آلبر کامو: تلاشی برای مطالعهی اندیشهی فلسفیاش
ألبير كامي: محاولة لدراسة فكره الفلسفي
ژانرها
فهناك إذن إله العهد القديم المفزع في جانب، وهناك إله العهد الجديد الذي حل في جسد إنسان ومات على الصليب. غير أنه يكفي أن توضع المسيحية موضع الشك وأن تثار الريب حول ألوهية المسيح، حتى يصبح يسوع المخدوع بريئا جديدا وتنشق الهوة بين السادة والعبيد من جديد. وهكذا يصبح كل شيء معدا لهجوم عاصف عظيم على سماء معادية للإنسان؛ هذا الهجوم هو الذي يتتبعه كامي في مراحله الثلاثة التي سنقف عندها فيما بعد بالتفصيل، ونعني بها اللا المطلقة أو النفي المطلق، ورفض النجاة، والنعم المطلقة أو نزعة التأكيد المطلق. ولكل مرحلة منها بطلها ورائدها؛ صاد ، وإيفان كرامازوف، ونيتشه.
أولا: اللا المطلقة أو النفي المطلق
يعد المركيز دي صاد والحركة الرومانتيكية مثلين جيدين على هذه النزعة. إن الطبيعة الإنسانية تلغى فيهما، والإنسان ينحط حتى يصبح موضوعا للتجربة والمحاولة؛ ومن ثم كان تطرف التمرد وخروجه عن كل حد فيهما. إن «صاد» يريد أن يؤسس الحرية الكاملة على سعار الشهوة والغريزة، ولذلك فهو لا يستطيع أن يحقق تمرده إلا بالنفي المطلق للواقع بأسره. وكما كان كاليجولا يأمر بقتل الناس لكي يتاح له في رأيه أن يمتلكهم كل الامتلاك، وينظم بذلك ما يمكن أن نسميه بالانتحار الجماعي، فإن الحرية الشاملة التي تنطلق فيها الغرائز عند «صاد» تصبح نوعا من التدمير الشامل، وتنتهي حتما إلى القتل. وكاليجولا وصاد، على اختلاف الدافع والغاية بينهما، قد سارا مع منطق التمرد المحال إلى نهايته، واستخلصا منه أقصى نتائجه. كلاهما قد سعى في تمرده الجامح نحو الشمول بدلا من أن يطلب الوحدة.
ومن المعلوم عن المركيز دي صاد أنه ليس بالكاتب ولا بالفيلسوف ذي المكانة المرموقة. ولعل مرجع شهرته إلى أنه قضى بين جدران السجن سبعة وعشرين عاما. هذا السجن الطويل هو الذي يفسر أعماله؛ إنها صخرة وحيدة تطلقها الطبيعة، صرخة الدافع الجنسي، الذي أثاره السجن الطويل وكبته وعاقبه. إنها تنكر وجود الله كما تنفي وجود الأخلاق، وتطالب الإنسان بأن يذهب في المتعة والامتلاك الكامل إلى حدود التدمير الشامل الرهيب. الطبيعة عنده هي الجنس. وهذا المنطق يدفع به إلى عالم عاطل من القانون، تتحكم فيه طاقة الشهوة وحدها. إنه عالم الحرية المطلقة من كل قيد، طردت الفضيلة منه بغير عودة؛ ومن ثم فالحرية هي الجريمة، وإلا فليست حرية على الإطلاق. وضرورة الجريمة تتطلب ضرورة التنظيم، وتدفع صاد إلى تخيل أماكن مغلقة «قلاعا تحوطها الأسوار سبع مرات» يستطيع فيه المجتمع الجديد، مجتمع الشهوة والجريمة، أن يلبي صيحة الطبيعة طبقا لنظام قاس مرير. إنه على العكس من روسو وأصحابه من الجمهوريين «الفاضلين» في عصره يكشف عن نزعة الشر الطبيعية في الإنسان، ويصبها في قالب القوانين. هو إذن الإلحاد الخالص، الرغبة المدمرة التي جعلت شعارها «كل شيء مباح». غير أن أديرة الرذيلة التي تجلد فيها الشهوة أجساد البشر، والتي يصبح عبد اللذة حاكمها المطلق وإلهها الأوحد، لم تلبث أن اصطدمت بالتناقض الكامن في ذاتها، وتحولت إلى أديرة للرهبنة الحزينة، والعفة اليائسة الممسوخة. ولم يلبث السجين العجوز المخبول، الذي ظل يحلم بعالم يسجد للذة، أن راح يحلم بالكارثة الدموية التي تسحق هذا العالم، ويعيش أيامه الأخيرة كالممثل الهزلي المجنون الذي لا يسلي غير المجانين.
لم يعدم صاد من يخلفه؛ فالرجل الذي اخترع حصون الرذيلة التي تعد الأب الشرعي لمعسكرات الاعتقال في القرن العشرين، كان يحلم ببشرية تتجرد من إنسانيتها عن طريق العقل البارد. ويمكن اليوم أن يقال إن حلمه قد تحقق، ولكن مع تغيير بسيط؛ فبينما كان يتصور الجريمة في التحرر المطلق من العادات والقوانين الأخلاقية (وينبغي أن نذكر إنصافا له أنه كان ينبذ الجريمة الاجتماعية التي تتسلح بالمقصلة) راح خلفه يشرعون للجريمة بكل سبيل. والجريمة التي كان يريد لها أن تكون ثمرة شهية غير عادية للرذيلة المنطلقة من قيودها، لم تعد اليوم إلا عادة مفزعة لفضيلة بوليسية (وتلك هي مفاجآت الأدب كما يقول كامي!)
46
وشبيه بنزعة «صاد» نزعة الحركة الرومانتيكية التي تتميز بإيثارها للشر وتمجيدها للفرد الوحيد.
47
فالبطل الرومانتيكي يحس باضطراره إلى فعل الشر مدفوعا بشوقه إلى خير مستحيل التحقيق. والموقف الرومانتيكي ينبع من الكبرياء؛ فالإنسان الذي لا يملك أن يكون إلها، يجعل من نفسه مخربا مطلقا، لكي يتوصل إلى السعادة المستحيلة في حدود عالم ممكن (وهذا شبيه بموقف كاليجولا)؛ ومن ثم لم يستطع الرومانتيكيون أن يتجنبوا السقوط في هاوية العدمية؛ فالبحث عن سعادة ممكنة، أعني سعادة محدودة ونسبية، هو وحده الذي يستطيع أن يقي صاحبه من التردي في ظلام العدمية. ولقد علمنا التاريخ أن العدمية الرومانتيكية ليست مجرد نزعة مشبوبة من وجدان معذب حساس، بل إن الموت والقتل كامنان في أعماق القيمة العليا عند الرومانتيكيين؛ ونعني بها الغضب المجنون
Frénésie .
صفحه نامشخص