قال عبد الرحمان بن عيسى بن حماد الهمذاني الكاتب: الصناعات مختلفات. ولها درجات متفاوتات. فمنها ما يرفع اهله ويشرفهم ويغنيهم عند المساجلة والمكاثرة عن كرم المناسب. وشرف المناصب. ومنها ما يضع المحترفين له اشد الضعة ويخملهم اقبح الخمول حتى لا يكونوا لاحد ممن سواهم نظراء في منزلة ولا اكفاء في معاشرة. وان كان لبعضهم قديم يذكره او اب معروف يعتزي اليه. وقد قال سيد المسلمين وامام المتقين امير المؤمنين علي ابن ابي طالب رضي الله عنه: قيمة كل امرئ ما يحسنه. وقال: الناس ابناء ما يحسنون. وهذه الكتابة من اعلى الصناعات واكرمها واسمقها باصحابها الى معالي الامور وشرائف الرتب. فهم بين سيد ومدبر سيادة وملك وسائس دولة ومملكة. وبلغت بقوم منهم منزلة الخلافة واعطتهم ازمة الملك. والمتصرفون فيها في الحظ منها بين متعلق بالسماك مضاء ونفاذا. وبين متنكس في الحضيض نقصا وتخلفا. ومن افاتها على ذوي الفضل منهم ان المتأخر فيها لا يمتنع من ادعاء منزلة المتقدم فيها بل لا يعفيه من ادعاء الفضل عليه. والمتقدم لا يقدر على تثبيت نقص المتخلف في كل حال من الاحوال او مشهد من المشاهد لدروس اعلام هذه الصناعة وقلة من يرجع اليه فيها. الا اذا اتفق حضور مميز وامكن قرب محصل. وهيهات ان يكون ذلك في كل وقت واوان. ووجدت من المتأخرين في الالة قوما اخطأهم الاتساع في الكلام فهم متعلقون في مخاطباتهم وكتبهم باللفظة الغريبة والحرف الشاذ ليتميزوا بذلك من العامة ويرتفعوا عند الاغبياء عن طبقة الحشو. والخرس والبكم احسن من النطق في هذا المذهب الذي تذهب اليه هذه الطائفة في الخطاب. والفيت اخرين قد توجهوا بعض التوجه وعلوا عن هذه الطبقة. غير انهم يمزجون الفاظا يسيرة قد حفظوها من الفاظ كتاب الرسائل بالفاظ كثيرة سخيفة من الفاظ العامة استعانة بها وضرورة اليها لخفة بضاعتهم. ولا يستطيعون تغيير معنى بغير لفظه لضيق وسعهم. فالتكلف والاختلال ظاهران في كتبهم ومحاوراتهم اذ كانوا يؤلفون بين الدرة والبعرة في نظامهم. فجمعت في كتابي هذا لجميع الطبقات اجناسا من الفاظ كتاب الرسائل من التقعير. المحمولة على الاستعارة والتلويح على مذاهب الكتاب واهل الخطابة دون مذاهب المتشدقين والمتفاصحين, من المتأدبين والمؤدبين المتكلفين. البعيدة المرام على قربها من الافهام. في كل فن من فنون المخاطبات. ملتقطة من كتب الرسائل وافواه الرجال وعرصات الدواوين ومحافل الرؤساء. ومتخيرة من بطون الدفاتر ومصنفات العلماء. فليست لفظة منها الا وهي تنوب عن اختها في موضعها من المكاتبة. او تقوم مقامها في المحاورة. اما بمشاكلة او بمجانسة او بمجاورة. فاذا عرفها العارف بها وباماكنها التي توضع فيها كانت له مادة قوية وعونا وظهيرا. فان كتب عدة كتب في معنى تهنئة او تعزية او فتح او وعد او وعيد او احتجاج او جدل او شكر او استبطاء او اعتذار او عهد من عهود الولاة والحكام او تأسيس جماعة او تشبيب بحاجة او مطلب او موافقة او صدر دستور او حكاية حساب او كتاب ضمان او غير ذلك امكنه تغيير الفاظها مع اتفاق معانيها. وان يجعل مكان (اصلح الفاسد) لم الشعث. ومكان: (لم الشعث) رتق الفتق. وشعب الصدع. وهذا قياس فيما سواه من ابواب الفاظ هذا الكتاب. وان قعد به حسن المعنى لم يعدم من الفاظه ما هو من بناء الكلمة. ولا غنى بالكاتب البليغ ولا الشاعر المفلق ولا الخطيب المصقع عن الاقتداء بالاولين والاقتباس من المتقدمين واحتذاء مثال السابقين فيما اخترعوه من معانيهم وسلكوه من طرقهم. كأن الاول لم يترك للاخر شيئا. فمن اخذ منهم معنى بلفظه فقد سرقه. ومن اخذه ببعض لفظه فقد سلخه. ومن اخذه عاريا وكساه من عنده لفظا فهو احق به ممن اخذه منه. والمقل من الالفاظ يعجز عن تغيير معنى صورته ونقله عن حليته. ومن كان كذلك لم تكمل الته ولم تجتمع اداته وكان النقص لازما له.
صفحه ۵