2
ومن الواضح هنا أن سويتونيوس كان ينقل هذه الواقعة حرفيا عن السجلات الإمبراطورية العائدة إلى أواسط القرن الأول عندما كانت المعلومات مشوشة عن المسيحيين وعن علاقتهم باليهود. ونحن هنا أمام أول خبر تاريخي عن اليهود المتنصرين وعن معلمهم. وعلى الرغم من أن هذا الخبر موثق خارج فترة صمت القرن إلا أن صاحبه قد انتزعه ولا شك من وثائق تعود إلى زمن الحدث.
إن خبر سويتونيوس هذا يدلنا على أن المسيحية لم تظهر للعيان كحركة دينية متميزة قبل تقاطعها مع حياة المجتمع الروماني. وقد حصل مثل هذا التقاطع بشكل أكثر درامية في عصر الإمبراطور نيرون (ت68م)، عندما شب في أواخر فترة حكمه حريق كبير في العاصمة روما وكاد أن يأتي على المدينة بأكملها، وسرت شائعات بين الناس تقول إن نيرون هو الذي أشعل المدينة ليتمتع بالمشهد العظيم للكارثة. ولما كان سبب الحريق مجهولا بالفعل للسلطات الرومانية، فقد نصحه مستشاروه بالبحث عن كبش فداء وجده في الجماعات المسيحية التي وجهت إليها التهمة، إضافة إلى تهم أخرى تتعلق بممارسة السحر وطقوس غريبة تتضمن أكل اللحم البشري وشرب الدم. ولا شك أن هذه التهمة الأخيرة ذات صلة بطقس التناول الذي يتضمن أكل جسد المسيح وشرب دمه رمزيا من أجل التوحد معه. ومصدرنا عن هذه الأحداث هو مؤرخ آخر للقصر الإمبراطوري يدعى تاسيتوس في كتابه الموسم بالحوليات
Annals
والذي يعود إلى نحو 120م، أي مرة أخرى إلى خارج ما يدعى بقرن الصمت. ولكن هذا المؤرخ في تقصيه لأخبار الأباطرة كان مثل معاصره سويتونيوس يستخدم وثائق الأرشيف الملكي، كما أن ذكرى مثل هذه الأحداث كانت ما تزال ماثلة في الأذهان بعد مرور ستين عاما على وقوعها، يقول تاسيتوس: «لكي يقضي نيرون على الشائعات ألقى تهمة الحريق على عاتق تلك الجماعة المكروهة التي يدعوها الناس بالمسيحيين. وكان الحاكم بيلاطس قد أعدم المسيح الذي ينتمون إليه، وذلك في عهد الإمبراطور تيبيروس ... وبعد القبض على أفراد الطائفة وانتزاع الاعترافات منهم كان معظمهم يدان لا بتهمة الحرق المتعمد بالدرجة الأولى وإنما بتهمة كراهية الجنس البشري. وبعد ذلك كانت العقوبات القاسية والمهينة تنفذ بحقهم، فكانوا يلبسون جلود الحيوانات البرية وتطلق عليهم الكلاب الشرسة التي تمزقهم إربا. أو كانوا يثبتون على الصلبان وعند المساء كانت أجسادهم تحرق لتضيء عتمة الليل مثل المشاعل. وقد قدم نيرون حدائقه الخاصة لتكون مسرحا لهذه المشاهد ... إن هؤلاء بصرف النظر عن جريرتهم قد استحقوا التعاطف لأن عقابهم بهذه الطريقة لم يكن من أجل الصالح العام وإنما إرضاء لنزوات رجل واحد (= نيرون).»
3
نأتي الآن إلى المؤرخين الفلسطينيين جوستوس من طبرية، ويوسيفوس اليهودي. فقد ولد جوستوس في مدينة طبرية الجليلية ولكنه أمضى الشطر الثاني من حياته في مدينة إفسوس بآسيا الصغرى، وهناك وضع كتابه عن تاريخ ملوك اليهود الذي أنهاه خلال فترة حكم الملك هيرود أغريبا حفيد هيرود الكبير، والذي جعله الرومان ملكا على اليهودية عام 41م، ولكنه لم يحكم سوى ثلاث سنوات لأنه توفي عام 44م بشكل مفاجئ، وعادت اليهودية لتحكم من قبل ولاة رومانيين. أما لماذا لم يهتم هذا المؤرخ بذكر شيء عن يسوع والمسيحيين، فلأن الأحداث التي يرويها تنتهي بعد عقدين من الزمان فقط على وفاء يسوع، عندما لم تكن المسيحية في فلسطين قد تميزت على اليهودية، ولا يمكن أن نتوقع منه كبير اهتمام بحركة دينية لم تكن قد طفت على السطح في ذلك الزمن. يضاف إلى ذلك أن كتاب جوستوس يتحدث عن تاريخ ملوك اليهود، والمسيحية نشأت في زمن لم يكن فيه ملك على اليهودية.
أما يوسيفوس الذي كان موسوعيا بكل ما في الكلمة من معنى، والذي أورد لنا في مؤلفيه سابقي الذكر كل كبيرة وصغيرة، فقد جاء على ذكر يسوع في المخطوطات التي وصلتنا من كتابه عاديات اليهود الذي أنهاه نحو عام 94م، أي في أواخر قرن الصمت عن يسوع. وهذا نص الفقرة الخاصة بذلك وهي من المجلد الثامن عشر: «في ذلك الزمان عاش إنسان حكيم يدعى يسوع، إذا كان لنا أن ندعوه إنسانا لأنه أتى أمورا غير عادية، وكان معلما للناس الذين تقبلوا الحقيقة بفرح، وجذب إليه كثيرا من اليهود واليونانيين. لقد كان هو المسيح. وحينما حكم عليه بيلاطس بالصلب بناء على اتهام شيوخنا، بقي الذين أحبوه منذ البداية مخلصين له، وفي اليوم الثالث لموته ظهر لهم حيا لأن أنبياء الرب تنبئوا بذلك وبكثير من معجزاته الأخرى.»
4
في التعامل مع هذا الخبر انقسم الباحثون إلى فريقين، فقد رفضه الفريق الأول جملة وتفصيلا باعتباره مداخلة مسيحية أضافها النساخ اللاحقون، لأن يوسيفوس الذي كان مؤمنا يهوديا ومن فرقة الفريسيين تحديدا، قد دعا يسوع بالمسيح وتحدث عن قيامته من بين الأموات كأنها واقعة حدثت فعلا. أما الفريق الثاني فقد قبل الخبر في خطوطه العامة، على اعتبار أن يد من زور هذا النص قد بنى تزويره على نص أصلي كتبه يوسيفوس، وأن مهمته اقتصرت على إضافة بعض العبارات ذات الصبغة المسيحية. وقد بقيت نتائج الجدل بين الفريقين معلقة في الفراغ، إلى أن نشر أحد الباحثين عام 1971م مخطوطا من القرون الوسطى كتبه باللغة العربية الأسقف آغابيوس تحت عنوان الحوليات العالمية. وكان من جملة ما تطرق إليه هذا المؤلف أخبار عن يسوع مستمدة من الكتب القديمة بما في ذلك كتاب عاديات اليهود ليوسيفوس، الذي يبدو أنه كان محتفظا بنسخة منه مختلفة عن بقية النسخ التي وصلتنا، نسخة منقولة عن الأصل قبل تزويره، ومنه اقتبس هذا النص وأورده في مخطوطه: «في ذلك الزمان عاش إنسان حكيم دعوه يسوع، عاش حياة استقامة وعفة وصار له كثير من اليهود تلاميذ. حكم عليه بيلاطس بالموت صلبا، ولكن تلاميذه لم يتخلوا عنه. وقد قال هؤلاء إنه ظهر لهم حيا في اليوم الثالث بعد صلبه. وهم يفترضون أنه هو المسيح الذي تنبأ الأنبياء بموته.»
صفحه نامشخص