وفي مقابل ذلك فإن السلطة السياسية لم تجد في تحركات يسوع ما يريبها. فعلى مدى عام أو أكثر من قيام يسوع بالتبشير في منطقة الجليل لم يجد هيرود أنتيباس ملك الجليل وشرقي الأردن سببا لاعتقال يسوع وهو الذي لم يتردد في اعتقال يوحنا المعمدان وإعدامه وذلك لأسباب شخصية لا علاقة لها بالسياسة، فما بالك إذا كان الأمر متعلقا بالتعدي على سلطة قيصر ولي نعمته وحاميه؟ مما لا شك فيه هو أن هيرود شعر بالقلق من نشاطات يسوع وخاف من حدوث شغب بين تلك الجماعات التي كان تلتئم حوله من أجل الشفاء غالبا ومن أجل الاستماع إلى مواعظه أحيانا؛ ولهذا قال البعض ليسوع: إن هيرود يطلب قتله (لوقا، 13: 31). ولكن قلق هيرود لم يترجم إلى فعل، وعندما سمع بمعجزاته وصفه بأنه خليفة يوحنا المعمدان الناسك لا بأنه محرض سياسي: «ولما سمع هيرودوس قال: هذا يوحنا المعمدان الذي قطعت رأسه. إنه قام من بين الأموات» (مرقس، 6: 16). بل إنه كان متشوقا لرؤيته على ما يقول لوقا في روايته للخبر نفسه (لوقا، 9: 9). وعندما تم القبض على يسوع وأرسله بيلاطس إليه لينظر في أمره باعتباره من رعايا الجليل، تحققت أمنية هيرود وفرح لأنه سيرى يسوع أخيرا: «فلما رأى هيرودوس يسوع فرح جدا لأنه كان يتمنى أن يراه لما يسمع عنه، ويرجو أن يشهد آية يأتي بها» (لوقا، 23: 8).
أما عن الوالي الروماني بيلاطس، فنحن نعرف الكثير عن قسوته وإدارته الحازمة لمقاطعتي اليهودية والسامرة، وعدم تهاونه مع مثيري الشغب، وعن شرطته السرية التي كانت منتشرة في كل مكان تراقب أي بادرة عصيان أو احتجاج. وقد كان منذ فترة قصيرة قد قمع بوحشية بالغة ظاهرة احتجاج على استخدامه أموال الهيكل في مشروع لتزويد أورشليم بمياه الشرب، عندما انقضت شرطته السرية التي دسها بين المتظاهرين وهم يخبئون الخناجر تحت ثيابهم، وقتلوا منهم خلقا كثيرا. ومما لا شك فيه لو أن جواسيسه اشتموا أي بادرة من يسوع وأتباعه توحي بالعداء لروما أو بالدعاية لنفسه كملك شرعي، لما تردد في التعامل معهم بالقسوة نفسها، ولكن مثل هذا لم يحدث. ولسوف نرى في حينه أن كل الدعاوى التي أثارها اليهود ضد يسوع أثناء المحاكمة لم تقنع هيرود الذي بقي مصرا على براءته.
فإذا كان يسوع لم يعتبر نفسه ملكا بالمعنى السياسي، فإنه لم يدخل إلى أورشليم كملك في نهاية القصة الإنجيلية، والجموع الحاشدة التي رافقته في الدخول وهي تهتف وتحيي ابن داود الآتي باسم الرب ملك إسرائيل، ليست إلا تضخيما لحدث عادي. وفي الحقيقة لو أن هذا الحدث وقع بالطريقة التي صوره بها بعض الإنجيليين، لوصلت أخباره إلى بيلاطس الذي لم يكن ليتردد في اعتقال يسوع وجماعته فورا، لا سيما وأن دخول يسوع جرى في مطلع أسبوع احتفالات عيد الفصح اليهودي عندما كانت أورشليم تستقبل الآلاف المؤلفة من الحجاج القادمين من مناطق فلسطين الكبرى ومن خارجها، والمناخ مهيأ لإشعال نار الفتنة السياسية بين اليهود. فما هي الصورة الأقرب إلى الواقع لما يدعى عادة بالدخول الظافر ليسوع إلى أورشليم؟ (1) رواية مرقس
لما اقترب الركب من أورشليم ووصلوا إلى قريتي بيت فاجي وبيت عنيا عند جبل الزيتون، أرسل يسوع اثنين من تلاميذه لجلب الجحش الذي سيركب عليه، فأتيا به وألقيا عليه ثيابهما فركبه: «وكثيرون فرشوا ثيابهم في الطريق، وآخرون قطعوا أغصانا من الشجر وفرشوها في الطريق. والذين تقدموا والذين تبعوا كانوا يصرخون قائلين: أوصنا (= هتاف للتمجيد)، مبارك الآتي باسم الرب، مباركة مملكة أبينا داود الآتية باسم الرب، أوصنا في الأعالي. ثم وصلوا إلى أورشليم» (مرقس، 11: 1-11).
ونحن إذا حذفنا من هذا المشهد الهتافات غير المنطقية التي نستبعد أن تكون قد صدرت عن تلاميذ يسوع، لصرنا أمام مشهد واقعي إلى حد كبير. فمرقس لا يتحدث عن جموع غفيرة رافقت موكب يسوع، وليس «الذين تقدموا» و«الذين تبعوا» و«الذين فرشوا ثيابهم في الطريق» إلا تلاميذ يسوع الذين رافقوه من الجليل. وكما أوضحنا في بحث سابق تحت عنوان «هل أفلح يسوع خلال حياته» فإن عدد هؤلاء لم يكن يزيد عن المائة شخص وفق أعلى التقديرات. (2) رواية متى
لما اقترب الركب من أورشليم أرسل يسوع اثنين من تلاميذه لجلب جحش وأتان معا معدين مسبقا ليركب عليهما يسوع. «فأتيا بالجحش والأتان ووضعا عليهما ثيابهما فركب عليهما، وكان هذا لكي يتم ما قيل بالنبي القائل: قولوا لابنة صهيون هوذا ملكك قادما إليك وديعا وراكبا على أتان وجحش ابن أتان. والجمع الأكثر فرشوا ثيابهم في الطريق، وآخرون قطعوا أغصانا من الشجر وفرشوها في الطريق، والجموع الذين تقدموا والذين تبعوا كانوا يصرخون قائلين: أوصنا لابن داود، مبارك الآتي باسم الرب، أوصنا في الأعالي. ولما دخل المدينة ارتجت المدينة كلها قائلة: من هذا؟ فقالت الجموع: هذا يسوع النبي الذي من ناصرة الجليل» (متى، 21: 1-11).
يقتفي مؤلف إنجيل متى هنا أثر مرقس في جميع عناصر هذا المشهد مع استبدال الجحش بأتان وجحش ابن أتان، بعد أن فهم المقطع الشعري في سفر زكريا حرفيا ولم ينتبه إلى مبدأ التوازي الذي يقوم عليه الشعر العبري في التوراة، مثلما يقوم عليه الشعر الكنعاني بشكل عام من أجل تحقيق الإيقاع المطلوب، نظرا لغياب الوزن الشعري والقافية في هذا الشعر. فوفق مبدأ التوازي يتم توسيع فكرة واحدة عن طريق التكرار وإعادة الصياغة أو حتى التضاد أحيانا. ولنقرأ على سبيل المثال المقطع التالي من أسطورة البعل الأوغاريتية:
دعني أخبرك أيها الأمير بعل،
دعني أكرر يا راكب الغيوم.
ونلاحظ كيف تم تطوير الفكرة الواردة في البيت الأول عن طريق التكرار وإعادة الصياغة في البيت الثاني، حيث استبدلت جملة: دعني أخبرك. بجملة: دعني أكرر. كما استبدلت جملة أيها الأمير بعل. بجملة: يا راكب الغيوم.
صفحه نامشخص