من هذا العرض العام لتعاليم مرقيون، نلاحظ أنه قد أبقى نفسه على مسافة متساوية من الغنوصية الراديكالية ومن المسيحية القويمة. ويمكننا اعتباره لاهوتيا مسيحيا أكثر منه لاهوتيا غنوصيا. ولكن بعض تلاميذه المباشرين مالوا من بعده إلى الراديكالية وطوروا تعاليمه ووصلوا بها إلى حيث لم يشأ لها أن تصل. من أهم هؤلاء التلاميذ المدعو آبيليس-
Apelles ، الذي نشأ في الإسكندرية موطن الغنوصية المصرية، وهو الذي حرف مسار تعاليم أستاذه لتلتقي مع تعاليم الغنوصية الراديكالية في ذلك العصر؛ فقد عزا إلى الروح الإنسانية وجودا مسبقا في عالم الإله الخفي الأعلى، كما جعل من الإله الذي صنع العالم ملاكا ناريا خلقه الله، ولكنه سقط من عليائه وأدار ظهره للنور، ثم صنع العالم والإنسان. وهذا الملاك الساقط هو إله اليهود يهوه. وقد بث آبيليس تعاليمه في كتابين لم يصلا إلينا، وإنما ألمح إليهما بعض المؤلفين المسيحيين مثل أوزيبيوس. وقد استقل آبيليس عن الكنيسة المرقيونية وأسس كنيسته الخاصة التي اندثرت في أواخر القرن الثالث الميلاد.
1 (1) المرقيونية في مؤلفات المسلمين
عاشت المسيحية المرقيونية في الشرق حتى القرن العاشر الميلادي على ما يورده ابن النديم في كتابه المعروف بالفهرست. فهول يقول: «ولأصحاب مرقيون عدة كتب غير موجودة إلا حيث يعلم الله. وهم يتسترون بالنصرانية، وهم بخراسان كثير، وأمرهم ظاهر كظهور المنانية (=المانوية).» ويقول في عقائدهم ما يلي: «المرقيونية هم أصحاب مرقيون، وهم قبل الديصانية. وهم طائفة من النصارى أقرب من المنانية والديصانية.» وزعمت المرقيونية أن الأصلين القديمين هما النور والظلمة، وأن ها هنا كونا ثالثا مزجها وخالطها. وقالت بتنزيه الله عز وجل عن الشرور؛ لأن خلق جميع الأشياء كلها لا يخلو من ضرر، وهو مجل عن ذلك. واختلفوا في الكون الثالث ما هو، فقالت طائفة منهم هو الحياة وهو عيسى، وزعمت طائفة أن عيسى هو رسول ذلك الكون الثالث، وهو الصانع للأشياء بأمره وقدرته. إلا أنهم أجمعوا على أن العالم محدث وأن الصنعة بينة فيه، ولا يشكون في ذلك. وزعمت أن من جانب الزهومات (= اللحم والدسم) والمسكر وصلى لله دهره وصام أبدا أفلت من حبائل الشيطان. والحكايات عنه (أي مرقيون) مختلفة كثيرة الاضطراب. وللمرقيونية كتاب يختصون به يكتبون به ديانتهم. ولمرقيون إنجيل سماه ...
أما الشهرستاني صاحب كتاب الملل والنحل، فقد وضع المرقيونية في باب «من له شبهة كتاب»، وقال فيهم ما يلي: «أصحاب مرقيون، أثبتوا أصلين قديمين متضادين: أحدهما النور والثاني الظلمة. وأثبتوا أصلا ثالثا هو المعدل الجامع، وهو سبب المزاج. فإن المتنافرين المتضادين لا يمتزجان إلا بجامع. وقالوا إن الجامع هو دون النور في المرتبة وفوق الظلمة. وحصل من الاجتماع والامتزاج هذا العالم. ومنهم من يقول: إن الامتزاج حصل بين الظلمة والمعدل؛ إذ هو أقرب منها، فامتزجت به لتطيب به وتلتذ بملاذه. فبعث النور إلى العالم الممتزج روحا مسيحية وهو روح الله وابنه، تحننا على المعدل الجامع السليم الواقع في شبكة الظلام الرجيم، حتى يخلصه من حبائل الشياطين. فمن اتبعه فلم يلامس النساء ولم يقرب الزهومات أفلت ونجا، ومن خالفه هلك.» «وقالوا: وإنما أثبتنا المعدل لأن النور هو الله تعالى، لا يجوز عليه مخالطة الشياطين ... وأيضا: فإن الضدين يتنافران طبعا ويتمانعان ذاتا ونفسا، فكيف يجوز اجتماعهما وامتزاجهما؟ فلا بد من معدل يكون دون النور وفوق الظلام فيقع الامتزاج منه. وهذا على خلاف ما قالته المانوية، وهو أيضا على خلاف ما قاله زردشت، فإنه يثبت التضاد بين النور والظلمة، ويثبت المعدل كالحاكم على الخصمين الجامع بين المتضادين، لا يجوز أن يكون طبعه من أحد الضدين، وهو الله عز وجل الذي لا ضد له ولا ند.»
2
من هذا العرض الذي قدمه ابن النديم والشهرستاني، نلاحظ أن العقيدة المرقيونية في صيغتها المتأخرة قد حافظت على بعض الأفكار الأصلية للمعلم الأول، ولكنها تبنت الكثير أيضا من الأفكار والتصورات الغنوصية الراديكالية التي كانت أبعد ما تكون عن فكر مرقيون.
هل وجد يسوع فعلا؟
عبر التاريخ الطويل للبحث في العهد الجديد ظهر تيار ما زال له مؤيدون في الوقت الراهن، يقول إن يسوع المسيح ليس شخصية تاريخية، وما أحداث الإنجيل إلا أسطورة تكونت ببطء ونسجتها مخيلة اللاهوتيين على مدى قرن من الزمان إلى أن اكتملت بالطريقة التي وصلتنا بها. إننا لا نعرف شيئا عن أسرة يسوع ولا عن حياته قبل ظهوره الفجائي وهو في نحو الثلاثين من العمر، كما أن سيرة حياته التبشيرية كما دونها الإنجيليون مليئة بالتناقضات التي لا يمكن التوفيق بينها على أي صعيد. ويبدو أن هؤلاء الإنجيليين الذين كانوا يكتبون باللغة اليونانية، لم يكونوا على معرفة مباشرة بجغرافية فلسطين وبيئتها الطبيعية، وأن أحدا منهم لم ير يسوع شخصيا ولم يسمع منه، بل ولم ير من اجتمع بيسوع مباشرة وسمع منه. إننا نعرف مثلا لون بشرة النبي محمد ولون عينيه وطول قامته ومزاجه وطبائعه وأدق تفاصيل حياته، ولكننا لا نعرف شيئا ملموسا يتعلق بيسوع ولم يصفه لنا أحد من الذين رافقوه وخالطوه عبر حياته.
إن مسألة تاريخية يسوع بقيت أمدا طويلا مادة لجدل أكاديمي حاد بين الباحثين، ولا يبدو أنها ستغلق في يوم من الأيام. ويرتكز أصحاب مقولة أسطورية الإنجيل بشكل رئيس على وقوف الرواية الإنجيلية وحيدة في شهادتها على يسوع، ويقولون إن الأحداث التي وصفها الإنجيليون قد مرت من غير أن يلحظها أحد من المعاصرين. ففي القرن الأول الميلادي الذي دعوه أصحاب هذا الاتجاه بقرن الصمت عن يسوع، تم إنتاج مراجع غنية باللغتين اليونانية والرومانية أعطتنا صورة حافلة بالتفاصيل عن أحداث القرن وعن الحياة الثقافية والسياسية في أصقاع الإمبراطورية لا سيما في المشرق العربي. ومؤلفو هذه المراجع على تخصصهم في حقول معينة، إلا أن طابع الموسوعية كان غالبا على أعمالهم وقدموا لنا معلومات كثيرة ما زلنا نستفيد منها اليوم في إعادة بناء تصورنا لذلك العصر.
صفحه نامشخص