علم نفس النمو
علم نفس النمو
ناشر
دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع
شماره نسخه
-
ژانرها
المجلد الأول
مقدمة
...
تقديم:
نقدم كتابنا هذا بمقولة "جيزل": بأن "الأطفال هم الأمل الوحيد الباقي للإنسانية، فدراسة الأطفال تقدم الدليل الأوفى على ما يكْمُن في الروح الإنسانية من قوى وإمكانيات، وما ركِّب فيها من صفات فاتنة، فليتنا نستطيع أن ندرك براءتهم الصافية وإخلاصهم الصادق، وأنه لا يزال عندهم حتى اليوم الكثير مما يمكن أن نتعلمه منهم لو دققنا الملاحظة التدقيق الكافي. أضف إلى ذلك: فإن طبيعة الإنسان تكاد تبلغ في إرهابها وإرعابها مبلغ الذروة بغير زمام أو لجام، وستظل طبيعته كذلك إلى أن نتفهَّم القوى الكامنة فيه، ونمسك بزمامها ونتحكم فيها تبعًا لذلك. ولن يتهيأ للعقل البشري الهيمنة على الفرد والجماعة إلّا عن طريق المعرفة العميقة بالنفس الإنسانية وتطورها".
من خلاصة ما يزيد عن خمسة وعشرين عامًا قضاها المؤلفان في دراسات حول مسائل النمو والصحة النفسية دراسة وتدريسًا لطلابهما جاءت مادة هذا الكتاب "علم نفس النمو" الذي نقدِّم جزأه الأول حول: أسس ونظريات النمو، وجزأه الثاني: مظاهر النمو وتطبيقاته. ومن المؤكَّد أن الأسباب الداعية لدراسة النمو عديدة بقدر عدد من يعملون في هذا المجال، وكلها تهدف إلى وصف مسار النمو والمعدلات التي تتغير عندها مختلف أنماط السلوك أو تنضج في الوقت المناسب.
وكتاب علم نفس النمو في جزئه الأول الذي نحن بصدد تقديمه يتضمَّن عشرة فصول:
تناولنا في الفصل الأول: طبيعة النمو الإنساني، مركزين على موضوع دراسة علم نفس النمو، وقوانين ومبادئ النمو الأساسية، وأهمية دراسة النمو، فلقد تمكَّن الباحثون في هذا المجال أن يجمعوا قدرًا هائلًا من الحقائق العلمية حول العديد من أنماط السلوك الإنساني ومظاهر نموّه، وحدَّدوا متوسّط العمر الذي يبدأ عنده البلوغ، وكثيرًا ما تستخدم هذه المبادئ لتحديد ما إذا كان معدل النمو طبيعيًّا من عدمه.
1 / 7
وتضمَّن الفصل الثاني قضية جديلة -طال تناولها، تلك هي قضية الصراع بين الوراثة والبيئة في تأثيرهما على النمو، ولقد قدَّمنا كل من الآليات الوراثية وطرق دراستما، والتاثيرات المختلفة للبيئة بأنواعها المختلفة، ثم أوضحنا التفاعل بين الوراثة والبيئة في تشكيل النمو الإنساني، مسترشدين بالأبحاث والتوجُّهات حول المتغيرات الوراثية والبيئية التي تؤثر على مسار النمو.
وفي الفصل الثالث: تنولنا مناهج وطرق البحث في علم نفس النمو، وأوضحنا أخلاقيات وأبعاد البحث في علم نفس النمو، والطرق المستخدمة فيه، وركزنا على الاهتمام المتجدد بالبحث الوصفي إلى جانب الطرق التجريبية، وأوضحنا حدود استخدام البحث الوصفي والتجريبي في دراسة النمو تأكيدًا على النواحي البيئية والمعطيات التفصيلية المستقاة من البيئة الطبيعية، والطرق الجديدة لتحليل البيانات التي تكون كفيلةً بالإجابة عن التساؤلات الهامَّة حول النمو وأساليب تشكيل السلوك، كما أوضحنا أن المعالجة الوصفية تعتبر حاسمة إذا أردنا أن يكون لعمل الأخصائيين في نمو الطفل أثر بالغ في رسم السياسة الاجتماعية للمجتمع، انطلاقًا من أنَّ توصيات علماء النفس أصبح لها صلاحية أكبر مما كان في الماضي.
أما الفصل الرابع: فقد تناول الاتجاهات النظرية في تفسير النمو -فتناول مفهوم النظرية في علم نفس النمو، وناقش الأنماط النظرية في دراسة نمو الطفل. فمع أن كثيرًا من الفلاسفة السابقين قد اعتبروا الأطفال مجرَّد راشدين صغارًا، وبالتالي فليس بالضرورة الاهتمام بهم بنفس الاهتمام بالكبار، هذه النظرة للأطفال قد أخذت تتغيِّر، وبدأ الباحثون تدريجيًّا يهتمون بدراسة الأطفال كما هُمْ باعتبارهم مصدر معلومات عن النموِّ الإنساني، وعلى هذا أصبح دور النظرية في تفسير النمو اليوم يتركَّز حول تفسير قوانين النمو في سنوات الطفولة، وإن كان أصحاب النظريات لا يهتمون كثيرًا بالتطبيق العلمي لبيانات ونتائج الأبحاث أو قوانين النموِّ التي تغطي مدى حياة الفرد. ووجد أن العلماء يقدمون فقط أساسًا نظريًّا لتفسير النمو، ويطرحون تساؤلات حوله، وتقديم وسائل علمية معقولة يمكن للباحثين الآخرين استخدامها والتحقق من افتراضاتهم، إلى جانب استخدام نتائج البحوث في المزاولة الفعلية لتربية الطفل.
1 / 8
ثم جاءت الفصول من الخامس إلى التاسع لتتناول النظريات المفسِّرة للنموّ في مظاهره المختلفة؛ حيث تَمَّ انتقاء النظريات التي تخدم المحاور الرئيسية التي تدور حول مظاهر النمو، ومن ثَمَّ تناول الفصل الخامس نظريات النضج العضوي النفسي، فبدأ بنظرية أرنولد جيزل الخاصَّة بميكانيزم النضج العضوي النفسي التي ركَّزت على البيانات الوصفية القياسية التي صاغها جيزل فيما عرف بقوائم أو سلالم النمو، والتي أسهمت في تفهُّم كل من أنماط النموّ السوي وغير السوي لدى الأطفال، وساهمت هذه القوائم في وضع معايير النمو السوي "الطبيعي"، سواء فيما يختص بالنمو الجسمي أو بالقدرات النفسية، وتبعًا لها يصبح من السهل تحديد معالم النمو غير السوي، واتخاذ الإجراءات العلاجية المناسبة إذا تطلَّب الأمر ذلك. كما أنَّ تحديد النمو السوي يساعد أيضًا على إجراء تخطيط على نطاق واسع لتيسير النمو اللاحق؛ كتطوير البرامج التعليمية مثلًا، أو إثراء البيئة التي يعيش فيها الطفل. بالإضافة لذلك فقد تناول هذا الفصل نظرية النمو الجسمي والتعليم الاجتماعي لروبرث سيرز، التي ركَّزت على التعلُّم المبكر من خلال الحاجات الجسمية العضوية الأساسية؛ كالغذاء وضبط الإخراج والتنميط الجنسي والتفاعل مع الوالدين في داخل الأسرة والتفاعلات خارجها. ثم تناول هذا الفصل نظرية النمو الجنسي النفسي التي أرساها سيجموند فرويد، وتَمَّ التركيز فقط على نمو الشخصية من خلال مراحل النمو الجنسي والقوى النفسية الحيوية في الإنسان.
وما إن خلصنا من نظريات النضج والنمو العضوي النفسي حتى جاء الفصل السادس ليتناول: نظريات النمو النفسي الاجتماعي؛ ليبدأ إريك إريكسون في استكمال مسيرة التحليل النفسي، فيعيد صياغة مراحل النمو في نظرية فرويد صياغة جديدة من منظور نفسي اجتماعي، ويبرز القوى الدافعة الكبرى التي تقف وراء نمو الطفل، والتوصّل إلى فهم أفضل لسلوك الراشدين. وبذلك ففي ضوء النظرية فإن أهداف الكبار ومفهوم الذات وخواصه الشخصية لديهم يمكن أن تصبح أسهل فهمًا من خلال فهم ومعرفة تجارب وخبرات الفرد في طفولته. وانطلاقًا مما أرساه إريكسون حول النمو النفسي الاجتماعي، جاء جيمس مارشيا ليركِّز اهتمامه على إحدى مراحل النمو التي أوردها إريكسون، وهي مرحلة المراهقة التي
1 / 9
أطلق عليها مرحلة الإحساس بالهوية؛ ليرسي دعائم نمو الهوية وتشكيلها، والعوامل المؤثرة في تحقق الهوية، أو توقفها وتأجيل تشكيلها، أو إعاقتها أو تشتتها، ويبيِّن معالم كل مظهر من مظاهر الهوية وانعكاساته على حياة الراشدين.
أما الفصل السابع: فقد تناول النمو المعرفي؛ ليوضح أسس تشكيل الخبرات الحسية والإدراكية المعرفية، وذلك من خلال عرض التراث النظري الذي أرساه كل من: هانز فارنر، وجيروم برونر، وجان بياجيه. ولقد فصَّلنا الحديث في نظرية النمو المعرفي لبياجيه باعتبار أنها من أكبر الإسهامات النظرية في هذا المجال، والتي أسهمت بدورها في إرساء دعائم علم النفس المعرفي المعاصر من ناحية؛ ولأنَّ تطبيقاتها وإسهاماتها كانت واسعة الانتشار من ناحية أخرى، بالإضافة إلى أن فعالية هذه النظرية لم يقف عند حدود نفسير النمو المعرفي فقط، بل تعدَّاه إلى تفسير جوانب نمو اللغة والنمو الخلقي. وقد انتهينا من هذا الفصل بعرض تكوين المفاهيم، وأوضحنا الفروق الفردية فيما يتعلّق بالنمو المعرفي من واقع البحوث والدراسات العلمية التي انبثقت من نظريات النمو المعرفي.
وفي الفصل الثامن: تناولنا نظريات النمو اللغوي، وقد عرضناها في محاور ثلاثة: تناول المحور الأول منها تفسير اللغة في إطار النظرية السلوكية من وجهة نظر التعلم والتشريط، وأوضحنا أهم مبادئ التعلم في علاقتها بنمو اللغة، وتناولنا في المحور الثاني: النظرية العقلية الفطرية التي قادها عالم اللغويات الأمريكي نوام تشومسكي، والتي كان لها أبلغ الأثر في رسم الصورة الحيوية لنموِّ اللغة في ضوء القدرات والاستعدادات الفطرية لدى الفرد من ناحية، والعالميات اللغوية من ناحية أخرى، وخصوصيات البيئة اللغوية والثقافية التي يعايشها الفرد. وتناولنا في المحور الثالث: النظرية المعرفية في تفسير النمو اللغوي، فمررنا مرورًا سريعًا على وجهة نظر بياجيه وفيجوتسكي في العلاقة بين اللغة والفكر، وعرضنا نظرية تكاملية لتفسير اكتساب ونمو اللغة.
وجاء الفصل التاسع ليتناول: نظريات النمو الخلقي، فتناولنا وجهة النظر السلوكية والتعلم الاجتماعي في نمو الأخلاقيات، وكذا وجهة نظر التحليل النفسي
1 / 10
في هذا الإطار، ولكن فيما يتعلّق بالمدخل التطوري المعرفي فقد عرضنا فيه تفسيرات بياجيه وبك وهافيجهرست باختصار حول النمو الخلقي، ولكننا فصَّلنا الحديث حول نظرية كولبرج في النمو الخلقي باعتبارها النظرية الأكثر تخصصًا وتركيزًا في هذا المجال، وأوردنا تقييم النظرية والتطبيقات المستخلصة منها.
وأخيرًا: جاء الفصل العاشر ليتناول تحليلًا ناقدًا لنظريات النمو التي عرضناها في فصول الكتاب من حيث تركيب النظريات ومناهج البحث فيها، وأوضحنا أوجه الاختلاف بينها، وأبرزنا جوانب التكامل التي يمكن استخلاصها منها في إطار النظرة التكاملية للشخصية الإنسانية ومظاهر نموها، وأخيرًا التطبيقات التربوية لنظريات النمو النفسي.
إن دراسة أسس ونظريات النمو النفسي يمكن اعتبارها عملًا مجزيًا في حد ذاته، بمعنى أنها تكسبنا معرفة بأحد مظاهر عالمنا الذي نعيش فيه، وهو مظهر بالغ الأهمية بسبب هذه الأهمة التي تضفيها معظم المجتمعات على الأطفال والشباب، ولذا فإن نتائج الأبحاث في إطار النظريات النمائية لها آثار بالغة الأهمية في ترشيد طرق تربية الأطفال والمناهج التعليمية. وغير ذلك من الخدمات التي تقدّم للناشئة، ففي كثير من الحالات نجد أن معاملتنا للأطفال إذا كانت تحكمها الأهواء والمعتقدات غير الحاسمة أكثر مما يحكمها التحقق التجريبي، أو النظريات العلمية من وجهات نظر متعددة، لذا: فإن فهمنا للتفسيرات النظرية لجوانب ومظاهر النمو ستكون هاديًا للمربين في هذه الممارسات.
وإنا لنأمل أن تنجح مادة هذا الكتاب في تزويد الدارسين والباحثين في النمو النفسي إلى طرق معالجة أكثر عمقًا لتقييم برامج الأطفال والشباب، وبإحساس أكثر إرهافًا لمبادئ النمو الإنساني.
والله ولي التوفيق.
المؤلفان.
1 / 11
طبيعة النمو الإنساني
مدخل
...
طبيعة النمو الإنساني:
مقدمة:
يخضع الكائن الحي الإنساني منذ لحظة التكوين حتى الوفاة للتغير المستمر، فهو ليس في حالة استاتيكية ساكنة، ولكنه ينمو خلال المراحل المتعاقبة التي يمر بها نموًّا يشمل كيانه ككل مركب: من النواحي الجسمية - التشريحية، والعقلية - المعرفية، والانفعالية، والاجتماعية، بما يحدد الخصائص التي تميزه كشخصية متفردة، ولا تقف التغيرات عند حدّ معين، ولكنها تستمر وإن كانت بمعدَّل أقل سرعة حتى التدهور الذي يخبره الكيان الإنساني في حالات الشيخوخة.
وهكذا يكون النمو عملية مستمرة تبدأ حتَّى قبل الميلاد، ولا سبيل إلى فهم الوليد البشري فهمًا حقًّا ما لم نتتبَّع عملية النمو الطويلة التي تطرأ عليه منذ نشأته خلية في بطن أمه حتى يبلغ النضج، فما مولد الطفل إلّا حادث واحد من سلسلة متتابعة من التغيرات، وليس بداية هذه التغيرات، غير أنَّ الفرد لا يكون دائمًا واعيًا بالتغيرات الجسمية والنفسية التي تحدث باستمرار، ففي السنوات المبكرة من الحياة، حينما تكون التغيرات سريعة في معدَّلها يكون الانتباه موجَّهًا إليها بسبب التوافقات المستمرة التي على الفرد أن يقوم بها حيال هذه التغيرات، كما أن هذه التغيرات تكون مرغوبة من الفرد؛ لأنها تدل على أنه آخذ في النمو، ولكن هذا الانتباه يتناقص تدريجيًّا مع اتجاه الفرد نحو الرشد؛ حيث يمثل كل تغير إعلانًا له وللعالم المحيط به أنه يأخذ في "التقدُّم في السن".
والاهتمام بظاهرة النمو من مختلف النواحي له تاريخ طويل، ولكن الدراسة العلمية لها تعتبر حديثة نسبيًّا، وكان مجال اهتمام تخصصات عدة، فلقد أصبحت ظاهرة النمو من أهم الموضوعات التي تدرسها علوم الحياة، كعلم الحياة التجريبي، وعلم الأجنَّة، كما أن فسيولوجيا النمو أصبحت علمًا ذا قيمة كبيرة في فهم الكائن الحي وفي التنبؤ بسلوكه، كما أنَّ علم التشريح قد أصبح شديد العناية بأصل التكوين العضوي، وقابلية هذا التكون للتعديل والتغير. وكذلك تبحث الكيمياء الحيوية في طاقات النمو وفي العوامل الشارطة المنظمة له "أحمد زكي صالح: ١٩٧٤، ٥٦". بالإضافة لذلك أصبح النمو الإنساني أرضًا مشتركة لعدد من العلوم الإنسانية والبيولوجية: كعلم النفس، وعلم الاجتماع، والأنثروبولوجيا، وعلم الأجنة، وعلم الوراثة. وفي الوقت الحاضر يتناول دراسة النمو الإنساني علمين أساسيين:
الأول: علم تطور الارتقاء النوعي phylogenesis وهو علم تطور النوع الإنساني home sapiens عبر المراحل التاريخية المختلفة للإنسانية، وهو موضوع علم التاريخ الطبيعي استنادًا إلى نظرية دارون.
أما العلم الثاني: فهو علم نمو الفرد ontogenesis ويتناول نمو الأورجانزم الفردي، وهو موضوع علم نفس النمو "التطوري" "genetic" drvelopmental psychology الذي يتناول بالدراسة العلمية مظاهر التغير التي يخبرها الكائن الحي الإنساني بهدف تفسيرها، والتنبؤ بها، وضبطها، وتوجيهها بما يحقق التطور الأمثل لنمو الطفل. "طلعت منصور، عادل الأشول: ١٩٧٦".
1 / 15
نبذة تاريخية عن نمو الطفل:
يعتبر علم نفس النمو فرعًا هامًّا من فروع علم النفس، ومجالًا يهتم بصفة عامة بدراسة التغيرات في السلوك على مدى حياة الكائن الحي، وقد كانت معظم الأبحاث والنظريات في مجال علم نفس النمو محصورة في مجال نمو الطفل، ومع أنه أحيانًا يستند إلى أبحاث أجريت على كائنات غير إنسانية، إلّا أننا نؤكد على العمليات المتعلقة بالتغير في السلوك الإنساني في فترة الطفولة المبكرة واللاحقة، ومن أهم الدراسات التاريخية وأغناها بالمعلومات، نجد أن أبحاث كيسن kessen "١٩٦٥" وستيفنسون stevenson "١٩٦٨"، وسيرز sears "١٩٧٥" قد أطاحت بالتأثيرات الفلسفية والاجتماعية التي شكلت هذا المجال، والتي سنقدمها هنا كتاريخ مختصر لعلم نفس الطفل.
ورغم أن الفلاسفة فكَّروا كثيرًا في طبيعة الطفل، والأسباب التي تؤدي إلى النمو، وكما أن الأباء وغيرهم من الكبار قد سجَّلوا كثيرًا من المعلومات المعقولة عن الأطفال، إلّا أن دراسة نمو الطفل لم تصبح مجالًا معترفًا به للبحث العلمي بالنسبة لعلماء النفس إلّا في أواخر القرن التاسع عشر، عندما قام ج. ستانلي هول stanly hall بتطبيق أعمال شارلز دراوين في مجال علم النفس، لقد وضع
1 / 16
دراوين حجر الأساس لهذه الدراسة بكتابة "أصل الأنواع" "١٨٥٩"، وبعده "أصل الإنسان" "١٨٩٧". وهذان المؤلفان عرضا أن: ملاحظة الوليد الإنساني قد تؤدي إلى التعمق في إدراك تطور الكائنات البشرية، وكان من أهم نتائج هذا العمل نشر عدد كبير من الكتب عن تاريخ حياة الطفل، كانت أول مصدر للمعلومات عن العديد من مظاهر نمو الطفل، سجَّلت التغيرات العظمى التي تحدث، مثل حجم مجموعة الكلمات، والتغيرات في النمو الجسمي، وقدَّمت معلومات عن نمو الشخصية، ولسوء الحظ فإن هذه الكتب كانت ظاهرة التحيز "أي: إن الآباء كانوا يميلون لرؤية ما يودون رؤيته في سلوك أطفالهم"، وأبرزت التغيرات في فترات غير منتظمة، كما أن مجالها كان محدودًا وافتقرت إلى التعميم. فضلًا عن ذلك، فإن ما اشتملت عليه من معلومات كانت ذات طابع وصفي بحت اعتمد على الملاحظة. إن تاريخ حياة الطفل قد أثار تساؤلات حول العمليات التي يقوم عليها نمو الطفل دون أن يقدِّم الإجابة عنها. مثال ذلك إن كثيرًا من المؤرخين في هذا المجال قد وصفوا مسار تقدّم النمو الحركي، ومع ذلك فإنهم لم يستطيعوا أن يقدّموا أي معلومات لتفسير السبب في هذا المسار، ورغم هذه الصعوبة، فإن هذه الكتب قد قدَّمت معلومات ذات قيمة عن أنماط النمو، وأثارت عددًا من المسائل الهامة حول عمليات النمو لا يزال الكثير منها موضع اهتمام كبير.
وكان ج ستانلي هول -الذي يسمَّى عادة بمؤسِّس علم نفس النمو- متأثرًا بدرجة كبيرة بنظرية داروين في التطور، وكان يعتقد أن "علم الوجود يجمع تاريخ
1 / 17
النشوء ontogeny recapitulates phylogeny، بمعنى أن نمو الفرد يعكس نموَّ الأنواع، ومن بين إنجازات "هول" أنه أدخل طريقة الأسئلة في دراسة علم نفس الطفل؛ حيث إن مطالبة الأطفال بالإجابة عن أسئلة محددة، أو مطالبة الأباء بالإجابة عن مجموعة من الأسئلة، قد مكَّنت هول من دراسة التغيرات في أنماط الاهتمامات والرغبات ومجموعة من أنماط السلوك الاجتماعي، هذا ولا تزال طريقة الأسئلة تستخدم على نطاق واسع الآن بعد تهذيبيها.
شكل "٢" إن تسجيل الآباء لتاريخ حياة الطفل يعد مصدرًا مهمًّا للمعلومات الوصفية القياسية عن نمو الطفل.
ولقد كان "هول" من أوائل الذين درسوا الطفل في المعمل، وكانت تجاربه الأولى مع الأطفال لا تزيد على كونها تدليلًا على أن الأطفال لديهم نفس العمليات النفسية التي تظهر في كلٍّ من الحيوانات الدنيا والإنسان البالغ "stevenson ١٩٦٨"، أمَّا البحث المنهجي في العمليات التي يقوم عليها نمو هذه القدرات فلم يكن له وجود يذكر، ولم يكن الهدف من هذه التجارب هو دراسة الأطفال كمجموعة فريدة، ولكن لتبيان أن الأطفال -مثلهم في ذلك كمثل الكبار- يمكنهم أن يتعلموا، وأن لهم ذاكرة وقدرات مستديمة، وأنهم يملكون العمليات النفسية العددية المفترض أنها أساسًا الوظيفة النهائية لدى الكبار، ومع أن هذا البحث لم يكن يهدف إلى نشر التغيرات النهائية في التعلم والذاكرة وغيرها من العمليات، إلّا أنه قد أوضح أن الأطفال يتبعون سلوكًا مغايرًا لسلوك الكبار. ونتيجة لذلك، فإن المعلومات المكتسبة من هذه التجارب قد ساعدت على نقص المفهوم القائل بأن "الطفل هو بالغ مصغر child is miniature، وعلى دراسة النمو النفسي للطفل كمجال معترف به كما هو.
1 / 18
الطبيعة الفطرية/ التنشئة/ nature nurture: ولعلَّ أهمَّ الموضوعات التي أثيرت في الفترة الأولى من تاريخ علم نفس الطفل هي ما إذا كان الأفضل اعتبار الطفل نتاجًا طبيعيًّا "لوراثة" أو تكوينيًّا "البيئة" "kessen، ١٩٦٥".
ومع أنَّ الفلاسفة قد كتبوا بإسهاب في هذا الموضوع على مدى قرون، إلّا أنه بلغ الذروة في موضوعات توارث الذكاء، فهل الذكاء -أساسًا- نتيجة للمادة الوراثية للكائن "الطبيعة الفطرية"، أو هو راجع بدرجة كبيرة إلى التأثيرات البيئية التي يعيش فيها الكائن، ومع تقدُّم اختبارات الذكاء أصبح الموضوع محل جدل ساخن، وقد أجري البحث الأول لوضع مقياس للذكاء في فرنسا بمعرفة ألفرد بينيه alfred binet، وتيوفيل سيمون theophlie simom "١٩١٦"، حيث ابتكرا اختبارًا للتمييز بين الأطفال بطيء التعلم والأطفال العاديين، وقد قام لويس تيرمان lwis terman، وهو أمريكي درس مع بنييه، قام بترجمة اختبار بنييه إلى الإنجليزية، وقد أدى استخدام مفهوم نسبة الذكاء "العمر العقلي/ العمر الزمني× ١٠٠" إلى ظهور عدد من الدراسات أدَّت إلى إذكاء حدة الجدل حول الطبيعة الفطرية/ التنشئة "البيئة" بالنسبة للذكاء، وما يزال هذا الجدل محور عدد من الموضوعات في دراسات علم نفس الطفل، بما في ذلك اضطرابات الشخصية وأنماط السلوك المتعلق بالجنس، وكذلك الذكاء.
1 / 19
"jensen ١٩٦٩"، ومع أن قدرًا كبيرًا من الأبحاث اهتمَّت بموضوع الطبيعة الفطرية/ التنشئة، فإنه وبعد حوالي مائة عام، ما يزال الموضوع غير محسوم.
سيجموند فرويد sigmond freud: وفي تلك الحقبة أيضًا من أواخر القرن ١٩ إلى أوائل القرن ٢٠، كان فرويد يضع نظريته عن النمو الجنسي النفسي "١٩٣٠"، لقد تلقَّى فرويد تدريبه كعالم نفس، واهتمَّ اهتمامًا كبيرًا بالأبحاث الطبية عندما دخل إلى عالم مزاولة الطب، ومن خلال خبراته مع المرضى الذين كانوا يعانون من أعراض هستيرية "مثال ذلك: شلل الذراع نتيجة اضطراب نفسي وليس جسماني"، ودراسته مع شاركو charcot، الذي حسّن من التنويم المغناطيسي وقام بتعليمه، أصبح فرويد مقتنعًا بأنَّ الخبرات في مرحلة الطفولة المبكرة ذات أهمية حيوية لحسن تفهُّم سلوك الكبار، وتلبية لدعوة تلقاها من ج س. هول، قام فرويد بزيارة جامعة كلارك في عام ١٩٠٨ لإلقاء سلسلة من المحاضرات يوضح فيها نظرياته في تأخّر النمو الجنسي في الأطفال، وأهمية الخبرات المبكرة في مرحلة الطفولة، ومع أن "هول" كان يشعر بأنَّ فرويد قد يقدّم للولايات المتحدة أفكار تتَّسم بالتحدي والإثارة، فإن علماء النفس الأمريكيين رفضوا مفاهيم فرويد رفضًا يكاد يكون تامًّا، وذلك لافتقارها للحيوية التجريبية، وكذلك لفكرة تأخُّر النمو الجنسي في الأطفال، والتي بدت فكرة وقحة، علاوة على ذلك فإنَّ علم النفس الأمريكي في ذلك الوقت كان يفسِّر النمو بواسطة مبادئ نظرية التعلم الخاصة بالتعزيز "التدعيم"، ولذلك فإن الكثير من مفاهيم فرويد مثل: "الهو" و"الأنا" و"الأنا العليا"، وهي التي لا تلاحظ، لم ينظر إليها كطرق معتمدة لتفسير السلوك، ومع أنه لم يلق اهتمامًا بأمره في مبدأ الأمر إلّا أنه أصبح فيما بعد الرجل الذي كان له، أكثر من أي رجل آخر، أعظم الأثر في تقدُّم علم نفس الطفل. إن تأكيده على أهمية الخبرات المبكرة في الطفولة المبكرة بالنسبة لنمو الشخصية على المدى الطويل، ونظريته القائلة بأن نموَّ الطفل يتم في مراحل متعاقبة -وهي أول نظرية تظهر في مجال "المراحل"- كان لها تأثير عميق في هذا الصدد. إن الأبحاث في مجال وسائل تربية الطفل، والأخلاقيات، ونمو الشخصية، كلها تدين بوجودها إلى قوة الدفع التي هيَّأتها نظريات فرويد.
أما أرنولد جيزل arnold gesell: فيعتبر من الشخصيات العظمى في مجال علم نفس الطفل في ذلك الوقت، الحاصل على بكالوريوس الطب ودرجة الدكتوراه في
1 / 20
علم النفس، وقد كان اهتمام "جيزل" في بداية أمره منصبًّا على أمراض النمو، ومن هنا كان له تأثير قوي على فكرة النضج، بقدر ما كان تأثير هول، وبدرجة أقل من فرويد، ولإمكان الحصول على معلومات حول النمو المرضي، قام جيزل "١٩٢٨-١٩٤٨" بدراسة أعداد كبيرة من الأطفال، ونشر مجلدات عديدة في وصف النمو الطبيعي، والنمو الشاذّ للأطفال وصفًا بالغ التفصيل، وقد قدَّم وصفًا للنمو الحركي، واللغوي والاجتماعي والشخصي، وكذلك النمو الجسمي بصفة عامَّة، منذ ولادة الطفل وإلى نهاية مرحلة المراهقة، مع معايير السنِّ بهدف أن تكون مرشدًا في الأغراض المقارنة. ومن هنا كانت تسمية هذه المعلومات بالمعايير القياسية normative، وبذلك أضفت أعمال "جيزل" لوجهة النظر الخاصة "بالنضج" طابعًا مميزًا في مجال النمو.
وللحصول على بيانات سليمة عن النمو الجسمي والاجتماعي للأطفال، فقد أجريت العديد من مشروعات البحث الطويلة في أوائل القرن العشرين، وما تزال باقية حتى اليوم "تكرار الاختبار لنفس الأشخاص"، فدراسات بيركلي berkeley عن النضج التي بدأت في عام ١٩٢٨، ودراسات معهد فلز feles institutes التي بدأت عام ١٩٣٠، قدَّمت كثيرًا من المعلومات عن كثير من مظاهر نمو وتربية الطفل؛ ففي دراسة فلز feles مثلًا: أخذت قياسات واسعة "شاملة" عن نموّ الشخصية، والمظاهر الجنسية، والعلاقات بين الوالدين والطفل، وعن النموّ الاجتماعي، وقدَّمت دراسات "بيركلي" معلومات غزيرة عن النمو الجسمي، ونموّ معدل الذكاء، لقد أصبح المشتركون في تلك الدراسات الآن كبارًا راشدين، لهم أطفالهم الذين يقومون بدراستهم أيضًا. وبالنسبة لطبيعة الدراسات الطولية "انظر الفصل الثاني" أمكن لتلك الدراسات أن تقدِّم معلومات كثيرة عن الاتجاهات النمائية من بداية الطفولة إلى الطفولة المبكرة وحتى البلوغ، وتشمل تأمّلات عميقة في النمو العقلي والاجتماعي.
وقد أمكن للبيانات المعيارية "المستعرضة" وهي معلومات عن متوسط النمو في مجموعات سن مختلفة، مثل: مجموعات جيزل، أو تلك المستقاة من الدراسات الطولية الواسعة مثل: بيانات الملاحظة من واقع تواريخ حياة الأطفال، أمكَن لهذه البيانات أن تقدّم خلفية هامَّة من المعلومات عن نموِّ الطفل، ومثل هذه المعلومات ضرورية لتحديد الموضوعات التي تتطلب بحثًا، مثال ذلك، كيف تؤثر
1 / 21
التنوعات في وسائل تربية الطفل على نموِّ الشخصية؟ وما هو دَوْر النمو الجسمي؟ وما هي مزايا وأضرار النضج المبكِّر أو المتأخِّر؟ غير أنّ البيانات القياسية نادرًا ما تستطيع أنْ تقدِّم إجابات محددة عن مسائل الأبحاث أو عن الافتراضات المشتقة من نظريات تبادلية حول مختلف مظاهر النموّ، ذلك لأنَّها تهدف إلى الوصف وليس للعمليات، ونتيجة لذلك، فإن علماء النفس قد حوَّلوا أبحاثهم تدريجيًّا من المواقف الطبيعية إلى المعمل، وكان المعتقد أنَّ أعظم درجات السيطرة على المتغيرات الطارئة، والقدرة على معالجة المتغيرات، يمكنها أن تساعد على تحديد أسباب النمو. وكما ذكر ماك كال mc call "١٩٧٧" فإن مزايا البحث المعلمي يمكن أن تتفوَّق عليها الأضرار الناجمة عن عدم دراسة التغير في السلوك عند حدوثه طبيعيًّا. غير أن هذه المسألة يمكن حلّها، فقد عرف علماء النفس الكثير من الأبحاث المعملية التي لم يكونوا ليعرفوها بطريقة أخرى.
شكل "٥"
من جوانب اهتمامات علم نفس النمو دراسة واستطلاع الفروق الجنسية في العمليات النمائية.
جان بياجيه jean piaget:
وفي هذه السنوات القليلة لدراسة الطفولة، عندما كان معظم علماء النفس يهتمون بوصف نمو الطفل الجسماني والاجتماعي، قام جان بياجيه "١٩٢٦، ١٩٢٩، ١٩٥٢" بإجراء بحوث ووضع نظرية عن النمو المعرفي للطفل، وبياجيه كخبير بيولوجي يهتمّ بالوظائف التكيفية للسلوك adaptive functions of behavior، وطبقًا لتقليد فرويد وهول وجيزل، فإنه كان يميل نحو نظرية حول النضج.
وقد حدث تأثيرة الأساسي في علم نفس الطفل نتيجة نظرية شاملة عن المراحل في نمو العمليات المعرفية. ومثله في ذلك كمثل "فرويد"، فنجد أن بياجيه
1 / 22
نص على وجود آليات داخلية غير منظورة "مثل الاستيعاب assimilation" كان المعتقد أنها مسئولة عن مسار النمو المعرفي. وكفرويد أيضًا، لم تلق كتابات بياجيه اهتمامًا في مبدأ الأمر من جانب علماء النفس الأمريكان، ولم تكتسب انتشارًا إلّا في أواخر الخمسينات وأوائل الستينات، أما اليوم فإن نظرية بياجيه وأبحاثه هي الأساس لعدد كبير من التجارب التي نشرت في مجال علم نفس الطفل.
السلوكية behaviorism: ظلَّت نظريات النضج لعدة سنوات هي المحاولات الوحيدة نحو تحقيق تعريف متماسك لنمو الطفل، غير أنه في عام ١٩١٣ قام جون واطسون john s watson مستندًا إلى الحركة الفلسفية المعروفة باسم الوضعية المنطقية logical positivism، بتقديم عصر السلوكية، التي ارتبط غالبًا بأصحاب نظريات التعلم، وكان الوضعيون المنطقيون يهتمّون بفلسفة العلم، ودراسة الكيفية التي يجب أن يعمل بها العلم "pepper ١٩٤٢ stevens"، ووضعوا عددًا من المفاهيم تتضمَّن التأكيد على أنَّ العلم يجب أن يتعامل فقط مع الأحداث التي يمكن ملاحظتها وقياسها، وكان معنى ذلك بالنسبة لواطسون الاهتمام بالسلوك الظاهر، وقد دفعت نظرياته بعد ذلك إلى وضع النظرية السلوكية، والتي تنصّ على أنَّ علم النفس يجب أن يقتصر اهتمامه على السلوك الظاهر والمبادئ التي تحكم طريقة تعلمه وتعديله.
وبصفة عامة، أخذت السلوكية تشمل تدريجيًّا كل مجالات علم النفس بما في ذلك علم نفس النمو، وذلك كرد فعل للمفاهيم الأخرى الأقل ملاحظة في نظرية التحليل النفسي، والآراء النضجية المتطرفة "البيولوجية" كوجهة نظر هول وجيزل، أما واطسون، كمؤيد أساسي لوجهة النظر البيئية "التنشئة" للنمو النفسي، ذكر أن الهدف الأصلي الوحيد للدراسة كان هو السلوك الملحوظ. علاوة على ذلك فإنه كان
1 / 23
يعتقد اعتقادًا راسخًا بأن المعالجة التجريبية، التي تلخصها الأبحاث المعملية والاصطلاحات والإجراءات المحددة التعريف، هي الطريقة الأصلية الوحيدة للدراسة العلمية، وكان واطسون يرى أن الفحص الذاتي "الاستبطان" introspection، والدراسات الإكلينيكية للحالات، والنظريات التي لا تستند إلى قاعدة عن المعلومات الاختبارية، والوسائل والخطط غير التجريبية الأخرى، كان يراها وسائل غير منتجة في مجال بحث السلوك، ذلك لأنَّها غير قصدية، ولا يمكن التحقق منها بسهولة، وهو يعتقد أن المبادئ الأساسية للتعلُّم؛ كأساليب المكافأة والعقاب reward & punishment يمكن أن تطبَّق على مسائل معينة مثل: تربية الطفل، وذلك بنجاح أكبر من أفكار فرويد عن اللاشعور، أو الهو، أو الأنا، أو الأنا العليا.
وقد كانت تجاربه الشهيرة عن تعلُّم الطفل للخوف "ارتباط شرطي conditioning "watson ١٩٢٠" من بين محاولاته الأولى لتبيان أن النمو في هذه الحالة من الانفعالات، يمكن تفسيره بسهولة دون الرجوع إلى أكثر من الأحداث الممكن ملاحظتها مثل المثيرات والاستجابات، ويعد كتاب سكينر b. f. skinner "١٩٧١" في إطار التقليد السلوكي. وسكيز مثله في ذلك كمثل واطسون مؤيد قوي لمعالجة نظرية التعلُّم فيما يختص بالنمو الإنساني.
وجزئيًّا كنتيجة لتأثير واطسون، أُجْرِيَ في المعمل قدرٌ كبير من البحوث المنهجية والتجريبية عن نمو الطفل، وكان التركيز الأساسي في هذه البحوث ينصبُّ على التوصّل إلى حلول المشاكل في مجال التعلُّم، وأمراض الأطفال، والعناية بالطفل، والأهم من كل ذلك تربية الطفل "stevenson، ١٩٦٨"، وهنا كان يجري التدقيق في بحث مفاهم "فرويد" بحثًا منهجيًّا بواسطة علماء النفس الأمريكيين، ووصل تأثير ذلك إلى البيت الأمريكي من خلال الصحف والمجلات الشعبية، ونتيجة لذلك صار الآباء راغبون في معرفة الطريقة الصحيحة لتنشئة أطفالهم، وابتداءً من أوائل النصف الأول من القرن العشرين، أُجْرِيَت أبحاث في إطار أعمال المدرسة السلوكية وأعمال فرويد، عن بعض المسائل مثل: آثار التغذية من ثدي الأم أو من الزجاجة، والتغذية بناءً على الحاجة، أو طبقًا لنظام محدَّد، والتدريب على الإخراج مبكرًا أو متأخرًا، ويبدو الافتقار إلى إجابات محددة عن
1 / 24
هذه الأسئلة من الطبيعة الدورية للنصائح التي تقدّم للآباء، مثال ذلك: نجد أن النصيحة المشددة لتغذية الطفل عن طريق ثدي الأم قد تلتها نصيحة لا تقل شدة لاستخدام الزجاجة، وبالمثل: فإن النصح بالتدريب المبكر على الإخراج قد تلاه نصح بالتأخير في هذه التدريب، ومع تزايد الأبحاث أخذ البرهان يبدو أكثر تناقضًا، ولا تزال هذه المشاكل بدون حل، وحتى اليوم ما تزال الأبحاث في هذا الصدد مستمرة.
ومن المحتمل أن يكون عجز البحث عن الإجابة عن هذه الأسئلة إجابة واضحة راجعًا ولو جزئيًّا، إلى اهتمام الباحث بالتركيز على هدف واحد، وهو سلوك الطفل ونموه، واستبعاد صفات الأبوين، وتركز الأبحاث الجارية ليس فقط على الطفل، ولكن أيضًا على صفات الوالدين، والأهم من ذلك صفات العلاقات بين الوالدين والطفل. مثال ذلك: أن ماري أينسورث mary ainsworth "١٩٧٣" قد بحثت وسائل تربية الطفل، والعلاقات بين الوالدين والطفل وأثره في نمو التعلق، وثمة مثل هام آخر، هو بحث إلدر elder "١٩٦٢، ١٩٦٣" بشأن العلاقة بين صراعات المراهق نحو الاستقلال، والوسائل التي يتبعها الوالدان في تربية الطفل، وكنتيجة للتحسينات في استراتيجيات البحث أمكن الآن التوصل إلى دلائل أفضل لتأثيرات وسائل معينة في تربية الطفل.
وثَمَّة عقبة أخرى في سبيل تزويد الوالدين والمربين بإجابات محدَّدة وواضحة عن الأسئلة المتعلقة بتربية الطفل والتعلّم، تلك هي أن بعض المجالات النظرية المتعارضة تؤدي أحيانًا إلى نتائج متشابهة، وقد كان من الصعب القيام بتجارب حاسمة تبيِّن أن النظريات قد تكون هي الأفضل.
إن أنصار السلوكية يقولون: إن السلوك الممكن ملاحظته هو وحده الذي يجب دراسته أولًا من خلال وسائل تجريبية محكمة، دون الالتجاء إلى الآليات الداخلية غير الملحوظة لتفسير النمو، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن الذين يفضِّلون المعالجة العضوية organic appoach يقولون بصحة دراسة الآليات التي لا تلاحظ مباشرة "مثال ذلك: مركبات الشخصية: كالأنا، أو مظاهر الوظيفية الفعلية مثل: التكوينات المعرفية"، وقدَّموا طرقًا للمعالجة التجريبية أكثر مرونة وتنوعًا؛ ويعكس هذا الصراع جزئيًّا موضوعًا ثانيًا هامًّا متشابك مع كل مراحل
1 / 25
علم نفس الطفل، ذلك هو: هل الأفضل النظر إلى الطفل كحزمة من عناصر "مثير - استجابة" s. r "معالجة نظرية التعلم"، أو كمجموعة من التكوينات المتكاملة "المعالجة المعرفية، النمائية" "kersen، ١٩٦٥"؟، وهناك موضوع أساسي آخر هو: هل الأفضل اعتبار الطفل كمستطلع نشط active explorer، أو مستقبل سلبي passive receiver للمثيرات البيئية "kessen، ١٩٦٥"؟ وهذان الموضوعان مثلهما كمثل الجدل حول "الفطرة، التنشئة"، أو أثر الوراثة والبيئة يختصان بطبيعة الكائن الحي.
وبالرغم من الحجج التي قدَّمها واطسون، فإن تركُّز البحث في موضوع نمو الطفل لم يتحوّل عن السمة الوصفية القياسية إلى المعالجة التجريبية، ولم يتمّ التأكيد على بناء النظريات واختبارها إلّا في منتصف القرن العشرين. وكان أنصار السلوكية يعتقدون أن المعالجة التجريبية يمكن استخدامها لتحديد علاقات السبب والنتيجة بين المثيرات البيئية ونمو الطفل، وكذلك لاكتساب نظرة عميقة للعمليات النفسية التي يتضمَّنها النمو، ونتيجة لذلك فإن الكثير من الأبحاث الحالية عن الطفولة تتركَّز على اختبار النظريات التبادلية بشأن عمليات النمو النفسي، ومعنى ذلك أن عمل هذه الأبحاث هو أساس ذو اتجاه عملي "تفاعلي" أكثر مما هو وصفي قياسي بطبيعته. ويعتقد كثيرون من علماء النفس أنه باختبار مختلف النظريات الخاصَّة بالنموّ، نكتسب نظرة أعمق إلى أسباب النمو الطبيعي والشاذّ، وبالتالي التوصل إلى تفهُّم معقول لطبيعة التركيب الإنسان الحي. ويقوم علماء النفس المتخصصون في النمو بالأبحاث سواء في المعمل أو في أوضاعٍ طبيعية لاختبار فروض النظريات، ويقومون بتطوير نظريات يمكن استخدامها لوضع القرارات حول تطبيقاتها العملية بشأن النموّ، وبهذه الطريقة: فإن الأبحاث التي قد تبدو لأول وهلة معدومة الصلة بمشاكل "العالم الحقيقي" فيما يختص بالنمو، تسهم إسهامًا ذا دلالة في سبيل إسعاد الأطفال.
وهناك حدثان هامَّان آخران في مجال علم نفس النمو حَدَثَا في الولايات المتحدة خلال ربع القرن الأخير، وأولهما: هو إعادة اكتشاف نظريات بياجيه، فعندما وجد علماء النفس الأمريكيين أن المعالجة السلوكية ليست مرضية بالقدر الذي تصوروه، أي: إنهم وجدوها عاجزة عن تفسير كثير من مظاهر النمو، بدأوا
1 / 26
في تطبيق المعالجة التجريبية في دراسة مفاهيم بياجية. إن لبياجيه اليوم تأثير على الأبحاث وبناء النظريات من جانب علماء النفس الأمريكيين أقوى من تأثير أي فرد آخر. والحدث الثاني: هو البحث الذي قام به علماء النفس الروسيين "مثل لوريا luria ١٩٦٦" والذي يعتبر أساسًا ذا طابع نفسي جسمي، والذي بدأ يضفي تأثيرًا واضحًا على الفكر الأمريكي حول نمو الطفل، ويمكن ملاحظة هذا التأثير مثلًا: في الأبحاث التي تتعلّق بالفعل المنعكس التوجيهي orienting reflex، وقد أحدث كل من هذين التأثيرين تغييرًا كبيرًا في نظرتنا للأطفال وللنمو، كما قدَّم نظرات متعمقة جديدة إلى متغيرات الوظيفية النفسية للإنسان.
وكما يتبين من هذا التاريخ المختصر لبعض النقاط الرئيسية في مجال علم نفس النمو، فإن المجال دائم التغير، ومن الصعوبة بمكان حاليًا تحديد الاتجاهات المباشرة التي سيتخذها الموضوع. غير أنه يبدو واضحًا أن ثَمَّة تأكيد ما سوف يتمثَّل في جهد قوي للجمع بين النظرية والبحث خارج حدود نظرية التعلّم.
وليس معنى ذلك أنَّ البحث من منطلق نظرية التعلُّم سوف يتوقّف، بل إن الأمر عكس ذلك، فإن التطورات المثيرة المنبثقة من بحث مثل بحث بياجيه، تعمل على توسيع آفاقنا في مجال الطفل، ونتيجة لذلك، فإن علماء النفس المهتمين بالنموّ يطرحون أسئلة جديدة مثيرة للاهتمام لم يكونوا يطرحوها من قبل، ويبدو أن طريقتي المعالجة السلوكية والعضوية لدراسة الأطفال تكمِّلان إحداهما الأخرى؛ لتكونا صورة أكثر اكتمالًا للأطفال ونموهم، مما استطاعت كلٌّ مهما أن تقدمه بمفردها.
وعلى صفحات هذا الكتاب، سوف نجري المقارنة والتقريب بين وجهتي النظر هاتين في محاولة للإجابة عن السؤال: ما هي الطريقة المثلى لعرض التكوين النفسي للطفل؟ وكيف نستطيع عرض العمليات النفسية الخاصة بالنمو أفضل عرض؟ وسوف تساعد هذه المقارنة على تحقيق هدفين، الأول: هو أنها سوف تهيئ أساسًا ذا اتساع مناسب لتفهُّم الفكر والطرق الحالية في مجال البحث في نمو الطفل، والثاني: أنها سوف تساعد على تقديم مزيد من المعلومات للرد على الموضوعات التي قدَّمناها عالية أكثر من مجرد وجهة نظر، ومع أن ذلك قد يبدو مربكًا أحيانًا، إلّا أنَّ تفهم نمو الطفل يتطلّب منَّا الإلمام بوضوحٍ بوجهات النظر المعارضة.
1 / 27
موضوع علم نفس النمو:
علم نفس النمو أحد فروع علم النفس، ويهتم بدراسة الكائن الإنساني منذ تكوين البويضة المخصَّبة داخل رحم الأم، ونموّ الجنين في فترة الحمل، فالولادة، ثم بعد الولادة رضيعًا، فطفلًا، فمراهقًا، فشابًّا، فرجلًا، فكهلًا "نابغة قطامي، محمد برهوم: ١٩٨٩، ١٢".
ولقد تعددت تعريفات علم نفس النمو ومجال دراسته، إلّا أنها تشير في معظمها -صراحة أو ضمنًا- إلى أنه:
"الدراسة العلمية لكافَّة التغيرات التي تحدث للكائن الحي الإنساني خلال دور الحياة life cycle "خلال المراحل الحيوية" في سلَّم تصاعدي في مقتبل العمر، ثم في هضبة العمر، وختامًا في سلَّمٍ تنازلي في أواخر العمر؛ بحيث تتناول مظاهر التغيُّرات المختلفة في كل مرحلة من النواحي: الجسمية، والعقلية، والانفعالية، والاجتماعية، والسلوكية، كما تتناول الكيفية التي يكتسب بها الطفل الخبرات والمهارات المختلفة، وطرق تفكيره، وأساليب تعلمه -بهدف وصف هذه المظاهر وبيان ارتباطها مع بعضها ومع غيرها: كالتكوين البيولوجي والعوامل الوراثية والبيئية، والكشف عن كل ما يؤثر عليها سلبًا أو إيجابًا، والتوصُّل إلى القوانين والمبادئ المنظَّمة للتغيرات النمائية بغية تحقيق أهداف نظرية وتطبيقية، مستخدمة في ذلك المنهج العلمي لبيان أنواع السلوك المميزة لكل مرحلة من مراحل العمر الزمنية، وبحيث تمدنا هذه الدراسات بالمعلومات التي تجعلنا أكثر قدرة على فهم شخصية الطفل وسلوكه وأهدافه واتجاهاته وميوله، ومشكلاته، وتجعلنا أقدر على توجيهه وتربيته" "حامد زهران: ١٢، ١٩٧٧، عبد الحميد الهاشمي: ١٦، ١٩٨٠، عبد الرحمن عيسوي: ١٩٨١، ١٧، عماد الدين إسماعيل ومحمد غالي: ١٩٨١، ١٨، طلعت منصور وآخرون: ١٩٨٦، ٢٢، طلعت عبد الرحيم: ١٩٩٠، ٢٨، محمود عطا: ١٩٩٢، ٢٩".
وبهذا المعنى: أصبح علم نفس النمو يشتمل على الميادين التالية:
١- سيكولوجية الطفولة.
٢- سيكولوجية المراهقة.
٣- سيكولوجية الرشد والشيخوخة.
ولقد أقرَّت اليهئات والمنظَّمات المختلفة لعلماء النفس هذا العلم بهذا الاسم "علم نفس النمو"، منذ عام ١٩٥٤، واندمجت أقسامها المتخصصة في الطفولة والمراهقة في قسم واحد متخصص في دراسة ظاهرة النمو النفسي، وهذا يعني: أن الخواص المختلفة الظاهرة النمو أصبحت واضحة المعالم، وتمايزت في خصائصها عن أطوارها، واستقامت كميدان مستقلٍّ من ميادين علم النفس الحديث.
1 / 28
معنى النمو:
كلمة النمو في مبدأ الأمر اصطلاح بيولوجي يختص بالزيادة الجسمية الملحوظة في حجم أو تركيب الكائن الحي في فترة الزمن، وعند استخدام هذه الكلمة في العلوم السلوكية فإنها تدل على التغيرات المستمرة في الوظائف التكيفية المرتبطة بالزمن، وكثير من الباحثين يستخدم كلمة النضج للدلالة على النمو العضوي، في حين أن كلمة النمو تتعلق بالنمو الاجتماعي والنفسي، والنمو بهذا المعنى يدل على تكامل التغيرات البنائية والوظيفية والسلوكية التي تكون الشخصية الفردية.
ويمكن تعريف النمو بأنه: "تتابع لمراحل معينة من التغيرات التي يمر بها الكائن الحي في نظام واتساق".
وهنا: يجب التفرقة بين النمو والتغير؛ فالتغير يدل على الانتقال من حالة إلى أخرى، في حين أن النمو ينصبُّ على عناصر التغير الدينامية "الحركية" في اتجاه واحد. وعلى ذلك: فإن النمو يعتبر عملية، أما التغير فهو نتاج، ويحدث النمو داخل أجهزة تحددها تركيباتها وعملياتها الحركية الكامنة.
ومن المعروف أن الكثير من التغيرات التي تحدث في المراحل الأولى من الحياة تتجه نحو تحقيق غرضي ضمني هو النضج والبناء، أمَّا التغيرات التي تحدث في أدوار متعاقبة من حياة الإنسان، وخاصَّة في دوري الشيخوخة والهرم؛ فهي من النوع الهدام، أي: الذي ينهي الحياة. من هنا: فقد عرَّف البعض النمو بأنه:
1 / 29