وفي قول له مشبع بالفكر الغنوصي الذي يرفض العالم يقول يسوع لليهود : «أنتم من الدرك الأسفل وأنا من الملأ الأعلى. أنتم من العالم، وأنا لست من هذا العالم.» فالقلة العارفة التي أدركت من هي وإلى أين تمضي، تشعر بغربتها في هذا العالم، والعالم من جهته ينبذها ويبغضها. ولذلك يقول يسوع عن تلاميذه الذين فهموا رسالته: «أنا ذاهب إليك أيها الأب القدوس ... بلغتهم كلامك فأبغضهم العالم لأنهم ليسوا من العالم. كما أني لست من العالم. لا أسألك أن تخرجهم من العالم بل أن تحفظهم من الشرير » (17: 11-15). «يا أبت العادل. العالم لم يعرفك، أما أنا فقد عرفتك، وعرف هؤلاء أنك أرسلتني. أظهرت لهم اسمك وسأظهره لهم، لتكون فيهم المحبة التي إياها أحببتني وأكون أنا فيهم» (يوحنا، 17: 25-26).
وفي المقابل، فإن اليهود أبناء هذا العالم واقعون تحت سلطان الشيطان إله عالمهم. وإذا كان الله أبا لمن عرفه وآمن به، فإن الشيطان هو أبو اليهود الذين لم يتلقوا من سلسلة أنبيائهم المزعومين كلمة حق منذ أبيهم إبراهيم: «أنا أقول بما رأيت عند أبي وأنتم تعملون بما سمعتم من أبيكم (= الشيطان = يهوه). فأجابوه: إن أبانا هو إبراهيم. فقال لهم يسوع: لو كنتم أبناء إبراهيم لعملتم أعمال إبراهيم. ولكنكم تريدون قتلي، أنا الذي قال لكم الحق الذي سمعه من الله. وهذا ما لم يفعله إبراهيم» (يوحنا، 8: 38-40). فإذا كان إبراهيم لم ينقل لليهود الحق الذي سمعه من الله، فإن التاريخ النبوي التوراتي بكامله تاريخ زائف، وكل الذين تسلسلوا بعد إبراهيم من أنبياء اليهود لم يعرفوا الله الحق. ولذلك قال يسوع في مناسبة أخرى: «الحق أقول لكم: من لم يدخل حظيرة الخراف من الباب بل تسلق إليها من طريق آخر كان لصا سارقا، ومن يدخل من الباب كان راعي الخراف ... جميع الذين جاءوا قبلي لصوص سارقون ولكن الخراف لم تصغ إليهم. أنا الباب فمن دخل مني يخلص» (يوحنا، 10: 1-9).
وفي سياق آخر يؤكد يسوع أبوة الشيطان لليهود في مقابل أبوة الله الخفي للعارفين: «لو كان الله أباكم لأحببتموني، لأني من قبل الله خرجت وأتيت ... إنكم أولاد أبيكم إبليس وأنتم تريدون إتمام شهوات أبيكم. كان منذ البدء مهلكا للناس، لم يثبت على الحق لأنه ليس فيه شيء من الحق، فإذا نطق بالكذب نضح بما فيه لأنه كذاب وأبو الكذاب. أما أنا فلا تصدقوني لأني أقول الحق ... من كان من الله سمع كلام الله، فإذا كنتم لا تسمعون فلأنكم لستم من الله. فقال اليهود: ألسنا على صواب إذا قلنا إنك سامري وأن بك مسا» (يوحنا، 8: 42-48).
إن الجملة الأخيرة التي رد بها اليهود على يسوع والتي اتهموه فيها بأنه «سامري» وبه مس، لم تلق عناية كافية من مفسري الكتاب. فالسامري تعني مواطنا من منطقة السامرة التي كانت تحتوي في ذلك الزمان على طوائف دينية ومجموعات اثنية متنوعة. كما تعني أيضا عضوا في مجموعة السامريين، وهم طائفة دينية يهودية لا يحتوي كتابها المقدس إلا على أسفار موسى الخمسة، وما زالت بقية منها تعيش حول منطقة نابلس، أما يسوع فقد كان مواطنا جليليا ولم تكن له صلة بطائفة السامريين، وكان محاورو يسوع يعرفون ذلك جيدا فما الذي قصدوا إليه عندما لقبوه بالسامري؟ إن التفسير الوحيد لهذا اللقب هو أن اليهود قد عقدوا صلة بين ما يطرحه يسوع من أفكار وبين أفكار سمعان ماجوس السامري وطائفته الغنوصية التي نشطت خلال أواسط القرن الأول الميلادي.
وفي حوار له مع امرأة سامرية، قال يسوع بأنه لا يهود السامرة ولا يهود أورشليم قد عرفوا الله الحق، وأنه ستأتي ساعة تلغى فيها طقوس هيكل أورشليم ويتم التخلص من اليهود: «قالت له المرأة: يا سيد أرى أنك نبي. آباؤنا سجدوا في هذا الجبل (= جبل جرزيم موقع هيكل السامريين) وأنتم تقولون إن في أورشليم الموضع الذي ينبغي أن يسجد فيه. قال لها يسوع: يا امرأة صدقيني إنه تأتي ساعة لا في هذا الجبل ولا في أورشليم تسجدون للآب. أنتم تسجدون لما لستم تعلمون، أما نحن فنسجد لما نعلم. لأن الخلاص هو من اليهود» (يوحنا، 4: 19-22).
ومع رفضه لإله التوراة فقد رفض يسوع شريعته. فقد كان يشفي المرضى في يوم السبت منتهكا قانون الراحة الأسبوعي. وعندما شغب عليه اليهود من أجل ذلك قال لهم: «إن أبي ما يزال يعمل، وأنا أيضا أعمل» (يوحنا، 5: 17). وقال لهم في مناسبة مشابهة أخرى: «إن السبت جعل للإنسان، وما جعل الإنسان للسبت» (مرقس، 2: 27). ولم يكن يحض تلاميذه على الالتزام بالصيام اليهودي. وعندما احتج عليه اليهود لتجاهله فرض الصيام، رد عليهم بطريقة ساخرة عندما قال: «هل يستطيع أهل العرس أن يصوموا والعريس بينهم (يعني نفسه)» (مرقس، 2: 18-19). وقد نقض شريعة الطعام التي تفرق بين ما هو طاهر وما هو نجس و«جعل كل الأطعمة طاهرة» على حد تعبير (إنجيل مرقس-الترجمة الكاثوليكية، 7: 19). وانتقد طقوس المحارق والقرابين الحيوانية عندما قال بأن الله يريد الرحمة لا الذبيحة (متى، 9: 13). ورفض تطبيق شريعة رجم الزانية عندما جاءه اليهود بامرأة أخذت في زنا، وقال لهم: «من كان منكم بلا خطيئة فليتقدم أولا ويرمها بحجر» (يوحنا، 8: 3-11).
ونلاحظ في إشارة يسوع إلى الشريعة في جداله مع اليهود قوله دائما «شريعتكم»، ولم يقل أبدا «شريعتنا». الأمر الذي يدل على أنه لم يعتبر نفسه واقعا تحت سلطان الشريعة اليهودية (راجع على سبيل المثال: يوحنا، 10: 34، 15: 25، 8: 17-18، 7: 19. ومرقس، 10: 3-5).
إن قصة تجربة الشيطان في البرية هي التي وضعت يسوع منذ البداية على طريق الجلجلة حيث غرس صليبه. لقد رفض إله اليهود فقتله اليهود.
تعاليم يسوع السرية
لقد خاطب يسوع الناس على قدر إفهامهم بمن فيهم تلاميذه. وهذا يستدعي بالضرورة أنه قد بث في تلاميذه نوعين من التعاليم، الأول ظاهري والثاني باطني. وهذا هو مؤدى قوله في إنجيل لوقا: «ليس أحد يعرف من هو الابن إلا الآب، ولا من هو الآب إلا الابن ومن أراد الابن أن يعلن له» (لوقا، 10: 22). أي إن يسوع لم يعلن الحقائق الخافية بخصوص الآب إلا للقلة التي اختارها من تلاميذه. وقد أكد بعض آباء الكنيسة هذه الحقيقة، ومنهم كليمنت الإسكندري (أواخر القرن الثاني الميلادي) الذي كشف في إحدى رسائله عن وجود إنجيل روحاني لمرقس لدى كنيسة الإسكندرية يحتوي على تعاليم ليسوع لا يعرفها إلا الخاصة، ولا يجوز كشفها لغير الساعين إلى كمالهم في الدين. على أن بعض جوانب تعاليم يسوع الباطنية ذات الطابع الغنوصي الواضح قد رشح إلى أسفار الكتاب المقدسي المسيحي، لا سيما رسائل بولس وإنجيل يوحنا. أما تعاليمه الظاهرية فقد دونها حسب فهمهم لها مؤلفو الأناجيل الإزائية الثلاثة مرقس ومتى ولوقا. ولنبدأ برسائل بولس باعتبارها أقدم أدب مسيحي مدون.
صفحه نامشخص