آلمان نازی
ألمانيا النازية: دراسة في التاريخ الأوروبي المعاصر (١٩٣٩–١٩٤٥)
ژانرها
بيد أن الاعتماد في الإنتاج على العمال «الأجانب» سواء في داخل الريخ أو في الدول المحتلة، لم يلبث أن مهد الفرصة لظهور حركة الإبطاء المتعمد كأسلوب من أساليب المقاومة الإيجابية الشديدة. ومعنى الإبطاء المتعمد: الإهمال المقصود في العمل، وإتلاف الآلات بدعوى جهل طرق استعمالها، وتضييع الوقت سدى في مناقشات لا طائل تحتها، وتظاهر العمال بالغباوة والبلادة والجهل والخوف في المصنع، وعدم فهم الأوامر والإرشادات والتعليمات على الرغم من إلقائها عليهم المرة بعد المرة، وترك المواد والآلات تسقط وتتحطم أو تتلف «سهوا» أو «قضاء وقدرا»، وهكذا مما يجر إلى تبديد الوقت والجهد ويؤدي في النهاية إلى نقص الإنتاج إلى حد ملحوظ.
ولم تكن حركة الإبطاء المتعمد هذه مقصورة على المصنع وحده؛ بل كانت منتشرة في الحقل وفي مصالح النقل بالسكك الحديدية والأنهار وغيرها، وفي المنازل حيث يقوم بخدمة «السادة» الألمان النساء البولنديات خاصة، فيتعمد العاملون في هذه النواحي بسبب إبطائهم الشديد تضييع الوقت سدى، ثم تخريب أو إتلاف الآلات والأدوات وما إليها، وكل ذلك بدعوى الجهل والنسيان أو التظاهر بالغباوة. ومن أمثلة ذلك وضع الزجاج أو المسامير خطأ أو سهوا في علف المواشي، أو إحراق الملابس الصوفية أو تعمد الإبطاء في أوقات الحصاد حتى تتلف المزروعات بتعرضها للعواصف والعوامل الجوية، أو إخفاء الحبوب، أو ذبح الماشية، أو تعريضها للموت فجأة. ولعل أكبر نجاح صادفته هذه «الحركة» كان في مناجم الفحم حيث يتعذر على الملاحظين الألمان مراقبة كل عامل على حدة، ومع أن النازيين كانوا يوقعون عقوبات شديدة، تبلغ حد الإعدام على كل من تثبت عليه تهمة الإبطاء المقصود أو إتلاف الآلات وغيرها أو التخريب عموما، فقد ظلت حركة «الإبطاء المتعمد» على شدتها، بل كثيرا ما وجد العمال الأجانب وسيلة للانتقام شر انتقام من رؤساء العمل الألمان الذين كانوا يشتدون في ملاحظة العمال المشتغلين في المصانع وغيرها ويوقعون عليهم العقوبات الصارمة لإبطائهم.
وقد نجحت حركة الإبطاء المتعمد وانتشر التخريب في أوروبا النازية انتشارا كبيرا، فصارت الشعوب المقهورة يباري بعضها بعضا في إتقان هذا النوع من المقاومة الإيجابية، فامتاز البولنديون - إلى جانب قيامهم بأعمال التخريب الكبيرة - بالبراعة في إرهاق أعصاب الأسرات الألمانية التي اعتمدت في إدارة منازلها على «الخدم» البولنديين، كما اعتمدت في أعمال زراعتها على سواعدهم، فأنزل البولنديون بهذه الأسرات خسائر فادحة في المنزل وفي الحقل على السواء. أما النرويجيون الذين كانوا يشتغلون في المصانع وأحواض السفن الألمانية فقد اتخذوا لهم شعارا: «العمل مدى ساعتين في اليوم فحسب لحساب هتلر وست ساعات لحساب الملك هاكون!» ولم يقل عنهم حماسة في ذلك البلجيكيون والهولنديون والتشيك. ومن الحوادث التي تدل على إمعان التشيك في هذا النوع من المقاومة، ما وقع في فينا في 17 نوفمبر سنة 1941 عندما ألقي القبض على ثلاثة منهم وأعدموا رميا بالرصاص؛ «لادعائهم - كما جاء في التقرير الرسمي - أنهم من رجال الجستابو حتى يستطيعوا المضي في أعمالهم غير القانونية!» والحقيقة هي أن هؤلاء الرجال كانوا بدعوى تنفيذ أوامر الجستابو، يكلفون المصانع إنتاج أشياء ومصنوعات لا داعي لها، اقتضى صنعها استهلاك كمية كبيرة من الخامات سدى، إلى جانب تضييع جهود العمال وأوقاتهم في هذه المصانع. •••
وكان من آثار هذه «الحركة» أن نقص الإنتاج كثيرا في المصانع التي كانت تشتغل في أوروبا النازية لحساب الألمان، مثال ذلك أن الإنتاج في تشيكوسلفاكيا في خريف 1941 كان يقل 40٪ عما كانت هذه الدولة تنتجه في الظروف العادية، هذا على الرغم من توفر الخامات والأيدي العاملة بها. وفي مصانع «سكودا» المشهورة قل الإنتاج بنسبة 33٪، وفي مصانع مدافع «برين
Bren » المعروفة قل الإنتاج بنسبة 40٪، وفي مناجم الفحم البلجيكية قل الإنتاج منذ خريف 1941 بنسبة 36٪، ومع أن الألمان أحضروا إلى هذه المناجم عمالا كثيرين، وزادوا من ساعات العمل بها ، فقد ظل الإنتاج في ديسمبر 1941 ويناير 1942 ينقص 30٪ عن إنتاج العام السابق. •••
أما الفرنسيون فقد كانوا في طليعة الشعوب التي أتقنت هذا النوع من أنواع المقاومة الإيجابية، حقيقة ظل الفرنسيون في بادئ الأمر في شبه ذهول كبير من صدمة ذلك الانهيار الذي حطم في نفوسهم كل أمل وكل رجاء في المستقبل، حتى نجحت الدعاية النازية في استمالة الأنصار والمتعاونين مع رسل النظام الجديد في فرنسا، ولقيت هذه الدعاية كل تأييد من جانب حكومة فيشي. ولكن الأساليب النازية لم تلبث أن أزالت الغشاوة الثقيلة التي أسدلت على عيون الفرنسيين وأبصارهم عندما وجدوا «السادة» الألمان لا يبغون من تطبيق النظام الجديد سوى نهب فرنسا وسلبها، كما أنهم ظلوا محتفظين بالأسرى الفرنسيين كرهائن حتى يضمنوا سكون هذا الشعب المقهور إلى العيش الذليل، وإرغامه على الرضا وقبول السيطرة الجرمانية على أمل الإفراج عن هؤلاء (المليونين) من الرجال الذين ينتظر عودتهم الأهل والأقرباء في كل بيت من بيوت فرنسا تقريبا. وهذا أيضا عدا حوالي 100000 عامل فرنسي، حتى أغسطس 1942 أرغموا على العمل في ألمانيا بالوسائل التي تقدم ذكرها. وكان من عوامل إحياء الأمل والرجاء في قلوب الفرنسيين إخفاق الألمان في معركة بريطانيا، وإخفاقهم الأول في الحملة الليبية المعروفة، وكذلك عنف القتال في الجبهة الروسية؛ فأفاق الفرنسيون من سباتهم رويدا رويدا، ثم أدركوا أن الجحافل النازية لم تعد تلك الجيوش المظفرة والتي يستحيل قهرها.
لذلك بدأ الفرنسيون منذ أواسط عام 1941 يتقنون أساليب المقاومة الإيجابية. ولما كان النازيون يعتمدون على العمال الفرنسيين في المصانع الفرنسية لإنتاج آلات الحرب، فقد وجد الفرنسيون مجالا واسعا «للتخريب» و«الإبطاء» في المصانع، ومن ذلك الحين كشف الألمان أن الطائرات التي تخرجها المصانع الفرنسية لا تصلح للملاحة الجوية، وأن كثيرين من طياريهم يفقدون الحياة عند محاولة اختبارها قبل إرسالها إلى ميدان القتال، كما كشفوا أن «خرطوش» البنادق والمدافع المرسل من المصانع الفرنسية يصل في الغالب خاليا من المواد المفرقعة. وفي مرسيليا وجد الألمان أن جزءا كبيرا من الأغذية المعدة لتموين الجيش الأفريقي يتلف ويعطب قبل إنزاله إلى سفن النقل. ومن طريف ما يذكر عن أساليب حركة الإبطاء المقصود أن ضابطا نازيا عهد إليه في إنشاء مطار في فرنسا في أرض ممهدة نوعا، فاستخدم في هذا العمل عددا كبيرا من الفرنسيين، ولكن انقضت أربعة أشهر دون أن يتم إعداد هذا المطار، وعند البحث اتضح أن سبب ذلك هو أن العمال الفرنسيين كانوا يتظاهرون دائما بعدم فهم الأوامر والإرشادات والتعليمات الألمانية، فإذا طلب إليهم مثلا إقامة بناء في ناحية ما حفروا الأرض بدلا من ذلك، وإذا طلب إليهم العكس أقاموا عليها بناء أو شقوا بها ترعة أو حفروا فيها خندقا وهكذا، حتى لم تعد الأرض بعد هذه الشهور الأربعة تصلح لإنشاء المطار على الإطلاق. وكان الفرنسيون يعمدون إلى المناقشة والجدل مع رؤساء العمل الألمان دائما عند إعطاء التعليمات الخاصة بأي عمل في المصنع أو في الحقل، فيتخذون من الجدل الطويل وسيلة لتضييع الوقت وتحقيق فكرة «حركة الإبطاء المتعمد»، ولم تفلح عقوبات الألمان الصارمة - ومنها الإعدام - في إخماد هذه المقاومة.
وكان من أسباب ازدياد المقاومة ما طلبه الهر هتلر من تقديم فوج جديد من العمال الفرنسيين عددهم «470000»، يرسل منهم إلى ألمانيا قبل نهاية شهر يونية من عام 1943 «220000»، أو أن يوضعوا على الأقل تحت تصرف جماعة «تودت» في فرنسا ذاتها، بينما يقدم الباقون وعددهم «250000» في أثناء الأشهر الثلاثة التالية. فقابل الشبان الفرنسيون هذا الطلب بكل أنواع المقاومة العنيفة، واعتصم أهل مقاطعة سافوي بالجبال فرارا من التعبئة، وبلغ عدد الذين لجئوا إلى الجبال والغابات حوالي الثلاثة آلاف، ثم حدث مثل هذا تماما في البرينيه العليا وبريتاني والفنديه، وبلغت نسبة الهاربين في هاتين المقاطعتين الأخيرتين 75٪ من الأهلين، وقذف الشعب في إحدى مواني بريتاني الصغيرة ببعض رجال النازي إلى البحر، واتسعت حركة العصيان بين الفلاحين في مدن أخرى وتفاقمت تفاقما كبيرا. وفي مقاطعتي سانت كلو وجورا عظمت المظاهرات احتجاجا على نقل العمال الفرنسيين عنوة إلى ألمانيا، ووقع اعتداء على رجال الشرطة. وعندما أرغم العمال الفرنسيون على الذهاب إلى القطارات لحملهم إلى ألمانيا عطل المتظاهرون سير هذه القطارات، وأتاحوا الفرصة لفرار كثير من هؤلاء المجندين. وفي سافوي أخذ الإيطاليون يحاصرون الشبان الفرنسيين الذين التجئوا إلى بلدة «أنسي» الصغيرة، ولم يعدم هؤلاء بدورهم وسيلة للانتقام من مطارديهم، فانقضوا فجأة ذات يوم من أيام شهر أغسطس على أحد المراكز الإيطالية على حدود سويسرة وقتلوا قائد هذا المركز، بينما احتدمت المعارك في الشهر نفسه في سافوي العليا بين رجال العصابات والقوات المسلحة، واضطر الألمان إلى إرسال النجدات لاحتلال منطقة الحدود بأكملها، فوصل في سبتمبر إلى دوفيني وإيفيان وغيرها حوالي 9000 جندي ألماني لمحاولة القضاء على «الماكي»، وهي «عصابات» الوطنيين الفرنسيين الذين اعتصموا بالجبال في سافوي العليا فرارا من العمل تحت إمرة الألمان. وفي سبتمبر كان عدد عصابات «الماكي» حوالي 12000 من الشبان المزودين بالأسلحة والأدوات الخاصة وأجهزة الراديو، وكل ما يفيد في تخريب السكك الحديدية بنوع خاص.
وقد روى مراسل جريدة «جازيت دي لوزان» قصة ما يجري في المنطقة الجبلية من الحوادث، فقال:
ترى شابا من عمال المزارع يبدو مسالما لا خوف منه يدخل بدراجته مزرعة معينة خصصت له، ثم يستقر في حجرة من حجرات بيت صاحب المزرعة بعد تبادل كلمات مع زوجته، ولا يكاد يستقر به المقام في تلك الحجرة حتى يخرج من حقيبته جهاز اللاسلكي ويأخذ في استخدامه، ويجد هذا الشاب بعض الصعوبة في الاتصال بالذين يريد الاتصال بهم، ومع أنه يعلم أن في استطاعة سيارات «البوليس السري الألماني» معرفة مكانه بعد عشرين دقيقة من استخدامه جهازه اللاسلكي فإنه يظل يرسل رسالته إلى نهايتها، على أن إرسال هذه الرسالة يستغرق عادة مدة طويلة، حتى إن الشاب لا يكاد ينتهي من عمله حتى يرى إحدى سيارات الجستابو تدخل المزرعة، ويخرج منها الجنود الألمان مسرعين إلى الحجرة التي كمن فيها الشاب وهم يطلقون النار دون إنذار إلى أن يقع الشاب صريعا مضرجا بدمائه، ويمكن أن يقال، قياسا على ما يحدث هناك: إن قانون هذه العصابات لا يعرف رحمة ولا شفقة؛ إذ إن أنباء هذا الحادث لا تكاد تنتشر في البلاد وتبلغ مسامع رؤساء هذه الجماعة حتى يعمدوا إلى حيلة للانتقام، ذلك بأن سيارة «البوليس» السري الألماني بعد أن تلتقط رسالة مستعجلة تقصد إلى «جراج» معين ويخرج منها جنود الجستابو ويتقدمون نحو أبواب «الجراج»، وبينما هم يحاولون فتح هذه الأبواب إذا بوابل من رصاص المسدسات يفاجئ الألمان ويقتلهم جميعا عدا السائق، فإنه يضرب ضربا أليما ويطلق سراحه.
صفحه نامشخص