من هذا المكان؛ لأن الألمان منعوا سير الفرنسيين في ميدان الكونكورد وفي الشارع الموصل إلى تمثال جان دارك، فكيف إذن يحقق «بول سيمون» رغبته؟ إن ما فعله «بول سيمون» ذات مساء حتى يدخل إلى مقر القيادة الألمانية العامة، ويأخذ ما يشاء من كميات الحبر اللازمة لمطبعته، ما يزال من الأسرار. ولا شك في أن هذا العمل كان يتطلب من «بول سيمون» شجاعة خارقة! ومهما يكن من شيء استطاع هذا الفرنسي أن يصدر العدد الثاني من صحيفته «فالمي» مطبوعا بمداد ألماني!
واتبع «سيمون» نظاما دقيقا في توزيع صحيفته؛ فقسم الموزعين إلى جماعات تعمل منفصلة، ولا تعرف إحداها شيئا مما تفعله الجماعة الأخرى، زيادة في الحيطة وحرصا على حياة المشرفين على إصدار الصحيفة وعلى حياة موزعيها أنفسهم. وتفنن هؤلاء في ابتكار الطرق التي مكنتهم من توزيع الصحيفة في أماكن لا تخطر على بال إنسان، كما حدث في مقر القيادة الألمانية العامة في شارع «ريفولي» في باريس، عندما عثر الجند الألمان وهم يلبسون خوذاتهم على نسخ مطوية بعناية من صحيفة «فالمي». على أن «بول سيمون» لم يلبث أن وجد في الشابات الباريزيات موزعات من الطراز الأول، يحملن نسخ صحيفته إلى كل مكان يذهبن إليه، حتى صار الجند والضباط الألمان أنفسهم يجدون هذه الصحيفة «المكروهة» مخبأة في جيوبهم، مما سبب لهم الحيرة والارتباك؛ لأن الجستابو ما كان ليدعهم يذهبون بسلام إذا عرف أن «فالمي» قد وجدت طريقا إلى الاستقرار في جيوبهم. وكان من بين هؤلاء الفتيات الجريئات عدد من اللواتي فقدن أزواجهن أو شهدن أخا يختفي وراء جدران مركز قيادة الجستابو العامة في شارع فوش، أو رأين السادة الألمان يسوقون الشبان لإرغامهم على العمل الإجباري في ألمانيا.
وسرعان ما ذاعت شهرة «فالمي» في أرجاء فرنسا، وصار توزيعها غير مقصور على باريس، بل صارت توزع في الأقاليم أيضا. وجد الجستابو من أجل ذلك كله في البحث والتنقيب عن أصحابها ومحرريها وموزعيها عندما بلغ ما يطبعه «بول سيمون» من جريدته حوالي العشرة آلاف نسخة في كل شهر. بيد أنه لم يكن من العسير على رجال الجستابو بما أوتوا من قوة وسلطان وبفضل ما بذلوه من جهود، أن يعثروا بعد مشقة عظيمة على المكان الذي تطبع فيه هذه الجريدة، وعندئذ تعرض أصحابها لخطر داهم. ولكن شاء حسن الحظ أن يبلغهم الخبر في الوقت المناسب، فغادر «سيمون» ورفاقه الوكر قبيل هجوم الجستابو ورجع هؤلاء بخفي حنين، ثم عادت الصحيفة إلى الظهور كعادتها، وبلغ عدد قرائها في أكتوبر من عام 1941 المائة ألف.
صفحه نامشخص