99

وليس أدل على تهيؤ الجو للرسالة الجديدة من التمهيد لها في نطاق الفلسفة ونطاق الديانة في وقت واحد.

فكانت دعوة «يوحنا المعمدان» تقابلها دعوة فيلون الفيلسوف الإلهي الذي ولد بالأسكندرية قبل مولد السيد المسيح بنحو عشرين سنة، وكان فيلون يجمع حكمة العصر من جميع أطرافها؛ لأنه كان يهوديا محيطا بثقافة قومه وفيلسوفا محيطا بمذاهب الفلسفة اليونانية، ووطنيا مصريا محيطا بالحكمة الدينية التي نبعت من معين التاريخ المصري القديم، وامتزجت بالعقائد السرية الأخرى في بلاد الرومان واليونان وآسيا الصغرى، وأهمها عقيدة إيزيس وعقيدة أوزيريس سرابيس التي تأسست بالإسكندرية وتفرعت في أثينا وبومبي ورومة وبعض الموانئ الآسيوية، وكانت لهذه الديانة مراسم خفية يترقى فيها المريد على أيدي الكهان والرؤساء في المحاريب السرية، وأول هذه المراسم صلاة القبول - التطهير - أو هي صلاة البعث التي يتقدم إليها المريد، كأنه ميت بالروح يطلب الحياة بالروح أو يطلب الخلاص من أرهاق الجسد وخبائث الشهوات، ويعتبر بعدها من الواصلين إلى حظيرة الرضوان.

وكان لتفسير هذه الرموز أثر في تفسير فيلون لرموز الديانة الإسرائيلية، فتجاور النصوص والمراسم إلى ما وراءها من الدلالات الروحية كما تكشفت له على أضواء الفلسفة اليونانية، ووصل من ثم إلى الإيمان بالعقل الإلهي أو الكلمة

Logos

كأنها «ذات» لها صفات الذات الإلهية.

بل وجد من وعاظ بني إسرائيل أنفسهم قبيل عصر المسيح من مزج الأقاويل اليونانية بالعقيدة الإسرائيلية، فكان أصحاب الرؤى في كتب أخنوخ يعلمون تلاميذهم أن الحكمة خلقت الإنسان من سبعة عناصر، فخلقت اللحم من التراب والدم من الندى والبصر من نور الشمس والعظام من الحجارة والذكاء من السحب والملائكة، والعروق من العشب، والروح من أنفاس الله، وإن خلق الأرواح سابق لخلق الدنيا بأرضها وسمائها؛ لأنها عنصر خالد لا يزول. •••

في هذا الجو المتطلع إلى الرسالة الروحية ولد السيد المسيح صلوات الله عليه، وكان يستمع العظات من يوحنا المعمدان ويتقبل «العمادة» من يديه، فلما قتل يوحنا لم يرهبه مصرعه الأليم، ونهض بأمانة الدعوة بعده في بلاد الجليل ثم في بيت المقدس، وفي الهيكل الأكبر معقل الأحبار والكهان وعاصمة «الدولة الدينية» في بني إسرائيل.

وكانت بشارته أعظم فتح في عالم الروح؛ لأنها نقلت العبادة من المظاهر والمراسم إلى الحقائق الأبدية، أو نقلتها من عالم الحس إلى عالم الضمير.

فلم ينتظر ملكوت الله في حادث من الحوادث الدنيوية الكبرى أو الصغرى، بل علم الناس أن ملكوت الله قائم في ضمائرهم وموجود في كل حقبة وكل مكان: «ولا يأتي على موعد فرتقب، ولا يقولون هو ذا هنا أو هو ذا هناك؛ لأن ملكوت الله فيكم.»

ولم يشهد التاريخ قبل السيد المسيح رسولا رفع الضمير الإنساني كما رفعه، ورد إليه العقيدة كلها كما ردها إليه.

صفحه نامشخص