آلمان نازی
ألمانيا النازية: دراسة في التاريخ الأوروبي المعاصر (١٩٣٩–١٩٤٥)
ژانرها
وقصة الإذاعة البريطانية (
B. B. C. ) طريفة حقا. فمن المعروف أن النازيين منذ خلص لهم الحكم في ألمانيا، كانوا أول من استخدم الراديو في الإذاعة السياسية لترويج مبادئهم قبل نشوب الحرب الماضية بعدة أعوام. ثم أتقن زعيم الدعاوة والنشر في ألمانيا الدكتور «جوبلز» تنظيم هذه الأداة حتى أصبح الراديو من أدوات الحرب الفعالة، وكان يعتمد عليه النازيون في تعبئة الرأي العام الألماني في بلادهم بما يذيعونه من أخبار وادعاءات مضللة كاذبة، وكذلك في حرب الأعصاب المشهورة لإضعاف جبهة المقاومة والدفاع في البلدان التي أرادوا اجتياحها. أما الإذاعة البريطانية فظلت في سنوات السلم لا تعني بالإذاعة الأجنبية. ثم استمر الحال على ذلك المنوال إلى أن وقعت الأزمة التشيكوسلوفاكية المعروفة في سبتمبر 1938، وعندئذ أدركت الحكومة الإنجليزية خطر الموقف، وأيقنت أنه من المتعذر عليها أن تنشر على الملأ آراءها، ورأي رئيس حكومتها وقتذاك المستر نيفل تشمبرلين، بين الشعوب الأوروبية بصدد هذه المسألة الشائكة ما دامت محطة الإذاعة البريطانية لا تعنى بتنظيم برامج أوروبية تاركة للنازيين وحدهم ترويج آرائهم وادعاءاتهم في أنحاء العالم، وكانت تقوم بذلك «وزارة الدعاية» النازية بإشراف الدكتور جوبلز وأعوانه. ولهذا تقرر في 27 سبتمبر من العام نفسه أن تنشر محطة الإذاعة البريطانية
B. B. C.
باللغات الفرنسية والإيطالية والألمانية جميع الخطب التي يلقيها رئيس الوزارة الإنجليزية، ثم الأنباء الهامة. واقتضى تنفيذ هذا القرار وقتذاك تنظيما واسعا لإعداد المترجمين والمذيعين، هذا إلى جانب إجراء تغييرات فنية منوعة. ثم لم تلبث هذه الصعوبات الفنية أن زادت عندما صارت «المحطة» ترتب برامج للإذاعة باللغتين الإسبانية والبورتغالية في صيف العام التالي «1939»، كما صارت تذيع بلغات أخرى بلغت في ذلك الحين سبعا. ثم ازداد العبء الملقى على عاتق هذه الإذاعة الأجنبية عقب نشوب الحرب الماضية مباشرة، وما تبع ذلك من نجاح الألمان في اجتياح عدة دول في وقت قصير، وإنشاء الحكومات «الحرة» التي صارت تمثل مجموعة الأمم المتحدة في لندن واتجاه الأنظار إلى بريطانيا كموئل للاجئين السياسيين والمضطهدين، ومن إليهم، بل وكمركز لتنظيم المقاومة الشديدة ضد الطغيان النازي. ثم غدت بريطانيا قلعة الحرية التي شاء النازيون أن يفرضوا عليها العزلة فرضا قبل غزوها هي الأخرى. وعلى ذلك نشطت الإذاعة البريطانية نشاطا عظيما في عامي (1940-1941)، وكان واجبها الأكبر أن تسمع أوروبا المقهورة صوت بريطانيا عاليا مرتفعا وسط ضوضاء أسلحة الحرب الميكانيكية وإغارات الطائرات النازية، وأن تسمع القلقين أو اليائسين دقات «ساعة بن» المشهورة، وكان عصيبا ذلك اليوم من أيام ربيع عام 1941 عندما هدمت قذائف النازيين بناية محطة الإذاعة البريطانية. ومع هذا فقد أعيد البناء على عجل وكانت الإذاعة النازية في هذه الأيام الشديدة «من عامي 1940-1941» تكاد لا تلقى منازعا أو منافسا في ميدان الدعاية الأوروبية أو العالمية.
ولكن الحال سرعان ما تبدل بعد ذلك؛ إذ تمكنت الإذاعة البريطانية من تنظيم برامج للإذاعة في أنحاء الممتلكات المستقلة، وفي بلدان الإمبراطورية المختلفة. وفي أغسطس وسبتمبر 1940 كانت قد أحكمت الصلة بطريق الأثير، بين لندن والولايات المتحدة الأمريكية، وقد مهد لذلك - ولا شك - ما قررته الولايات المتحدة ذاتها من ضرورة النزول إلى ميدان الصراع المستعر منذ أبريل في العام السابق «1939»، فلم يكد يمضي أسبوع واحد على استيلاء «موسوليني» على مملكة ألبانيا، حتى ألقى «روزفلت» خطابه المشهور على هيئة الاتحاد الأمريكي
في 14 أبريل سنة 1939، وقال: إن المسألة باتت في الواقع مسألة اختيار بين إقحام الحضارة الحالية في النزاع والحروب التي يثيرها العسكريون، وبين التمسك بمثل السلام العليا واحترام حقوق الفرد والحرص على المدنية التي ينبغي أن تظل جميع الشعوب متمتعة بها. ثم حدث بعد ذلك أن ذهبت أدراج الرياح جميع الجهود التي بذلها الرئيس الأمريكي من أجل تأمين سلامة الأمم ومنع نشوب الحرب، حتى جاء في آخر الأمر انهيار فرنسا في يونية 1940 مؤذنا في نظر الكثيرين من أهل الولايات المتحدة بقرب انتهاء الحرب في مصلحة ألمانيا، وبأن مقاومة بريطانيا لا طائل تحتها وأنه من المنتظر أن ترضى هذه الدولة بالتسليم عاجلا أو آجلا. وفي هذه الظروف، كان من واجب بريطانيا أن تبذل كل جهد حتى يقف الشعب الأمريكي على مقدار المقاومة التي تبديها من أجل الدفاع عن سلامتها، وإقامة البرهان. على أن هذه الجزر العظيمة لا يمكن أن ترضى بالتسليم للألمان حتى يفنى آخر رجل وامرأة بها، ووقع على عانق الإذاعة البريطانية
B. B. C.
إبلاغ هذه الرسالة إلى العالم الجديد، وكان لصوت المستر «ونستون تشرشل» السحري، أبلغ الأثر في نفوس الأمريكيين. وزيادة على ذلك فقد ظهر في تلك الآونة أن الرأي والشعور قد تحولا نهائيا إلى جانب الديموقراطية البريطانية في النضال الدائر؛ لأن الأمريكيين سرعان ما صاروا يطلبون في خريف 1940 معرفة الشيء الكثير عن جهود بريطانيا الحربية ويتساءلون لماذا تذيع لندن إلى الشعوب البريطانية في كندا ونيو فوندلند، والهند الغربية، بينما تترك الأمريكيين من غير الإذاعة لهم؟ ثم كان لأهل هذه الديموقراطية العظيمة ما أرادوا فكتبت جريدة «نيويورك تيمس» في 14 يولية 1940 تثني على جهود محطة الإذاعة البريطانية، ثم قالت ما معناه: إنه سرعان ما تبين من فحص بعض البرامج التي تذاع من هذه المحطة أن بريطانيا أصبحت الآن لا تضيع وقت المستمعين سدى في الإصغاء إلى روايات خيالية! ومن ذلك الحين أصبح الأثير الصلة الفعالة التي ربطت بين بريطانيا وأمريكا، ونقل الأثير خبر ميثاق الأطلنطي بين «روزفلت» و«تشرشل» في أغسطس 1941، وأسدت الإذاعة خدمات جليلة عقب حادث «بيرل هاربور» المشهور، وذلك في أثناء زيارة المستر تشرشل للولايات المتحدة وكندا. ومنذ صارت الولايات المتحدة ترسل جندها إلى الشرق الأوسط والهند، نقلت محطة الإذاعة البريطانية إلى هؤلاء برامج مذاعة من المحطات الأمريكية.
بيد أنه إلى جانب هذا كله، سرعان ما أتمت محطة الإذاعة تنظيم إذاعاتها الأجنبية لا لقوات الأمم المتحدة المحاربة في الميادين فحسب، بل ولأهل البلدان المقهورة في أوروبا النازية. ثم كان أظهر آثار هذا التنظيم ما حدث في ربيع عام 1941 عند بدء الدعوة لحملة جيش النصر
V-Army
صفحه نامشخص