ويرى أفلوطين أن الله لا يعرف بالعقل وهو في الجسد، بل تراه الروح وهي في حالة الغيبوبة؛ لأنها حالة تجاوزت فيها جسدها فتصعد إلى مقام الإلهام، وهي لا تبصر في تلك الحالة شيئا يدخل في نطاق المعقولات، ولكنها تترجم عنه إذا هبطت من مقام «الأحد» إلى مقام العقل والتفكير.
ويخالف أفلوطين سابقيه من جماعة المعرفيين في إنكارهم كل جمال وكل خير في هذه المخلوقات التي ابتدعها الروح الهابط بالخطيئة من سماء عليين، فإنهم يقولون: إن المحسوسات كلها - حتى الشموس والكواكب - شرور ونحوس، ويقول هو: إن جمالها هو الدليل على مصدرها الأول، وإنها تستمد الكمال طبقة بعد طبقة من كمال الله. •••
ولم يظهر بعد أفلوطين فلاسفة لهم خطر في التفكير الإلهي غير فلاسفة الإسلام في الشرق والأندلس وفلاسفة الكنيسة المسيحية، وقد تقدمت خلاصة أقوالهم في الفكرة الإلهية، عند الكلام على الأديان الكتابية بعد الفلسفة الإغريقية.
ثم انطوت القرون في ظلمات العصور الوسطى إلى القرن السابع عشر الذي اشتهر فيه ديكارت الفرنسي 1596-1650 ثم القرن الثامن عشر الذي اشتهر فيه بركلي الإيرلندي 1685-1753 وهما بحق مجددا حياة الفلسفة في العالم الحديث.
فأما ديكارت فهو يرى أن إثبات وجود العالم يتوقف على ثبوت وجود الله، فهو لا يتخذ من العالم دليلا على وجود صانعه - بل يتخذ من وجود الصانع الكامل الأبدي دليلا على أن العالم حقيقة وليس بالوهم الباطل.
ويرى ديكارت أن وجود النفس ووجود الله حقيقتان ثابتتان بغير برهان، فهو يقول «أنا افكر أنا موجود» فيعلم أن النفس موجودة لا شك فيها، ولا يسوق هذا العلم مساق القضية المنطقية التي لها مقدمة ونتيجة، بل يسوقه مساق المعرفة اللدنية التي يتلقاها مباشرة من الوجود الثابت، وإن كانت الكلمة التي قرر بها وجود النفس صالحة لأن تتخذ قضية ذات دليل.
وفكرة الكمال المطلق كفكرة «الأنية» حقيقة مباشرة يتلقاها العقل من مصدرها، ويستلزمها كذلك بالبرهان الصحيح.
فلو لم يكن الكائن الكامل موجودا لما خطرت فكرته على بال، ولو لم تخطر على بال لكان الكائن الذي لا حدود له ضرورة عقلية؛ لأن وضع هذه الحدود تعسف لا يقوم عليه دليل.
والله كامل مطلق الكمال، سرمدي مطلق الدوام، خلق الأرواح والأجساد، أو خلق الروح والمادة جوهرين مختلفين، وزود المادة بمقدار من الحركة لا يزيد ولا ينقص، وجعل لها قوانين أو نواميس لا تخرج منها إلا بإذنه وتقديره، وقد يشاء الله خرق العادات، بل يشاء تغيير الحقائق الرياضية والبراهين البديهية؛ لأنه هو خالق كل شيء، وقدرته تحيط بكل شيء، وكل ما أراده فهو ممكن وهو معقول لصدوره منه ورجوعه إليه، ولا يزال الخلق متجددا بلا انقطاع؛ لأن الخلق إنما يقوم بالخالق الدائم ولا يفرغ عمله في وقت محدود.
وقد حاول ديكارت أن يقيم بين العقل والمادة قنطرة تنتقل بها المؤثرات بين هذين الجوهرين المختلفين، فقال: إن الغدة الصنوبرية في الدماغ هي الحلقة المتوسطة بين روح الإنسان وجسده، وقد رأينا مما تقدم أن بعض العلماء المعاصرين يؤيدون هذا القول ويدعمونه بالمشاهدة والاستقراء، ولكن ديكارت لم يعن بإيجاد مثل هذه القنطرة بين الله والعالم؛ لأنه كما يفهم من مجمل آرائه يرى أن قدرة الله في غنى عن ذلك الوسيط، وقد قال تلميذه لويس دي لافورج: إن تأثير الأجسام في الأجسام واقع مفروغ منه، ولكننا إذا حاولنا فهم الحقيقة التي يقع بها التأثير لم تكن أيسر فهما من تأثير الأرواح في الأجسام، ولولا الواسطة الإلهية لما وصلت الأفكار نفسها إلى العقول والأرواح. •••
صفحه نامشخص