ولما ظهرت المسيحية لم يكن بينها وبين المذاهب الإسرائيلية خلاف على وجود الله ولا على أنبياء التوراة، وإنما كان الخلاف الأكبر على نفاق الرؤساء والكهان في مظاهر العبادة واستغلالهم الشعائر المقدسة في كسب المال وجلب السلطان، وتغليبهم مطامع الدنيا على فرائض الإيمان.
ولم يشعر الدعاة المسيحيون بالحاجة إلى تمحيص القول في الربوبية إلا بعد عموم الدعوة في بلاد اليونان والرومان وغيرهم من أمم الحضارة في ذلك الحين، أي بعد كتابة الأناجيل بعهد غير قصير.
فلم تتكرر البراهين على إثبات وجود الله في أسفار التوراة والإنجيل لذلك السبب الذي أجملناه، أما القرآن فقد كان يخاطب أقواما ينكرون وأقواما يشركون وأقواما يدينون بالتوراة والإنجيل ويختلفون في مذاهب الربوبية والعبادة، وكانت دعوته للناس كافة من أبناء العصر الذي نزل فيه وأبناء سائر العصور، ومن أمة العرب وسائر الأمم، فلزم فيه تمحيص القول في الربوبية عند كل خطاب، وقامت دعوته كلها على تحكيم العقل في التفرقة بين عبادة وعبادة وبين الإله «الأحد» وتلك الآلهة التي كانت تعبد يومئذ بغير برهان.
كان فيمن خاطبهم القرآن أناس ينكرون وجود الله
وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون .
وكان فيهم من يدينون للأوثان ولا يقبلون عبادة غير العبادة الوثنية كما توارثوها عن الأجداد والآباء.
وكان فيهم من يشوبون الوحدانية بالوثنية ومن يختصمون على تأويل الكتب المنزلة كما اختصمت طوائف اليهود وطوائف المسيحيين.
وكان يخاطب العقل ليقنع المخالفين بالحجة التي تقبلها العقول الإنسانية، فجاء بكل برهان من البراهين التي لخصناها في الفصل السابق، وجعل الهدى من الله ولكنه من طريق العقل والإلهام بالصواب.
قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء ،
قل إن الهدى هدى الله ،
صفحه نامشخص