فدفعني دفعة غيظ كدت أقع منها، ولكني لم أشأ أن يخرج بغير أن أسمعه آخر كلماتي، فقلت: «ستقف معي أنت وسيدك وجها لوجه أمام الأبد. ستقفان وجها لوجه أمامي والعار يقطر من وجهيكما، وتتردد أصداء هذا الحديث جيلا بعد جيل إلى يوم القيامة. وستشهد الأجيال قوتي وضعفكم، وثباتي وهروبكم، وحقي وظلمكم. وليس فوق الظلم ما يمكن أن يسب به صاحب السلطان.»
فصاح الرجل صياحا عاليا لم أفهم منه لفظا، وخرج يخبط الأرض في عنف، ثم تضاءلت أصداء خطواته في السراديب بعد حين، وعاد السكون العميق. ثم أتى السجان إلى حجرتي فأعاد المصراعين إلى إغلاقهما، وكان الليل قد أخذ يرخي سدوله، واختفى الشعاع الضئيل من الضوء وأقبل علي الظلام الكثيف يلف ما حولي، ولكن قلبي كان يشتعل ويضيء. وقمت أصلي لله شكرا؛ فقد نصرني في سجني على تيمور وجبروته.
الفصل العشرون
لم أنم من الليل شيئا بعد أن انصرف عني الرجل صاحب الذنب، ولكني كنت مطمئن القلب مبتهجا. فلما مضى الليل وأطلت علي بوادر أشعة النهار الضئيلة من وراء قضبان سجني سمعت صرير المفتاح في باب حجرتي، ثم رأيت الباب يفتح ودخل منه السجان حاملا في يده صرة. فتبسم في وجهي أول بسمة منذ رأيته، ثم ألقى إلي الصرة وقال: «هذه خلعة مولاي.» فنظرت إليه ولم أفهم ما يقصد من قوله، فأعاد كلماته وهو يزيد في ابتسامته اتساعا وقال متلطفا: «خلعة مولاي تيمور العظيم، لكي تلبسها ثم تمضي إليه مع الأمير صاحب الذنب الذي ينتظرك عند الباب.» فدار بي رأسي وحسبت أنني في رؤيا، وتحركت في موضعي ولمست بلاط الحجرة بيدي فوجدته باردا قاسيا كعهدي به، ثم قمت ومشيت وتكلمت لأتأكد من أنني لست نائما، ثم خررت لله ساجدا. ولم أنظر إلى الصرة وتركتها ملقاة على الأرض، وخرجت أتلمس الطريق والسجان يرشدني كلما أخطأته حتى بلغت الباب، فرأيت صاحب الذنب الذي كان عندي بالأمس واقفا مقطب الوجه، فلم أنظر إليه وخرجت إلى الطريق بعد أن مكثت في سجني شهرين وعشرة أيام وساعتين. وهبت علي نسائم الصباح الباردة؛ تلك النسائم الرطبة التي تحمل عطر الفضاء الفسيح ولا تلوثها جدران السجون. ووقفت حينا أملأ صدري منها وأنظر إلى السماء الصافية اللامعة، وأنوار الصباح الرفيقة الباسمة، وامتلأت عيناي بالدمع. ثم سرت وقلبي يهتف بالشكر لله الذي له الأمر كله، والذي يلطف في الخطب الجسيم، وينعم بما لا يحصى من الآلاء.
وسمعت الأمير صاحب الذنب بعد حين يناديني من ورائي: «إلى أين؟» فلم ألتفت إليه لأنني كنت منصرفا إلى تسبيح قلبي، فأسرع حتى صار إلى جانبي وأمسك بذراعي وقال معبسا: «أما تعرف أن تيمور ينتظر؟» فرفعت بصري إليه، وكان رجلا طوالا، وقلت له مترفقا: «أما تعفيني؟» فقال وهو يقلل من عبوسه: «وهل هو أمري حتى أعفيك؟ إنه أمر مولاي.» فتنبهت إلى نفسي وزالت دهشتي، فتمثلت لي حقيقة الحال، وعلمت أنني مطلوب إلى مجلس تيمور. وماذا كان تيمور يبغي مني؟ فتلطفت في القول وخاطبت الرجل خطابا لينا، فقلت له: «إذا تكرمت علي بساعة أذهب فيها إلى داري لأصلي، سألت الله لك العافية.» وما قلت ذلك حتى سمعت صوتا يصرخ من ورائي يناديني باسمي، فالتفت فإذا السجان يشتد مسرعا نحوي وهو يحمل صرة في يده. فوقفت حتى صار إلى جانبي ومد يده بالصرة قائلا وهو يلهث: «أتريد أن تذهب إلى البادشاه بهذه الملابس؟» فنظرت إلى ملابسي التي كانت من قبل ملابس السيد القاضي، فرأيتها في الحق زرية لا تليق إلا أن تلبس في السجون. فأخذت الصرة من السجان وشكرته على ما تكلف من المشقة، ثم نظرت إلى الأمير الذي إلى جانبي فوجدته ينظر إلي باسما، فاستبشرت وتبسمت إليه مستعطفا فقال: «لا بأس عليك أن تذهب إلى دارك ساعة، ثم أحضر إليك لأسير بك إلى مولاي، فإنه يريد أن يراك في ساعة الغداء.» وكان هذا القول مدهشا في الحقيقة، ولكني لم أقف لأندهش، بل أسرعت قاصدا إلى دار صديقي كمال الدين، فما كان أشوقني إليه، وما كان أشوقني إلى طلعة أخته الصالحة المباركة «نجوى»، ما كان أشد شوقي إليها. فلما بلغت الدار طرقت الباب ووقفت أنتظر متلهفا، فأبطأ علي الجواب حينا، ثم سمعت صوتا يسأل: «من هذا؟» وكان صوتا حبيبا، فقلت بصوت متهدج: «أنا جحا.»
فسمعت صيحة مكتومة، ثم فتح الباب وظهرت «نجوى» من ورائه تنظر باسمة بعينيها الواسعتين وقالت في حماسة يغالبها الحياء: «مرحبا بك!» ولمحت تحت جفنيها ماء يترقرق.
ثم احمر وجهها، فأصبح مثل لون الوردة في الصباح إذا بللها الندى، فأسرعت أنفاسي ودق قلبي ومددت يدي أصافحها، وغالبت نفسي التي كانت تدفعني إلى ضمها إلى صدري. ويعلم الله أن ذلك لم يكن من شوق هذه الأرض، بل كان رحمة ورقة في صفاء نور السماء. وقلت كلاما وقالت كلاما لا أذكر منهما شيئا؛ إذ كنت أنطق بما لا أعي، وأعي ما لا أنطق به. ولما هدأت سألتها عن أخيها، فقالت إنه خرج في الصباح الباكر، ودعتني إلى الدخول. ولكني اعتذرت وشكرتها واستأذنتها في الذهاب وأنا أنازع نفسي نزاعا شديدا، فألحت علي في الدخول لأستريح، وألحت معها خلجات قلبي، ولكني حركت نفسي قسرا ومضيت في سبيلي، ولم ألتفت إلى ورائي خوف أن تحملني رجلاي جريا إلى الباب الذي لم يغلق بعد ذهابي.
سرت في طرق جانبولاد، وكان بصري كلما وقع على شيء من بيوتها أو عطفة من عطفاتها رأيته باهر الحسن، كأنني لم أنظر إليه قط، وخيل إلي أنني أسير في مسارب جنان خلع عليها ضوء الصباح ألوانا فاتنة. وما زلت أهيم حتى بلغت قريبا من داري، فقلت أذهب إليه لألبس خلعة تيمور، وجررت نفسي جرا لأنني كرهت جدران البيوت من أجل جدران سجني. ولكني لمحت عند باب بيتي شيئا يشبه أن يكون جمعا. فترددت وداخلني الوهم من أن يكون تيمور قد بدا له رأي فبعث بعض جنده من ورائي ليعودوا بي إلى حيث كنت، وخطر لي أن أطلق ساقي للريح وأنجو من المدينة، ولكني آثرت أن أتحقق، فتقدمت في حذر أتدارى في ظل البيوت. فلما قربت من الجمع لم ألمح فيه خيلا ولا ريشا، بل لاحت لي عمائم بيضاء وقفاطين فضفاضة، فاطمأننت وذهبت نحو الجمع ثابتا حتى بلغت أوله، وملت أسأل أقرب الواقفين عن سر الزحام. فنظر إلي وما كاد يتبين وجهي حتى صاح صيحة فرح: «خواجه نصر الدين! جحا!» وإذا بالسيل الجارف يردد الصيحة، ويتدافع نحوي في ضجيج وعجيج حتى أحاط بي، وجعل كل من استطاع منهم أن يصل إلى يدي يقبلها، وكل من يصل إلى ثيابي يمسح عليها كفه، ومال بعضهم نحو قدمي يلمسونها حتى كدت أتزعزع وأسقط لولا أن الزحام لم يترك لي فسحة من فراغ أتزعزع به أو أسقط فيه. وبعد لأي انشق الزحام عن رجل يجاهد في الوصول إلي حتى صار عندي وأخذني بين ذراعيه، وجعل يقبل كتفي وعنقي، وصحت عندما رأيت وجهه: «صديقي!» فقال لي كمال الدين: «لم ندركك في السجن، ولم نجدك في المسجد فجئنا إلى هنا.» فقلت له: «لقد عرجت على بيتك ...» وقبل أن أتم كلامي علت صيحة من الجمع الزاخر: «إلى المسجد!» ثم وجدت نفسي أتحرك كما يتحرك العود على التيار القوي. ولما بلغنا المسجد صلينا ركعتين، ثم جلست عند العمود الذي كنت من قبل أجلس عنده. وما كان أشوقني إلى أن أعاود لذة أحاديثي! وفتح الله علي بما شاء، ولا أدري كيف تحدثت؛ فقد كان الجنان يملي واللسان يهدر والقلب يجيش مليئا. وما زلت في درسي لا أحس للوقت مرا حتى أذن للصلاة، فقمنا للجماعة والمسجد يضيق بمن فيه. ثم أردت الانصراف، فأخذت صرة تيمور تحت إبطي وقمت أسير في مشقة بين الجموع حتى بلغت الباب وهممت بالخروج فإذا بي أرى الأمير صاحب الذنب يقبل علي مترفقا باسما ويسألني أن أذهب إلى مولاه.
فقلت له: «أنا متعب وبي حاجة إلى الإغفاء.»
فقال باسما: «إن مولاي ينتظرك على الغداء.»
صفحه نامشخص