علم اللغة
علم اللغة
ناشر
نهضة مصر للطباعة والنشر
شماره نسخه
الأولى
ژانرها
مقدمات
إطراء مجمع اللغة العربية لكتابي علم اللغة وفقه اللغة
...
إطراء مجمع اللغة العربية لكتابَيّ: "علم اللغة" و"فقه اللغة":
مجمع فؤاد الأول للغة العربية في ١٨/ ٦/ ١٩٤٥
حضرة الأستاذ الدكتور علي عبد الواحد وافي
عرض على لجنة الأدب في المجمع كتابكم "علم اللغة" وصنوه "فقه اللغة"، وقد حمدت لكم اللجنة ما بذلتم من جهد في البحث والدرس والاستخلاص؛ فقد حوى هذان الكتابان من مختلف مسائل اللغة، وعالجا من مشكلاتها ما تمس إليه حاجة الباحث المتطلع، وقد انتهجتم في التأليف طريقةً علمية حقيقةً بالتقدير، وبسطتم من المعلومات ما يدل على غزارة مادةٍ وحسن إحاطةٍ، وكان لما أيدتم أو فندتم من وجهات النظر المتباينة مظهر من استقلال الرأي.
وإننا إذ نشكر لكم هذا المجهود في التأليف، نرجو لكم المزيد من التوفيق، وتقبلوا أطيب تحياتي.
١٨/ ٦/ ١٩٤٥
رئيس المجمع
أحمد لطفي السيد
1 / 3
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الطبعة الأولى ١:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسان.
وبعد، فمنذ عهد بعيد، وخاصةً منذ أن كُشِفَت اللغة السنسكريتية، لم تنفك موضوعات علم اللغة موضع عناية عدد كبير من أعلام الباحثين في أمم الغرب، وقد بُذِلَت في هذا السبيل جهودٌ قيمةٌ مشكورةٌ بلغ بفضلها هذا العلم درجةً راقيةً من النضج والكمال، فوضحت حدوده ومناهجه، وهذبت أساليبه وطرق دراسته، وتميزت فروعه بعضها من بعض، واختص في كل فرع منها عدد كبير من العلماء، فتوفروا على دراسته، وقتلوا مسائله بحثًا، ومن ثَمَّ أصبحت مراجع هذا العلم من أكثر مراجع العلوم عددًا، وأوسعها نطاقًا، وأدقها بحثًا، وأجلها قيمةً.
وعلى الرغم من ذلك، لم يكتب فيه باللغة العربية -على ما أعلم- مؤلف يعتد به، اللهم إلّا بعض كتب قديمة تمثل هذه البحوث في أدوار طفولتها الأولى، بل في أدوارها السابقة للطفولة، ولا تكاد اليوم -وقد أيفع هذا العلم- تنقع من صدًى ولا تسمن من جوع.
حيال هذا، رأيت أن الواجب يحتِّمُ عليَّ -وقد وقفت قسطًا من جهودي على هذا العلم، وقمت بتدريسه مدة طويلة- أن أقول بأول
_________
١ ظهرت الطبعة الأولى لهذا الكتاب حوالي سنة ١٩٤٠.
1 / 4
محاولةٍ في هذا السبيل، فكتبت هذه العجالة، معتمدًا فيها على طائفة كبيرة من أوثق المصادر العربية والإفرنجية التي يرى القارئ بعضها مشارًا إليه في ثنايا تعليقاتنا، وبعضها مدونًا في ثبت المراجع في آخر الكتاب.
ولم آل جهدًا أن أوفق بين غرضين، ليس من اليسير التوفيق بينهما: أحدهما ألَّا أغادر ناحية من النواحي البارزة في هذا العلم إلّا عرضت لها، مناقشًا أهم ما قيل فيها، ومدليًا بما يصح الركون إليه في صددها؛ والآخر مراعاة الإيجاز في علاج الموضوعات حتى لا أتجاوز النطاق الذي رسمته لهذه العجالة، والذي ينبغي أن تكون عليه أول محاولة.
والله أسأل أن يتيح متابعة ما بدأته وتنقيحه وتكملته، وأن يهيئ لنا من أمرنا رشدًا.
دكتور: علي عبد الواحد وافي
1 / 5
تمهيد في التعريف بعلم اللغة
١- البحوث اللغوية وما يدخل منها تحت علم اللغة:
ترجع أهم البحوث اللغوية إلى الموضوعات التالية:
١- البحوث المتعلقة بنشأة اللغة الإنسانية، والأشكال الأولى التي ظهر فيها التعبير، والأدوار التي اجتازها حتى وصل إلى مرحلة الأصوات ذات الدلالات الوضعية، والأسس التي سار عليها الإنسان، والنماذج التي احتذاها في وضع الكلمات وفي تعيين مدلولاتها، ونشأة مراكز اللغة في النوع الإنساني ... وما إلى ذلك من البحوث التي تعالج اللغة في أدوار نشأتها الأولى. ويطلقون على هذا الفرع من البحوث اللغوية اسم "أصل اللغة" أو "نشأة اللغة" "Origine du Langage".
وكل ما يذهب إليه الباحثون بهذا الصدد -كما سيظهر في الفصل الأول من هذا الكتاب- يتألف من آراء ظنية تعتمد في بعض نواحيها على الحدس والتخمين، وفي نواحٍ أخرى على حجج ضعيفة لا يطمئن إلى مثلها التحقيق العلمي، وهكذا شأن جميع البحوث التي تعرض لأصول النظم الإنسانية.
ولذلك يرى كثير من العلماء إخراج هذا الموضوع من نطاق علم اللغة وإلحاقه بالبحوث الفلسفية الميتافيزيقية؛ لأن منهج البحث فيه لا يتفق في شيء مع ما ينبغي أن تكون عليه مناهج البحث في العلوم -وهذا الرأي هو السائد الآن، ولذلك لا يكاد المحدثون من
1 / 6
علماء اللغة يعرضون لهذا الموضوع، وإن عرضوا له تناولوه على أنه دخيل على مادتهم، ومثال من البحوث اللغوية في أدوراها الأولى.
٢- البحوث المتعلقة بحياة اللغة وما يطرأ عليها من غنًى وفقرٍ، وسعة وضيق، وعظمة وضعة، وما تتعرض له من انقسامها إلى لهجات، واستحالة هذه اللهجات مع الزمن إلى لغات مستقلة، وتعدد مظاهرها تبعًا لتعدد فنونها ووجوه استخدامها، وما تقوم به من صراع مع غيرها، وما ينجم عن هذا الصراع من انتصار أو هزيمة، واحتلالها مناطق جديدة، أو تخليها عما كانت تملكه، وما يؤول إليه أمرها من شيخوخة وهرم وفناء، وما تتمثل فيه ظواهر انحلالها؛ من اختفاء من عالم المحادثة والكتابة ودروس آثارها، أو اختفاء من المحادثة وحدها، أو اختفاء من المحادثة والكتابة مع بقائها في المعجمات والمؤلفات، وعوامل كل ظاهرة من هذه الظواهر ونتائجها والقوانين الخاضعة لها. ويطلق على هذا البحث اسم "حياة اللغة" "Vie du Langage".
ومن أهم فروع هذا البحث وأوسعها نطاقًا فرع يُسَمَّى: "الدياليكتولوي" "Dialectologie" أي: علم اللهجات ... وموضوعه: دراسة الظواهر المتعلقة بانقسام اللغة إلى لهجاتٍ تختلف باختلاف البلاد أو باختلاف الجماعات الناطقة بها ... وما إلى ذلك.
٣- دراسة الأصوات التي تتألف منها اللغة، وبيان أقسامها وفصائلها، وخواص كل قسم ومخارجه، وما تعتمد عليه من أعضاء النطق، وطريقة إحساس السامع بها، واختلاف النطق بالحروف، واختلاف الأصوات التي تتألف منها الكلمة في لغةٍ ما باختلاف عصورها والأمم الناطقة بها، والعوامل التي تنجم عنها هذه الظواهر، والنتائج اللغوية التي تترتب على كلٍّ منها، والقوانين التي تخضع لها ... وما إلى ذلك.
ويطلقون على هذا البحث اسم: "الفونيتيك" "Phonétique"، أي: "علم الصوت".
٤- دراسة اللغة من حيث دلالتها، أي: من حيث أنها أداة للتعبير
1 / 7
عما يجول بالخاطر، ويطلق على هذا البحث اسم "السيمنتيك"١ "Sémantique" أي: "علم الدلالة"، ومن "الفونيتيك" و"السيمنتيك" "علم الصوت وعلم الدلالة" يتألف أهم فروع علم اللغة وأدقها وأكثرها نضجًا.
وينتظم علم الدلالة بحوثًا كثيرة، استقلَّ الآن كل منها عما عداه، وأصبح موضوع شعبة دراسية قائمة بذاتها. وأهم هذه البحوث ما يلي:
"أ" البحث في معاني الكلمات، ومصادر هذه المعاني، واختلافها في لغة ما باختلاف عصورها، والأمم الناطقة بها، وموت بعض معاني الكلمة ونشأة معانٍ جديدة، والعوامل المختلفة التي ترجع إليها هذه الظواهر، والنتائج اللغوية التي تترتب على كلٍّ منها، والقوانين التي تخضع لها في سيرها.. وما إلى ذلك، ويطلق على هذا البحث اسم "ليكسيكولوجيا" "Lexicologie" أي: "علم المفردات".
"ب" البحث في القواعد المتصلة باشتقاق الكلمات وتصريفها، وتغير أبنيتها بتغير المعنى، وما يتصل بذلك. ويطلقون على هذا البحث اسم "المورفولوجيا" "Morphologie" أي: "علم البنية" وهو ثلاثة أنواع:
"الموفولوجيا التعليمي" أي: "علم البنية التعليمي"، وهو الذي يدرس القواعد السابق ذكرها في لغة ما؛ لمجرد جمعها وترتيبها وتنسيقها حتى يسهل تعلمها وتعليمها، ومراعاتها في الحديث والكتابة، ومن هذا النوع علم الصرف في اللغة العربية.
"الموفولوجيا التاريخي" أي: "علم البنية التاريخي"، وهو الذي يدرس هذه القواعد في لغةٍ ما دراسةً تاريخيةً تحليليةً، فيدرس
_________
١ يرجع الفضل في وضع هذا الاسم إلى العلامة بريال "M. Bréal".
1 / 8
الأشكال التي كانت عليها في أقدم مراحل هذه اللغة، وما طرأ عليها من تغير في مختلف العصور والأمم، وعوامل تطورها ونتائجه، والقوانين التي تسير عليها في مختلف مظاهرها ... وما إلى ذلك.
"الموفولوجيا المقارن" أي: "علم البنية المقارنة"، وهو الذي يدرس القواعد السابقة دراسة تاريخ وتحليل ومقارنة في فصيلة من اللغات الإنسانية أو في جميع اللغات؛ فهو يمتاز عن الشعبة السابقة بالموازنة التي يجريها بين اللغات فيما يتعلق بقواعد البنية في كلٍّ منها.
هذا، والقسمان الأخيران هما اللذان يدخلان في نطاق علم اللغة، أما القسم الأول وهو "المورفولوجيا التعليمي" فليس من بحوث علم اللغة، بل من بحوث القواعد التعليمية.
"ج" البحث في أقسام الكلمات "تقسيم إلى اسم وفعل وحرف ... إلخ" وأنواع كل قسم ووظيفته في الدلالة، وأجزاء الجملة وترتيبها، وأثر كل جزء منها في الآخر -من ذلك مثلًا تأنيث كلمة أو تذكيرها أو جمعها أو تثنيتها ... تبعا لحالة كلمة أخرى في الجملة، وعلاقة أجزاء الجملة بعضها ببعض وطريقة ربطها، وتقسيم العبارة إلى جمل، وترتيب هذه الجمل، وطريقة وصلها أو فصلها ... وما يتصل بذلك، ويطلق على هذا البحث اسم "السنتكس" "Syntaxe" أي: "علم التنظيم"، وينقسم الأقسام الثلاثة نفسها التي انقسم إليها "المورفولوجيا" أو "علم البنية"، أي: إلى تعليمي وتاريخي ومقارن:
"فالسنتكس التعليمي" أي: علم التنظيم التعليمي، هو الذي يدرس قواعد التنظيم في لغةٍ ما؛ لمجرد جمعها وترتيبها وتنسيقها حتى يسهل تعلمها وتعليمها واحتذاؤها في الحديث والكتابة -ومن هذه الشعبة بعض أبواب النحو والمعاني في اللغة العربية.
"والسنتكس التاريخي" أي: علم التنظيم التاريخي، هو الذي يدرس قواعد التنظيم في لغة ما دراسة تاريخية تحليلية.
1 / 9
"والسنتكس المقارن" أي: علم التنظيم المقارن، هو الذي يدرس قواعد التنظيم دراسة تاريخ وتحليل ومقارنة في فصيلة من اللغات أو في جميع اللغات.
والقسمان الأخيران هما اللذان يعدان من فروع علم اللغة، أما "السنتكس التعليمي" فليس من بحوث هذا العلم.
هذا، ومن "المورفولوجيا" و"السنتكس" أي: علم البنية وعلم التنظيم، يتألف ما يسمونه "الجرامير" "Grammaire" أي: القواعد، ومما تقدَّمَ يتبين لك أن دراسة الجرامير بفرعيها، تكون تارةً تعليميةً وتارةً تاريخية وتارةً مقارنة، وأن القسمين الأخيرين وحدهما هما اللذان يدخلان في علم اللغة.
"د" البحث في أساليب اللغة واختلافها باختلاف فنونها "الشعر، والنثر، الخطابة، المحادثة، الكتابة، المسرح ... إلخ" وباختلاف العصور والأمم الناطقة بها، والطرق التي تسلكها الأساليب في تطورها، والقوانين الخاضعة لها ... وما يتصل بذلك. -ويطلق على هذا البحث اسم "الستيليستيك" "Stylistique" أي: "علم الأساليب".
وهذا البحث يمكن أن يُدْرَسَ على الوجوه الثلاثة نقسها التي أشرنا إليها في البحثين السابقين.
فإذا درس على الوجة الأول، بأن كان الغرض منه مجرد جمع القواعد المتعلقة بأساليب لغة ما وتنسيقها وترتيبها ليسهل تعلمها وتعليمها واحتذارها في المحادثة والكتابة، أطلق عليه اسم "الستيليستيك التعليمي" أي: "علم الأساليب التعليمي". -ومن هذا النوع بعض أبواب المعاني والبيان والبديع في اللغة العربية.
وإذا درس على الوجة الثاني، بأن كان الغرض منه دراسة الأساليب في لغة ما دراسة تاريخية، وتعقبها في مختلف مراحل هذه اللغة، وفي مختلف الأمم الناطقة بها، وشرح تطورها والقوانين الخاضعة
1 / 10
لها بهذا الصدد، أطلق عليه اسم "الستيليستيك التاريخي" أي: علم الأساليب التاريخي.
وإذا دُرِسَ على الوجه الثالث، بأن كان الغرض منه دراسة الأساليب في عدة لغات دراسة تاريخ وتحليل ومقارنة، أطلق عليه اسم "الستيليستيك المقارن" أي: علم الأساليب المقارن.
والنوعان الأخيران هما اللذان يدخلان في نطاق علم اللغة، أما دراسة الأساليب على الوجه الأول فليست من بحوث هذا العلم، بل من بحوث "علم البلاغة".
٥- البحث في الأصول التي جاءت منها الكلمات في لغة ما، بأن نبحث مثلًا عن الأصول الإغريقية واللاتينية.. وغيرها التي انحدرت منها كل كلمة من الكلمات الفرنسية، ويطلق على هذا البحث اسم "الإيتيمولوجيا" "Etymologie" أي: "أصول الكلمات".
ويختلف هذا البحث عن البحثين الأخيرين -علم الصوت وعلم الدلالة، أو الفونيتيك والسيمنتيك- في أنهما يدرسان أمورًا كليةً، ويرميان إلى كشف القوانين العامة الخاضعة لها ظواهر الصوت أو ظواهر الدلالة، على حين أن هذا البحث يدرس أمورًا جزئيةً، وليس من أغراضه ولا من شأن دراسته الوصول إلى قوانين، فهو يبحث عن الأصول التي جاءت منها كل كلمة من كلمات اللغة على حدتها.
ولكن الصلة وثيقة -على الرغم من ذلك- بينه وبين البحثين السابقين؛ فدراسته تفيدهما كثيرًا، كما ينتفع هو كثيرًا بدراستهما، وذلك أن معرفة أصول الكلمات -موضوع هذا البحث- يساعد كثيرًا على الوقوف على تطور الأصوات وتطور الدلالات، وعلى كشف القوانين الخاضع لها هذا التطور في مظهريه، أي: يعين البحثين السابقين -الفونبتيك والسيمنتك- على الوصول إلى أغراضهما؛ كما أن الوقوف على القوانين التي يخضع لها كل من الصوت والدلالة في
1 / 11
تطورهما -وهو موضوع البحثين السابقين- يساعد على معرفة أصول الكلمات، أي: يساعد هذا البحث على الوصول إلى أغراضه.
هذا، ومن أهم شعب الإيتيمولوجيا شعبة تسمى "الأونوماستيك" "Onomastique" وموضوعها: البحث عن أصول الأعلام بمختلف أقسامها: أعلام الأشخاص والقبائل والعشائر والجبال والأنهار والأمصار.. وما إلى ذلك، ومن أهم فرع "الأونوماستيك" فرع يسمى "التوبونوماستيك" "Toponomastique"، وموضعه البحث عن أصول أسماء الأمكنة على اختلاف أنواعها.
٦- بحوث إجتماعية ترمي إلى بيان العلاقة بين اللغة والحياة الاجتماعية وأثر المجتمع وحضارته ونظمه وتاريخه وتركيبه وبيئته الجغرافية في مختلف الظواهر اللغوية.
وإلى هذه البحوث تحتاج معظم الفروع السابقة؛ لأن نشأة اللغة الإنسانية والأشكال الأولى التي ظهر فيها التعبير، والأدوار التي اجتازها حتى وصل إلى مرحلة الأصوات ذات الدلالات الوضعية -موضوع الفرع الأول؛ وحياة كل لغة، وما يطرأ عليها من غنًى وفقرٍ، وقوة وضعف، وسعة وضيق، وانقسامها إلى فنون وإلى لهجات، وتفرع لغات عامة منها، وما تقوم به من صراع مع غيرها، وما ينجم عن هذا الصراع، وما يؤول إليه أمرها من شيخوخة وهرم وفناء -موضوع الفرع الثاني؛ وما يتعلق بأصواتها ودلالاتها وأصول مفرداتها ... -موضوع الفروع الثالث والرابع والخامس- ... كل أولئك، وما إليه ترجع أهم عوامله إلى ظواهر اجتماعية.
فموضوعات البحث الذي نحن بصدده تمتزج بموضوعات الفروع السابقة جميعًا وتفسر ظواهرها، ولذلك لا يكاد يخلو منها مبحث من مباحث علم اللغة.
غير أن علماء الإجتماع قد أخذوا على القدامى من علماء اللغة بهذا الصدد مآخذ كثيرة، ترجع إلى تقصيرهم في بيان العلاقة بين
1 / 12
الظواهر اللغوية والظواهر الاجتماعية، وانحرافهم أحيانًا عن جادَّة الصواب في هذه السبيل، وتفسيرهم لبعض الظواهر اللغوية تفسيرًا خاطئًا يبعد بها عن المجتمع وشئونه؛ ولذلك أنشئوا فرعًا خاصًّا في علمهم سموه "علم الاجتماع اللغوي" "Sociologie Linguistique"، وعالجوا فيه الظواهر اللغوية بطريقةٍ تكشف عن العلاقات التي تربطها بمختلف الظواهر الاجتماعية، وتكفل سد ما في البحوث القديمة من نقص وإصلاح ما بها من أخطاء، وقد أوغل بعضهم في هذا السبيل حتى كاد ينكر أن لغير العوامل الاجتماعية أثرًا في شئون اللغة.
ومهما يكن نصيب نظرياتهم من الصواب، فهي قد أعطت هذه البحوث شخصية متميزة، وجعلتها موضوع فرع مستقل، وجعلت كثيرًا من علماء اللغة أنفسهم ينزلها هذه المنزلة، ويفرد لها دراسة خاصة، ولذلك سنوجِّه إليها قسطًا كبيرًا من عنايتنا في معظم فصول هذا الكتاب.
٧- بحوث نفسية تدرس العلاقة بين الظواهر اللغوية والظواهر النفسية بمختلف أنواعها؛ من تفكير وخيال وتذكر ووجدان ونزوع.. إلخ، وتبين أثر كل طائفة منها في الأخرى، وتشرح ما تؤديه اللغة من وظائف معتمدة في أدائها على ظواهر نفسية كالإيحاء والتأثير، وتعرض لما يعتمد عليه كسب الطفل للغة من قوى نفسية ... وهلم جرّا.
ولا تقل أهمية هذه البحوث في دراسة اللغة عن أهمية البحوث الاجتماعية السابقة، وذلك أن أهم العوامل التي تؤثر في الظواهر اللغوية لا تخرج عن طائفتين: ظواهر اجتماعية عامة؛ وظواهر نفسية فردية١.
فموضوعات البحث الذي نحن بصدده تمتزج بموضوعات الفروع
_________
١ تتأثر الظواهر اللغوية كذلك بالظواهر البيولوجية والفيزيولوجية والجغرافية، كما سنذكر ذلك بتفصيل عند كلامنا على علاقة علم اللغة بما عداه "انظر صفحة ٣٠ وتوابعها". ولكن أهمية هذه العوامل أقل كثيرًا من أهمية الظواهر الاجتماعية والنفسية.
1 / 13
السابقة جميعًا، وتحتاج إليها هذه الفروع في تفسير ظواهرها وتعليلها، ولذلك لا يكاد يخلو منها مبحث من مباحث اللغة.
غير أن علماء النفس قد وجهوا لهذه البحوث قسطًا كبيرًا من عنايتهم، وجعلوها موضوع فرع مستقل من علمهم سموه "علم النفس اللغوي" "Paychologie du Langage" وتوفر على دراسته عدد كبير من أعلامهم، فبلغوا به درجة راقية من النضج والكمال، وقد تأثر بهم عدد كبير من علماء اللغة أنفسهم، فأفردوا لهذه الموضوعات دراسة خاصة.
بقي من البحوث اللغوية ما يسمونه "الفيلولوجيا" "Philologie" وهو بحث غير محدد النطاق ولا متميز الحدود؛ وذلك أن مدلول هذه الكلمة قد اختلف كثيرًا باختلاف العصور وباختلاف الأمم، ولا يزال العلماء يختلفون في فهمها وإطلاقها.
فأحيانًا تطلق ويراد بها ما يشمل معظم البحوث السابقة. -ويكاد يتعين هذا المعنى إذا وصفت بما يدل على عموم بحوثها؛ فقيل مثلًا: "فيلولوجيا قارنة" "Phiologie comparee".
وأحيانًا تطلق ويراد بها دراسة لغة أو لغات؛ من حيث قواعدها وتاريخ أدبها ونقد نصوصها١.
وأحيانًا تطلق ويراد بها دراسة الحياة العقلية ومنتجاتها على العموم في أمة ما أو في طائفة من الأمم.
وهي بمعنييها الأخيرين ترادف ما نسميه أدب اللغة وتاريخ أدبها.
_________
١ كانت إذا أطلقت في عصر إحياء العلوم لا تنصرف إلّا إلى دراسة اللغتين الإغريقية واللاتينية دراسة قواعد وأدب، ولكن الآن لا تفيد هذا المعنى إلّا إذا قيدت؛ فقيل: "فيلولوجيا كلاسيكية". "Phil. Classique".
1 / 14
ويطلق على جميع البحوث السابقة -ما عدا الفيلولوجيا بمعنييها الأخيرين، وما عدا المورفولوجيا التعليمي، والسنتكس التعليمي، والستيليستيك التعليمي- اسم "علم اللغة"١.
"Linguistiques ou "Science du Langage" وقد اخترنا هذا الاسم لكتابنا؛ لأن موضوعاته ستكون شاملة لجميع البحوث التي تدخل تحت "علم اللغة".
هذا، وقد وضع المؤلفون من العرب أسماء لبحوث تشبه بعض البحوث السابقة:
فوضعوا اسم "الصرف" لبحوث من فصيلة "المورفولوجيا التعليمي"، واسم "النحو" لبحوث من فصيلة "السنتكس التعليمي"، واسم "البلاغة" لبحوث من "الستيليستيك التعليمي"، واسم "أدب اللغة وتاريخ أدب اللغة" لبحوث من نوع "الفيلولوجيا" بمعنييها الأخيرين.
غير أنهم لم يطلقوا هذه الأسماء إلّا على ما يتعلق من البحوث السابقة باللغة العربية وحدها.
ومهما يكن من شيء، فقد علمت أن "المورفولوجيا التعليمي" و"السنتكس التعليمي" و"الستيليستيك التعليمي" و"الفيلولوجيا" بمعنييها الأخيرين، ليست من علم اللغة في شيء.
أما بحوث علم اللغة نفسه فقد درس المؤلفون من العرب بعضها تحت أسماء مختلفة، أشهرها اسم "فقه اللغة"٢.
وهذه التسمية هي خير ما يوضع لهذه البحوث، فإن فقه الشيء
_________
١ يخرج كذلك بعض المؤلفين من نطاق علم اللغة البحث الخاص بنشأة اللغة، وقد أشرنا فيما سبق لمذهبهم هذا وذكرنا وجهة نظرهم "انظر ص٦، ٧".
٢ سيأتي تفصيل ذلك في الفقرة الخاصة بتاريخ البحوث اللغوية.
1 / 15
هو كل ما يتصل بفلسفته وفهمه، والوقوف على ما يسير عليه من قوانين؛ فقد قال صاحب المصباح: "الفقه فهم الشيء"، وقال ابن فارس: "كل علم لشيء فهو فقه".
وقد كنا نود أن نسمي كتابنا هذا باسم "فقه اللغة" لولا أن هذا الاسم قد خصص مدلوله في الاستعمال المألوف، فأصبح لا يفهم منه إلّا البحوث المتعلقة بفقه اللغة العربية وحدها.
٢- أغراض علم اللغة: يرمي هذا العلم من وراء دراسته للظواهر اللغوية السابق بيانها إلى أغراضٍ وصفيةٍ تحليليةٍ يرجع أهمها إلى الأمور الآتية: ١- الوقوف على حقيقة الظواهر اللغوية، والعناصر التي تتألف منها، والأسس القائمة عليها. ٢- الوقوف على الوظائف التي تؤديها في مختلف مظاهرها، وفي شتَّى المجتمعات الإنسانية. ٣- الوقوف على العلاقات التي تربطها بعضها ببعض، والعلاقات التي تربطها بما عداها من الظواهر: كالظواهر الاجتماعية والنفسية والتاريخية والجغرافية والطبيعية والفيزيولوجية والأنتروبولوجية ... وهلم جرَّا. ٤- الوقوف على أساليب تطورها واختلافها باختلاف الأمم والعصور. ٥- كشف القوانين التي تخضع لها في جميع نواحيها، والتي تسير عليها في مختلف مظاهرها -القوانين التي تسير عليها في تكونها ونشأتها وأدائها لوظائفها، وعلاقاتها المتبادلة، وعلاقاتها بغيرها، وتطورها.. وما إلى ذلك. وهذا الغرض الأخير هو الأساسي لبحوث علم اللغة، بل يكاد يكون
٢- أغراض علم اللغة: يرمي هذا العلم من وراء دراسته للظواهر اللغوية السابق بيانها إلى أغراضٍ وصفيةٍ تحليليةٍ يرجع أهمها إلى الأمور الآتية: ١- الوقوف على حقيقة الظواهر اللغوية، والعناصر التي تتألف منها، والأسس القائمة عليها. ٢- الوقوف على الوظائف التي تؤديها في مختلف مظاهرها، وفي شتَّى المجتمعات الإنسانية. ٣- الوقوف على العلاقات التي تربطها بعضها ببعض، والعلاقات التي تربطها بما عداها من الظواهر: كالظواهر الاجتماعية والنفسية والتاريخية والجغرافية والطبيعية والفيزيولوجية والأنتروبولوجية ... وهلم جرَّا. ٤- الوقوف على أساليب تطورها واختلافها باختلاف الأمم والعصور. ٥- كشف القوانين التي تخضع لها في جميع نواحيها، والتي تسير عليها في مختلف مظاهرها -القوانين التي تسير عليها في تكونها ونشأتها وأدائها لوظائفها، وعلاقاتها المتبادلة، وعلاقاتها بغيرها، وتطورها.. وما إلى ذلك. وهذا الغرض الأخير هو الأساسي لبحوث علم اللغة، بل يكاد يكون
1 / 16
غرضها الفذ، وذلك أن الأغراض السابقة ليست في الواقع إلّا وسائل للوصول إليه؛ فعلم اللغة لا يعرض لحقيقة الظواهر اللغوية والوظائف التي تؤديها، والعلاقات التي تربطها بعض ببعض، والتي تربطها بغيرها، والتطورات التي تعتريها ... لا يعرض لهذا كله لمجرد الوصف وسرد الحقائق التاريخية، ولكن ليصل في ضوئه إلى كشف القوانين الخاضعة لها هذه الظواهر.
٣- قوانين العلوم: وبهذه المناسبة لا نرى مندوحةً عن ذكر كلمة عن قوانين علم اللغة التي قررنا أنها الغرض الأساسي في دراساته. -وسنمهد لهذا بالكلام على قوانين العلوم على العموم فنقول: تطلق كلمة القوانين في العرف العلمي على الأصول العامة التي تبين ارتباط الأسباب بمسبباتها، والمقدمات بنتائجها اللازمة، أو بعبارة أخرى: التي تنبئ بحدوث نتائج معينة لازمة إذا حدثت أسباب خاصة، وترجع النتائج الحادثة إلى أسبابها١. فما يقرره علماء الرياضيات والطبيعيات والاقتصاد وغيرهم من القواعد التي تبين علاقة السببية بين أمرين أو أكثر، يصدق عليه اسم قوانين؛ وذلك كقوانين ضرب عدد في عدد٢، وقوانين الربح٣، وقوانين تساوي المثلثين٤، في الرياضيات _________ ١ يعرفها منتسكيو بأنها: "العلاقات الضرورية التي تنشأ من طبيعة الأشياء". ٢ مثال ذلك: إذا ضربت أربع وحدات في خمس وحدات، كان الحاصل عشرين وحدة. ٣ مثال ذلك: ربح مبلغ ما يساوي حاصل ضرب رأس المال في الزمن في السعر مقسومًا على مائة. ٤ مثال ذلك: ينطبق المثلثان كلٌّ على الآخر تمام الانطباق إذا ساوى في كل ضلعان والزاوية المحصورة بينهما نظائرها في الآخر.
٣- قوانين العلوم: وبهذه المناسبة لا نرى مندوحةً عن ذكر كلمة عن قوانين علم اللغة التي قررنا أنها الغرض الأساسي في دراساته. -وسنمهد لهذا بالكلام على قوانين العلوم على العموم فنقول: تطلق كلمة القوانين في العرف العلمي على الأصول العامة التي تبين ارتباط الأسباب بمسبباتها، والمقدمات بنتائجها اللازمة، أو بعبارة أخرى: التي تنبئ بحدوث نتائج معينة لازمة إذا حدثت أسباب خاصة، وترجع النتائج الحادثة إلى أسبابها١. فما يقرره علماء الرياضيات والطبيعيات والاقتصاد وغيرهم من القواعد التي تبين علاقة السببية بين أمرين أو أكثر، يصدق عليه اسم قوانين؛ وذلك كقوانين ضرب عدد في عدد٢، وقوانين الربح٣، وقوانين تساوي المثلثين٤، في الرياضيات _________ ١ يعرفها منتسكيو بأنها: "العلاقات الضرورية التي تنشأ من طبيعة الأشياء". ٢ مثال ذلك: إذا ضربت أربع وحدات في خمس وحدات، كان الحاصل عشرين وحدة. ٣ مثال ذلك: ربح مبلغ ما يساوي حاصل ضرب رأس المال في الزمن في السعر مقسومًا على مائة. ٤ مثال ذلك: ينطبق المثلثان كلٌّ على الآخر تمام الانطباق إذا ساوى في كل ضلعان والزاوية المحصورة بينهما نظائرها في الآخر.
1 / 17
وقانون الجذب العام، وقانون أرشميدس١، وقانون بويل٢ في الطبيعيات، وقوانين العرض والطلب٣، وقانون جريشام٤ في الاقتصاديات ... وهلمّ جرّا.
هذا، وقد فطن الإنسان منذ عصور سحيقة في القدم إلى خضوع الكواكب والنجوم في سيرها وبزوغها وأفولها لقوانين ثابتة مطردة، هدته إلى ذلك مشاهداته اليومية، وملاحظته لإطراد النظام الذي تسير عليه هذه الأجرام، وعلى هذه المشاهدات أُسِّسَ علمٌ من أقدم العلوم الإنسانية؛ وهو علم الفلك.
ومع ارتقاء الفكر الإنساني أخذ الاعتقاد بخضوع الظواهر لقوانين ثابتة، يتسع نطاقها قليلًا قليلًا حتى شمل كل نواحي الطبيعة وكل مظاهر الحياة، وحفز الباحثين على إنشاء علوم الطبيعة والكيمياء والجغرافيا والبيولوجيا والتاريخ الطبيعي ... وما إلى ذلك من البحوث التي لم تغادر ظاهرة من ظواهر الطبيعية، ولا ناحية من نواحي النمو إلّا كشفت عما يسيطر عليها من قوانين، وبذلك تكونت مجموعة من العلوم هي العلوم الطبيعية.
ولم يمض على ذلك أمد طويل حتى تمكّن العلماء من الوقوف على القوانين الطبيعية الخاضعة لها الرياح والعواصف والأمواج.. وما إلى ذلك من الظواهر التي كانت مضرب الأمثال في التقلب وعدم الاستقرار، والتي كان الشعراء يجعلونها رمزًا للتحرر من ربقة القواعد
_________
١ كل جسم مغمور في سائل يكون مدفوعًا من أسفل إلى أعلى بقوة تساوي وزن السائل الذي يحل محله.
٢ في درجة الحرارة الواحدة تكون حجوم مقدار معين من غاز مناسبة للضغوط الواقعة عليه تناسبًا عكسيًّا.
٣ يرتفع الثمن كلما زاد الطلب أو قلَّ العرض، وينخفض الثمن كلما قلَّ الطلب أو زاد العرض، كلما ارتفع الثمن قلَّ الطلب وزاد العرض، وكلما انخفض الثمن زاد الطلب وقلَّ العرض.
٤ إذا اجتمع نقدان في التعامل أحدهما رديء والآخر جيد، فإن الرديء يتغلب على الجيد ويطرده من السوق.
1 / 18
والقوانين، فأنشئوا "الميتورولوجيا" -علم الأحوال الجوية، و"الأسيونوجرافيا" -علم أحوال المحيطات، وتمكنوا في بحوثهم الجغرافية وغيرها من الكشف عن القوانين الخاضعة لها التيارات البحرية والزلازل والبراكين.
وفي أثناء ذلك، بل من قبل ذلك، فطن الإنسان إلى القوانين التي يخضع لها الكم من حيث أنه مقيس أو معدود، وعلى هذا الأساس أنشئت علوم الرياضة.
واستطاع العلماء كذلك أن يقفوا على القوانين التي تخضع لها الظواهر النفسية الفردية؛ من إدراك ووجدان ونزوع، ومن هذه البحوث تألف "علم النفس" أو "السيكولوجيا".
وقد كان لزامًا بعد هذا كله أن تتجه الأفكار شطر المجتمع الإنساني، وأن يتساءل الباحثون عما إذا كانت الأعمال الاجتماعية خاضعة لقوانين شبيهة بالقوانين الخاضعة لها ظواهر الطبيعة، غير أنهم قد طال تساؤلهم وترددوا كثيرًا بهذا الصدد، وذلك أن الظواهر الاجتماعية تبدو حرة طليقة غير خاضعة لما نسميه بالقوانين؛ فارتفاع ثمن سلعةٍ ما أو انخفاضه، واختلاف مدلول كلمةٍ ما، أو اختلاف حروفها وأصواتها في جيلين متعاقبين، وتغير الأوضاع السياسية في أمة ما ... هذه الأمور وما إليها من الظواهر الاجتماعية تظهر للنظرة الأولى أنها حرة طليقة، ويصعب بداءة ذي بدء الاعتقاد بخضوعها لقوانين ثابتة مطردة كالقوانين الخاضع لها القمر في تزايده وتناقصه، أو النهار والليل في اختلافهما باختلاف الفصول.
لمثل هذه الشبهات لم ينفك الباحثون يقدمون في هذه السبيل رِجْلًا ويؤخرون أخرى، حتى ظهر في القرن الرابع عشر العلامة ابن خلدون، وألف مقدمته الشهيرة التي أثبت فيها بالأدلة القاطعة أن أعمال المجتمع وظواهر العمران خاضعة في مختلف نواحيها لقوانين لا تقل
1 / 19
في صرامتها واطرادها عن القوانين الخاضعة لها الظواهر الطبيعية١.
غير أن آراءه وبحوثه في هذه الناحية لم يتح لها ما كانت أهلًا له من الذيوع والانتشار، وما كان يعوزها من التنقيح والتهذيب إلّا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين؛ فقد ظهر في هذين القرنين في مختلف بلدان أوروبا، وبخاصة فرنسا، طائفة من قادة الفكر لم تدع مؤلفاتهم أيّ مجال للريب في خضوع الظواهر الاجتماعية بمختلف أنواعها لقوانين يمكن استنباطها من ملاحظة هذه الظواهر في مختلف أحوالها، وفي شتى الأمم والعصور، ومن ذلك الحين أخذ المشتغلون بدراسة الظواهر الاجتماعية يوجهون كل عنايتهم إلى كشف القوانين الخاضعة لها، وأخذت العلوم الاجتماعية تظهر شيئًا فشيئًا، وينمو عددها قليلًا قليلًا، وتتكون من فروعها مجموعة حديثة، بجانب المجموعات الثلاث السابق ذكرها، وأعني بها: العلوم الرياضية والطبيعية وعلم النفس.
_________
١ انظر الباب الثاني من كتابنا: "ابن خلدون، منشئ علم الاجتماع".
٤- قوانين علم اللغة: على هذا الأساس قام علم اللغة، كما قام غيره من العلوم الاجتماعية، واتجهت عناية الباحثين فيه إلى كشف القوانين الخاضعة لها الظواهر اللغوية في مختلف أشكالها ومناحيها، وقد اهتدوا إلى طائفة كبيرة من هذه القوانين: منها ما يتعلق بالأصوات، وما يتعلق بالدلالات، ومنها ما يتعلق بحياة اللغة، ومنها ما يتعلق بوظائفها ...؛ بعضها خاصٌّ يصدق على لغة معينة، وبعضها عامٌّ ينطبق على فصيلة من اللغات، وبعضها أعم يصدق على جميع اللغات. وسيمر بك في كل فصل من فصول هذا الكتاب أمثلة كثيرة من هذه القوانين، وسترى على ضوئها أن الظواهر اللغوية لا تسير وفقًا لإرادة الأفراد والمجتمعات،
٤- قوانين علم اللغة: على هذا الأساس قام علم اللغة، كما قام غيره من العلوم الاجتماعية، واتجهت عناية الباحثين فيه إلى كشف القوانين الخاضعة لها الظواهر اللغوية في مختلف أشكالها ومناحيها، وقد اهتدوا إلى طائفة كبيرة من هذه القوانين: منها ما يتعلق بالأصوات، وما يتعلق بالدلالات، ومنها ما يتعلق بحياة اللغة، ومنها ما يتعلق بوظائفها ...؛ بعضها خاصٌّ يصدق على لغة معينة، وبعضها عامٌّ ينطبق على فصيلة من اللغات، وبعضها أعم يصدق على جميع اللغات. وسيمر بك في كل فصل من فصول هذا الكتاب أمثلة كثيرة من هذه القوانين، وسترى على ضوئها أن الظواهر اللغوية لا تسير وفقًا لإرادة الأفراد والمجتمعات،
1 / 20
أو تبعًا للأهواء والمصادفات، وإنما تسير وفقًا لنواميس لا تقل في ثباتها وصرامتها واطرادها وعدم قابليتها للتخلف عن النواميس الخاضعة لها ظواهر الفلك والطبيعة. فقد يكون في استطاعة الفرد أو في استطاعة الجماعة اختراع لفظ أو تركيب، ولكن بمجرد أن يقذف بهذا اللفظ أو بهذا التركيب في التداول اللغوي وتتناقله الألسنة يفلت من إرادة مخترعة ويخضع في سيره وتطوره وحياته ... لقوانين ثابتة صارمة لا يستطيع الفرد ولا الجماعة إلى تعويقها أو تغييرها سبيلًا؛ فالكلمة الجديدة أو التركيب الجديد أشبه شيء بحجر يقذف به القاذف من جهة معينة بقوة خاصة، فإنه بمجرد أن يفارق يده يخضع في سيره لقوانين ثابتة صارمة لا يد للقاذف ولا لغيره على تعطيلها أو وقف آثارها.
ومن هذا يظهر أنه ليس في قدرة الأفراد والجماعات أن يقفوا تطور لغة ما، أو يجعلوها تجمد على وضع خاص، أو يحولوا دون تطورها على الطريقة التي ترسمها قوانين علم اللغة؛ فمهما أجادوا في وضع معجماتها وتحديد ألفاظها ومدلولاتها، وضبط قواعدها وأصواتها وكتابتها، ومهما أجهدوا أنفسهم في إتقان تعليمها للأطفال قراءةً وكتابةً ونطقًا، وفي وضع طرق ثابتة سليمة، يسير عليها المعلمون بهذا الصدد، ومهما بذلوا من قوة في محاربة ما يطرأ عليها من لحنٍ وخطأ وتحريف ...، فإنها لا تلبث أن تحطم هذه الأغلال، وتفلت من هذه القيود، وتسير في السبيل التي تريدها على السير فيها سنن التطور والارتقاء التي ترسمها قوانين علم اللغة.
ومن ثَمَّ يظهر كذلك خطأ مَنْ يحاولون علاج تعدد اللغات بإنشاء لغة عالمية "اسبرانتو Espernato" يتحدث بها الناس من مختلف الأمم والشعوب، وذلك أن هذه اللغة الصناعية، على فرض إمكان اختراعها وإلزام الناس باستخدامها١، لا تلبث بعد تداولها على
_________
١ هذه الأمنية، وإن كانت ممكنة نظريًّا، يحول دون تحقيقها عمليًّا صعوبات جمة، سنعرض لها في الفقرة الثانية من الفصل الأول من الباب الثاني.
ومع ذلك لا يزال المتعصبون لفكرة الاسبرانتو كثيرين في مختلف الأمم، ولا يزالون =
1 / 21
الألسنة أن تخضع أصواتها ومدلولاتها وحياتها وتطورها لجميع القوانين التي تخضع لها اللغات الطبيعية، والتي خضعت لها أول لغة تكلم بها الإنسان؛ فما دام أفراد الأمم الناطقة بها مختلفين في التكوين الطبيعي لجسومهم وأعضاء نطقهم، وفي الظروف الجغرافية والطبيعية والاجتماعية المحيطة بهم، وفي قواهم الإدراكية والوجدانية، وما دامت سنة الطبيعة تقضي أن يختلف كل جيل عن الجيل السابق له في كل هذه الأمور، فلا بد أن تختلف هذه اللغة الصناعية في كلماتها وأصواتها ودلالاتها وتراكيبها باختلاف العصور، وباختلاف الشعوب الناطقة بها، وتختلف أقاسمها باختلاف فنونها، وتنقسم إلى لهجات يختلف كل منها عما عداه، وتتفرع منها لغات عامية، وتتسع الهوة بين لهجاتها قليلًا قليلًا حتى تنفصل كل لهجة منها عما عداها انفصالًا تامًّا، وتصبح غير مفهومة إلّا لأهلها، شأنها في ذلك شأن غيرها من اللغات، وهكذا لن يمضي زمن قصير أو طويل حتى تتولد من هذا العلاج المشكلة نفسها التي حاولنا القضاء عليها: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً
_________
= دائبين على نشر مشروعهم والدعاية له وعقد مؤتمرات دولية لدراسته وإذاعته، وقد جاء في هذا الصدد بجريدة الأهرام الصادرة في ٤/ ٨/ ١٩٤٨ ما يلي:
"افتتح يوم السب الماضي المؤتمر الثالث والثلاثون للاسبرانتو في مدينة مالمو بالسويد، وقد تولَّى رياسته الفخرية المسيو: تاجي أرلاند، رئيس الحكومة السويدية، وحضر جلساته مندوبن عن اثنتين وثلاثين دولة، ومثل جمعية الاسبرانتو المصرية فيه الأستاذ نصيف أسعد، ولهذه المناسبة تلقينا من الأستاذ سعيد صالح سكرتير الجمعية كلمةً نوَّه فيها بما يمتاز به هذا المؤتمر عن المؤتمرات الأخرى، فقال: إن المشتركين فيه يتحدثون، رغم اختلافهم في الجنسيات واللغات، بلغة واحدة هي لغة الاسبرانتو، التي ألفها الطبيب البولندي الدكتور: زامنهوف "zamenhof" في عام ١٨٨٧، ثم أخذت تنتشر حتى اعترفت بمزاياها دول كثيرة، وراحت تدرسها في معاهدها التعليمية المختلفة، وتستعملها للدعاية عن نفسها واجتذاب السائحين إليها من شتّى بلاد العالم. -وبعد أن ذكر أن كثيرًا من محطات الإذاعة؛ كمحطات باريس وفارسوفيا وفينا تخصص جزءًا من برامجها بلغة الاسبرانتو، وأن البنوك والشركات التجارية الكبرى أصبحت تستخدم هذه اللغة، رجا أن تولى مصلحة الدعاية والسياحة المصرية الاسبرانتو ما تستحقه من عناية؛ إذ أن بلادنا في حاجة إلى مختلف وسائل الدعاية".
وورد في جريدة المصري الصادرة في ١١/ ٧/ ١٩٤٩ ما يأتي:
"سيغادر مصر هذا الإسبوع الأستاذ تاردرس مجلي، المندوب الرئيسي لجمعية الاسبرانتو العالمية في القطر المصري لحضور مؤتمر الاسبرانتو العالمي الرابع والثلاثين الذي سيعقده في أوائل أغسطس، وسيزور أيضًا السويد والدانيمرك بدعوة من مكتب الصحافة السويدي".
1 / 22