آلهة الأرض
آلهة الأرض
آلهة الأرض
آلهة الأرض
تأليف
جبران خليل جبران
ترجمة
أنطونيوس بشير
آلهة الأرض
وعندما حلت ليلة العصر الثاني عشر، وابتلع الصمت، الذي هو مد بحر الليل، جميع التلال،
صفحه نامشخص
ظهر الآلهة الثلاثة، المولودون في الأرض وأسياد الحياة، على الجبال، فتراكضت الأنهار إلى أقدامهم،
وغمرت أمواج الضباب صدورهم،
وارتفعت رءوسهم بجلال فوق العالم،
ثم تكلموا، فتموجت أصواتهم كالرعد الرعيد، فوق السهول.
الإله الأول :
إن الريح تهب شرقا،
فأريد أن أحول وجهي نحو الجنوب،
لأن الريح تملأ مشامي برائحة الأشياء الميتة.
الإله الثاني :
هذه رائحة الأجسام المحترقة، وهي لذيذة وسخية،
صفحه نامشخص
وأنا أود أن أتنشقها.
الإله الأول :
هي رائحة الميتوتة المحترقة على لهيبها الضئيل،
وهي تملأ دقائق الهواء بوفرة،
فتزعج حواسي كما يزعجها الهواء الفاسد في الهاوية،
ولذلك أريد أن أحول وجهي إلى الشمال الذي لا رائحة فيه.
الإله الثاني :
إنها العبير الملتهب للحياة المثمرة،
وهي ما أود أن أتنشقه الآن وفي كل أوان.
إنما تعيش الآلهة على التضحية،
صفحه نامشخص
وتبرد غلة عطشها بالدم،
وتسكن قلوبها بالنفوس الفتية،
وتشدد عزائمها بالتأوهات الدائمة التي تصعدها أرواح القاطنين في قلب الموت،
وعروشها مبنية على رماد الأجيال.
الإله الأول :
قد سئمت روحي كل ما هو كائن،
فأنا لن أمد يدا لأخلق عالما،
ولا لأمحو عالما من الوجود.
إنني ما كنت لأعيش لو أنني قادر أن أموت،
لأن ثقل الأعصر كلها على كتفي،
صفحه نامشخص
وهدير البحر الذي لا ينقطع يستنفد كنوز نومي.
فيا ليت لي أن أخسر المطلب الأول،
فأزول كالشمس الزائلة.
أود لو أستطيع أن أجرد ألوهيتي من غايتها،
لأنفخ أنفاس ميتوتتي في الفضاء،
فلا أكون فيما بعد.
يا ليت لي أن أحترق وأمضي من ذاكرة الزمان إلى فراغ الأزمان!
الإله الثالث :
أصغيا يا أخوي، أصغيا أيها الشقيقان القديمان.
فإن شابا في ذلك الوادي،
صفحه نامشخص
ينشد مكنونات قلبه في أذن الليل.
إن قيثارته من الذهب والأبنوس،
وصوته من الفضة والذهب.
الإله الثاني :
إنني لست مغرورا بهذا المقدار لأتمنى أن لا أكون؛
فأنا لا أقدر أن أختار إلا أصعب الطرق،
لأتتبع الفصول، وأخضد شوكة السنين؛ لأزرع البذور وأراقبها إلى قلب الأرض،
لأدعو الزهرة من مخبئها وأسلحها بقوة لتحضن حياتها، ثم أعود فأقلعها عندما تضحك العاصفة في الغابة؛ لأنهض الإنسان من الظلمة السرمدية،
ولكنني أحفظ لجذوره حنينها إلى الأرض،
لأغرس فيه العطش للحياة، وأجعل الموت حامل أقداحه،
صفحه نامشخص
لأعطيه المحبة النامية بالألم، المتسامية بالشوق، المتزايدة بالحنين، والمضمحلة بالعناق الأول،
لأمنطق لياليه بأحلام الأيام العلوية،
وأسكب في أيامه رؤى الليالي المقدسة.
ثم أحكم على أيامه ولياليه بالمماثلة التي لا تتغير،
لأجعل خياله كالنسر على الجبل،
وأفكاره كعواصف البحار،
ثم أعطيه يدا بطيئة في الحكم،
وقدما ثقيلة في التأمل،
لأمنحه مسرة ليترنم أمامنا، وكآبة ليلتجئ إلينا،
ثم أجعله وضيعا عندما تصرخ الأرض في مجاعتها طالبة طعاما،
صفحه نامشخص
لأرفع نفسه عالية فوق الجلد،
ليصير قادرا على مذاقة غدنا،
وأحفظ جسده يتمرغ بالحمأة،
لكي لا يتناسى ذكر أمسه.
هكذا يليق بنا أن نحكم الإنسان إلى منتهى الزمان،
مقيدين النسمة التي تبدأ بصراخ أمه،
وتنتهي بنواح أولاده.
الإله الأول :
إن قلبي يحترق عطشا، بيد أنني لا أريد أن أشرب دما ضعيفا لجنس ضعيف؛
لأن الكأس ملطخة، والعصير الذي فيها مر المذاق في فمي.
صفحه نامشخص
وأنا مثلك قد عجنت الطين وصنعت منه أشكالا متنفسة لم تلبث أن سقطت من بين أصابعي إلى الآجام والتلال.
وأنا مثلك قد أنرت الأعماق المظلمة لبداءة الحياة.
وراقبتها تزحف من الكهوف إلى الأعالي الصخرية.
أنا مثلك قد أحضرت الربيع ووضعت جماله؛
ليكون غواية تقبض على الشباب وترغمه على الإنتاج والتكاثر.
أنا مثلك قد سرت بالإنسان من مزار إلى مزار.
وحولت مخاوفه الصماء من غير المنظورات إلى إيمان مضطرب بنا من غير أن يرانا أو يعرفنا.
أنا مثلك قد جعلت العاصفة الهوجاء على رأسه لينحني أمامنا،
وزعزعت الأرض تحت قدميه حتى يصرخ إلينا،
ومثلك أثرت الأوقيانوس البربري فطغى على عش جزيرته،
صفحه نامشخص
حتى مات في توسله إلينا.
كل هذا فعلته، وأكثر منه،
وكل ما فعلته فارغ باطل.
باطلة هي اليقظة، وفارغ هو النوم.
وثلاث مرات باطل وفارغ هو الحلم.
الإله الثالث :
يا أخوي، إن في غابة الريحان تلك فتاة ترقص للقمر،
وفي شعرها ألف نجمة من الندى،
وحول قدميها ألف جناح.
الإله الثاني :
صفحه نامشخص
إننا قد غرسنا الإنسان، كرمتنا،
وفلحنا الأرض في الضباب الأرجواني للفجر الأول،
وراقبنا الأغصان النحيلة نامية،
وغذينا الأوراق الفتية على مر الأيام والسنين التي لم تعرف الفصول.
وحصنا البراعم ضد العناصر الغضوب،
وحرسنا الزهرة من اعتداء الأرواح المظلمة.
والآن، وقد أخرجت كرمتنا عنبها،
فأنتم لا تحملونه إلى المعصرة لتملئوا الأقداح.
فأية أيد أقدر من أيديكم ستجمع الثمر؟
وأي مطلب أنبل من عطشكم ينتظر الخمرة؟
صفحه نامشخص
فالإنسان طعام للآلهة،
ومجد الإنسان يبتدئ عندما تمتص شفاه الآلهة المقدسة نسمته الهائمة على غير هدى.
كل ما هو بشري لا قيمة له إذا ظل بشريا.
إن طهارة الأطفال، ووجد الشباب اللذيذ،
وهوى الرجولة العزوم، وحكمة الشيخوخة الناضجة،
إن مجد الملوك، ونصر المحاربين،
وشهوة الشعراء، وشرف الحاكمين والقديسين،
كل هذه، وكل ما تحمله في ثناياها، وهو خبز الآلهة.
وهي لن تكون إلا خبزا بغير بركة إذا لم ترفعها الآلهة إلى أفواهها.
وكما أن حبة الحنطة الصماء تتحول إلى أنشودة محبة عندما يبتلعها البلبل، هكذا الإنسان إذا كان خبزا للآلهة يتذوق الألوهية.
صفحه نامشخص
الإله الأول :
نعم؛ إن الإنسان هو خبز الآلهة!
وكل ما هو من الإنسان سيأتي إلى مائدة الآلهة الخالدة!
آلام الحمل، وعذاب الولادة،
صراخ الأطفال الذي يشق كبد الليل،
وغم المرأة وهي تصارع النوم التي تتوق إليه لتسكب الحياة الذاوية من ثدييها.
الأنفاس الملتهبة الخارجة من صدور الشباب المتقطعة، والعبرات المثقلة بأحمال الأهواء التي لم تفتح خزائنها بعد.
جباه الرجولة القاطرة عرقا وهي تحرث الأرض الجدباء، وتحسرات الشيخوخة الذابلة عندما تدعو الحياة - ضد إرادة الحياة - إلى القبر.
تأملوا، هذا هو الإنسان!
مخلوق يلده الجوع فيصير طعاما للآلهة الجائعة،
صفحه نامشخص
وكرمة تدب في تراب الأرض تحت أقدام الموت الذي لا يموت.
زهرة تزهر في ليالي الأشباح الشريرة،
وعنب لا ينضج إلا في أيام الدموع والرعب والعار.
وأنتم على رغم هذا كله تطلبون إلي أن آكل وأشرب،
وترغبون إلي أن أجلس بين الوجوه المكفنة.
وأستقي حياتي من الشفاه الصخرية،
وأقتبل خلودي من الأيدي اليابسة!
الإله الثالث :
يا أخوي، أيها الأخوان الراعبان،
إن الشاب يغني في أعماق الوادي،
صفحه نامشخص
ولكن أنشودته تتصاعد إلى أعالي الجبال،
وهو يهز الغابة بصوته، ويشق كبد السماء، ويبدد أحلام الأرض.
الإله الثاني (يصم أذنيه دائما) :
إن النحلة تطن بغلاظة في أذنيك،
والعسل مر المذاق في فمك،
إنني أود أن أعزيك،
ولكن أنى السبيل إلى ذلك؟
فليس يصغي غير الهاوية عندما تخاطب الآلهة الآلهة؛
لأن الهوة الفاصلة بين الآلهة لا تحد ولا تقاس،
والفضاء صامت لا ريح فيه،
صفحه نامشخص
ومع كل هذا أريد أن أعزيك،
أريد أن أجعل دائرتك المتلبدة بالغيوم نقية صافية.
ومع أننا متساويان بالقوة والفهم،
فإنني أريد أن أخلص لك النصح.
عندما خرجت الأرض من الفضاء، ورأينا نحن، أبناء البدء، أحدنا الآخر في النور الذي لا عيب فيه، حينئذ أصعدنا الصوت الخفي، المرتعش، الأول، الذي أنعش مجاري الهواء والماء.
ثم مشينا، جنبا إلى جنب، على سطح العالم الفتي الشيخ، ومن صدى خطواتنا البطيئة ولد الزمان إلها رابعا، فاقتفى آثار خطواتنا، وأظلم بخياله أفكارنا ورغباتنا، ولم ير إلا بنور عيوننا.
ثم جاءت الحياة إلى الأرض، وجاءت الروح إلى الحياة، وكان الروح نغما مجنحا في الوجود، فحكمنا على الحياة والروح، ولم يقدر أحد غيرنا على معرفة مقاييس السنين، وموازين الأحلام السديمية في الأعوام، حتى جاء العصر السابع فزففنا في مد ظهيرته البحر عروسا للشمس.
ومن مضجع هذا الزواج المقدس أخرجنا الإنسان، الذي على رغم ضعفه وسقمه، ما برح يحمل شارة والديه.
وبواسطة الإنسان، الذي يمشي على الأرض وعيناه في النجوم، قد وجدنا طرقا نافذة إلى أبعد الأصقاع النائية في الأرض، ومن الإنسان، وهو القصبة الوضيعة النامية على المياه المظلمة، قد صنعنا مزمارا نسكب من قلبه الفارغ صوتنا إلى العالم الصامت في جميع أرجائه، ومن الشمال الذي لا شمس فيه، إلى رمال الجنوب المحترقة بالشمس، ومن أرض عرائس النيل حيث تولد الأيام، إلى جزائر الأخطار حيث تذبح الأيام،
ترى الإنسان الضعيف القلب يتشجع بغايتنا،
صفحه نامشخص
فيغامر بالقيثارة والسيف.
فهو يذيع إرادتنا، ويعلن سيادتنا،
والمجاري التي يطؤها بأقدام محبته هي أنهار سائرة إلى بحر رغباتنا.
زفاف البحر إلى الشمس.
فنحن، جالسين إلى أعالينا، نحلم أحلامنا في نوم الإنسان.
إننا نحث أيامه لتفارق وادي الشفق البعيد، وتنشد كمالها على التلال،
وأيدينا تسير العواصف التي تجرف العالم،
وتحمل الإنسان من السلامة العقيمة إلى الجهاد المثمر،
ومن ثمت إلى الانتصار،
وفي أعيننا بصيرة نيرة تحول نفس الإنسان إلى لهيب،
صفحه نامشخص
وتقوده إلى وحدة رفيعة ونبوة ثائرة،
ومن ثمت إلى الصلب،
فقد ولد الإنسان للعبودية،
وبالعبودية شرفه ومكافأته،
بالإنسان نطلب علامة لما بنا،
وبحياته ننشد كمال ذواتنا.
فإذا أخرس تراب الأرض قلب الإنسان، فأي قلب يستطيع أن يرى صدى صوتنا؟
وإذا عميت عيون الإنسان بظلمة الليل، فمن يستطيع أن يرى لمعان مجدنا؟
فماذا يجب أن نفعل بالإنسان وهو ابن قلبنا الأول، وهو صورتنا ومثالنا؟
الإله الثالث :
صفحه نامشخص
يا أخوي، أيها الأخوان القديران،
إن قدمي الراقصة الحسناء قد سكرتا بخمرة الإنشاد،
فأثارتا دقائق الهواء المرتعشة،
وهي كالحمامة تحلق مرتفعة بجناحيها.
الإله الأول :
القبرة تنادي القبرة،
ولكن النسر يحوم فوقها،
وهي لا تتوقف لتصغي إلى الإنشاد.
أنت تريد أن تعلن محبة الذات متكملة بعبادة الإنسان، وراضية بعبودية الإنسان.
ولكن محبة ذاتي لا حد لها ولا قياس.
صفحه نامشخص
فأنا أريد أن أسمو على ما يموت مني في الأرض،
وأتخذ لي عرشا في السماوات،
فأمنطق الفضاء بذراعي، وأحيط بالأفلاك،
وأريد أن أتخذ من المجرة قوسا،
ومن المذنبات سهاما.
وباللانهاية أريد أن أحكم اللانهاية.
أما أنت فلا تريد أن تفعل هذا ولو كان في منالك.
فنسبة الإنسان إلى الإنسان،
هي كنسبة الآلهة إلى الآلهة.
وأنت تريد أن تحمل إلى قلبي التعب،
صفحه نامشخص