قمت في الصباح كعادتي فذهبت إلى المعسكر وصليت بالجنود، ثم خرجت أسير في الطرق وأنا أفكر في مكاني من هذا الوطن الجديد. هذا البلد الذي لا كرامة فيه إلا لأصحاب الأعلام والريش، والذي تحكمه القدور الملأى بالمعدن اللامع. ولم يكن بي من حقد على أحد؛ فلست أنفس على الناس أن يفوزوا بالذهب كما يشاءون، والذهب عندي لا يزيد على سائر مادة هذا الطين. ولو كنت يوما راقدا في ضوء الشمس أتأمل في خلق الكون وأنا أنظر إلى السماء الصافية وأهيم مع أحلامي في الملكوت، ثم رأيت خمسين قدرا ملأى بالذهب تهوي في الظل على بضع خطوات مني لما تحركت من مرقدي لأذهب إليها. وقد كنت منذ عقلت لا أطمع من هذه الدنيا في أكثر من الرزق الذي يقيم الحياة؛ لأني أخذت نفسي بما علمت، والذهب في آخر الأمر لن يصاحب الناس إلى القبور. سيخلف الناس الذهب كما يخلفون كل شيء وراءهم بعد الحياة، ولم يكن الذهب سبيل السعادة في دار من الدارين. فليس بي من حقد أن يسعى إليه الناس ويستأثروا به، وحسبي من الدنيا ما أصيب من رزقي الضئيل. ولكن الذهب شيء والكرامة شيء آخر، ولا علاقة بين هذه وذاك؛ فالكرامة حق وهبه الله للناس منذ خلقهم ناسا. فإذا كانت جانبولاد تهب لي القوت لكي تسلبني هبة الله الثمينة فلا مقام لي فيها.
ولكن ... أواه من شعور العاجز بعجزه! فكرت في أين أهاجر إذا تركت جانبولاد. هذا ما شغل قلبي منذ تلك الليلة في إصباحي وإمسائي، وفي نومي وصحوي، حتى ضاق صدري وكاد يضطرب عقلي. وأخيرا بدا لي رأي وجدت فيه من ضيقي مخرجا. عزمت على أن أعيش في عالم أسعى فيه إلى الخير، وأبذل فيه كل ما أستطيع، وأهب فيه للناس من قلبي ومن عطفي، فلن أحس في مثل هذا العالم ذلا، ولن أبالي من أمور الناس هما. فعزمت على أن أقف حياتي كلها على خدمة المساكين في جانبولاد. وما أكثر مساكين جانبولاد، هؤلاء الحفاة الذين ليس لهم من أمر وطنهم شيء إلا أن يصيبوا الكفاف من عيش زري على ما يقومون به من عمل قاطع! استقر رأيي على أن أكون خادما لهؤلاء، أعلمهم وأرفه عنهم وأواسيهم، ورسمت لنفسي خطة قمت على تحقيقها بغير تردد أو تسويف.
فكنت إذا فرغت من صلاتي وفرغ الجنود من تقبيل يدي عقدت لهم مجلسا قبل أن ينصرفوا، أحاول فيه أن أفتح صدورهم للرحمة، وأن أبصرهم بحياة الإنسان. وكثيرا ما كنت أرى في أعينهم الدمع كلما لمست جانبا رقيقا من قلوبهم، فكان هذا يملأ قلبي سرورا، وكنت أحمد الله الذي يفجر من الصخر ينابيع الماء الزلال، والخير لا بد أن ينتصر يوما، والدمع الذي يثور في العين مرة لا يضيع سدى.
فإذا ما انتهى درس الجنود نزلت إلى المدينة أقلب فيها نظري، وكنت في كل يوم أجد فرصة جديدة أتخذ منها مطية إلى الخير. مساكين أهل جانبولاد، كنت أمد يدي إليهم فتغنيهم وإن لم يكن فيها شيء من الذهب. كم من كلمة طيبة يجود بها القلب فتغذي الروح لا يقاس بها عطاء من فضلات الغنى. وكنت كل يوم أذهب إلى المسجد الأعظم وأتخذ فيه مجلسا إلى جوار عمود، فيجتمع حولي من المساكين من يتعطش إلى الكلمة الطيبة. وفي هؤلاء كنت أجد السلام والكرامة. كنت أحس أنني أصب عليهم مما في قلبي وأضيفهم في حنايا صدري. وما كان أعظم ما نلت من السعادة في أعقاب هذه الدروس! كنت أحس أن النور يجلو روحي، وأن الحق يحل في كياني فيملؤه قدسية، فإذا بي لا أرى في الكون كله إلا تسبيحا وترتيلا.
هناك بين المساكين كنت أرى الزهر يانعا، وأشم العطر فياحا، وأسمع من أنغام السموات ما لا يدركه السمع، وأفهم من وحي العلا ما لا يبلغه العقل. كان روحي يهيم ويكشف الغطاء عن الأسرار، ويتلبس بحقائق الأزل، فلا اللفظ لفظ ولا الحس حس، بل الكون أنا وأنا الكون. هناك بين المساكين سموت حتى أشرفت على العالم الصغير، وعلى من فيه من الدبى المغرور؛ تيمور وجنده من أصحاب الريش وأصحاب الأذناب، وجانبولاد وعليتها من ذوي القدور والأعلام. وكنت أشير بأصبعي إلى الأنوار التي كانت تتلألأ في كل مكان أمام بصيرتي، فيتطلع المساكين ويصدقون؛ لأنهم كانوا يؤمنون. علمت المساكين أن في الحياة ما هو أثمن من الذهب، وأسمى من السلطان ومن القوة، وأن فيها من اللذة ما هو فوق متعة الأجسام. علمتهم أنهم يستطيعون الاستغناء عن كل قوة وعن كل متعة إذا هم آمنوا بما هو أسمى وأعلى، في حين أن الدبى المغرور من أمثال تيمور يقضي حياته أسيرا في قيود من الطين العفن لا يستطيع أن ينتزع نفسه منها.
وكانت الأوقات التي قضيتها مع تلاميذي في هذه الحلقة أحب العبادات إلي. وجدت فيها قرة العين، وفزت فيها بمجمع اللذات. فإذا ما انصرفت بعد ذلك إلى داري أقبلت على أوراقي وكتبي أقرأ وأكتب، وجعلت ما كتبته وقفا على من يطلب العلم قربانا إلى الله سبحانه الذي علم بالقلم.
ولكني لم ألبث أن صدمت صدمة بددت آمالي.
كنت يوما في مجلسي إلى جوار السارية أناجي خفي الأسرار، فإذا بي أحس شخصا يقف عند رأسي، ويضع يده على كتفي، فالتفت نحوه لفتة قصيرة لعله أعمى ضل فعثر بي، أو فقيرا جاء يقصدني، فإذا بي أرى فتى أسمر في حمرة، قد أمال قلنسوته إلى يمين، وأبدى من تحتها طرة تلمع فوق الجبين، وقد أطال عارضيه، وزجج حاجبيه، ولف حول وسطه منطقة حمراء من الحرير، فوق ثوب أصفر من ديباج، وهو قصير بدين، يدرج كالدحروجة، ويتمايل تياها وينظر متحديا.
فقلت له لأصرفه عني: «هداك الله إلى سبيلك.»
فقال وقد كشر عن نابه: «أما تعرفني؟»
صفحه نامشخص