فاضطرب جسمه في ضحكه وثقل على ذراعه فخلصها من بين القضبان ووثب إلى الأرض.
فأسرعت إلى الربطة ففككتها وتلمست الرسالة من طياتها، ولكني تذكرت الظلام، فألقيت بها حانقا، وقضيت الليلة مفكرا مهموما لم أذق طعاما، وكانت همومي لا تفارقني إلا إذا قمت للصلاة. كانت الأفكار تشرد بي دائما إلى جانب الغابة، فأذكر ما رأيت فيها وما سمعت، وتمثلت لي قوانين الإنسان في مجتمعاته أشد قسوة من القانون الطليق الذي يسري في الغابة. وبدا لي في ظلمة سجني أن قانون الأسود والفهود أقرب إلى الرحمة من تلك القيود التي يضعها تيمور؛ فالأسد لا يقتل لأنه يحب القتل بل لأنه يريد أن يشبع جوعه. وليس في قانون الغابة مثل هذه السجون المظلمة التي يزيد عذابها على عذاب ساعة تعانيها الفريسة قبل أن تنزلق إلى بطن الوحش المفترس.
هكذا قضيت الليلة في تفكيري الحانق حتى طلع الصباح، وكنت أترقب دخول الشعاع الضئيل من النور لكي أستطيع أن أقرأ الرسالة. فما كدت أتبين الحروف حتى أقبلت عليها أقرؤها مع ما أصاب عيني من الألم في قراءتها على النور الضئيل. ولكني لا أذكر سرورا كان أعظم عندي في يوم من أيام حياتي مما أحسسته بعد أن مضيت في قراءتها. لقد تحرك المساكين الذين كنت أعلمهم وأواسيهم؛ تحركوا من أجلي وعزموا على النزوح من جانبولاد. هكذا أخبرني صديقي كمال الدين في رسالته - جزاه الله خيرا. ولم ينس أن يبعث إلي في خطابه تحية من أخته الصالحة. كتبت نجوى إلي تحيتها تشد من عزيمتي وتدعو لي بالفرج القريب. إنني لم أزل منذ حللت في ذلك السجن أراها أمام عيني، ولكن أفكاري السوداء كانت تجعل لصورتها إطارا من الأحزان والآلام. أما صورتها التي ملأت قلبي عندما قرأت تحيتها فقد كان إطارها من السلام والسعادة.
دب الأمل إلى قلبي وصار يرفه عني أثر ضيق السجن وظلامه. وما أكرم مساكين جانبولاد! ليس لبلد أمل في الحياة إذا فقد مساكينه؛ فهم الأيدي وهم الأرجل وهم القلوب والأحشاء. لا قوام لأمة بدونهم، ولن يستقيم أمر أمة إلا إذا ساوت بين رأسها وبين سائر أعضائها فيما يجب لكل منها من الرعاية والحرمة والكرامة.
ولكن الطغيان أعمى، ولا سبيل إلى فتح عينيه إلا بأن يظهره المساكين على أنه لا حياة له من غيرهم. يستطيع المساكين أن يعيشوا في الأرض الفسيحة؛ فإن عندهم الأيدي والأرجل تعمل وتسعى، وهم يجدون وطنا حيث يحلون لأنهم في كل وطن يخدمون، ولن يضرهم أن تزول الحروب بين الأمم وأن تكون بلاد الله كلها للإنسان.
لم أشك في أن تيمور قد فزع واضطرب من هؤلاء المساكين الذين أرادوا الخروج من جانبولاد. أيها الأشقياء، لو اطلعتم على ما في قلوب الطغاة وهم يدوسونكم بأقدامهم لسركم ما تطلعون عليه. إنهم يخشونكم وأنتم صرعى، ويعرفون ضعفكم وقوتكم.
ولقد صدق ظني فيما ذهب إليه، فما أتى عصر ذلك اليوم حتى سمعت السجان يعالج فتح باب جحري، ثم سمعت صراخ المصراعين وهما ينفرجان، ثم رأيت ذنب السيد الذي انحنى وهو داخل من الباب المطأطئ. كان الذنب يضطرب فوق قلنسوة حريرية صفراء عندما فتح الباب. ولما دخل الذنب دخل وراءه السيد، وكان مثل الببغاء كسائر أصحابه، حتى كدت أقهقه من رؤيته، ولكني أمسكت نفسي ونظرت إليه صامتا.
فنظر إلي مبتسما وقال بعد أن حيا: «أنت رجل طيب؛ هكذا يقول الناس عنك. وليس السجن بالمقام اللائق بك.» ثم نظر حوله مشمئزا.
فقلت له: «لا شك فيما تقوله أيها السيد، إنني أحب السير في ضوء الشمس والتنفس من الهواء الطلق، وأحب أن أذهب حيث شئت، وأتكلم مع من أحببت، وأقول ما يدور في نفسي إذا أردت. أحب كل ذلك وأحس تلك الجدران التي أقيم بينها تكاد تنطبق علي وتزهق أنفاسي بركود هوائها وظلمتها.»
فهز رأسه موافقا وقال: «وإذن فأنت ترى مصلحتك في التخلص منها.»
صفحه نامشخص