ومع هذا كله فالحسن والقبح أمران يتوقفان على تقدير كل فرد، وقد يكون الشيء حسنا في عين إنسان، فإذا به نهاية القبح في عين إنسان آخر.
ولقد كدت أعدل عن أن أقص حرفا واحدا في وصف جانبولاد، لولا أنني أردت أن أتحدث ببعض ذكريات حياتي فيها، وأتأمل مناظر الماضي، كما يتأمل مناظر السهل من صعد في الجبل إلى قمته، فإذا لم يجد في تأمله درسا يستفيده لم يخل من متعة الذكرى.
كان صاحبي الفارس أول من عاشرت من أهل المدينة، وقد وجدت على طول الزمن أنه في دخيلة نفسه إنسان. عرفت فيه أمورا كثيرة دلتني على أنه من أرق الناس نفسا ومن ألينهم شكيمة، واسمه «طوطاط»، ويعرف بين العامة باسم «وطواط»؛ فإن لأهل «جانبولاد» عادة في تسمية حكامهم أسماء يخترعونها، أو يحرفونها عن أسمائهم، أو يفيضون عليها بعض أفاويه من فكاهتهم. وأهل جانبولاد من أحلى الناس فكاهة، وهذا مما حببهم إلي؛ فالفكاهة أولى علامات الإنسانية. وهم يجدون في فكاهتهم ترفيها كثيرا مما يعانون من مشقات الحياة. وخواص جانبولاد لا يخشون من عامتها شيئا هو أشد عليهم من هذه الفكاهة الحلوة اللاذعة.
وكان صاحبي الفارس لا يملك في بيته أمرا ولا نهيا؛ لأن له في بيته امرأة تسيره وهو بذلك سعيد، لا يرد لها أمرا، ولا يفكر معها في شيء، بل يترك لها قياده حتى يفرغ لما هو أجدر بعنايته شأنا. فهو إن كان في طرق جانبولاد أسدا لم يزد في داره على أن يكون حملا وديعا.
وكان في «طوطاط» إخلاص ومودة، حتى كدت أعده صديقا، بل لقد كان له علي فضل فيما بعد لن أنساه له أبد الدهر. ولكنه رجل صاحب نزوات تثور به بين حين وحين، فإذا ثارت فلا يدري المرء إلام تنتهي به. وقد اعترته نزوة من هذه مرة ونحن معا في داره، وكان قد شرب بعض النبيذ وطرب ثم عربد، فعزم علي أن أشرب معه. وشكرته معتذرا فألح علي، ثم بالغ حتى حلف بالطلاق لأشربن معه، وكان ذلك على مسمع من زوجه. فوقعت في حيرة لم أدر معها ما يجب علي أن أفعل، فهل أعصي الله وأقارف إثم الخمر، أم أطيع الله وأفرق بينه وبين امرأته؟
ولم يكن التفريق بينهما هو الذي يزعجني؛ لأن أكبر ظني أنه كان خيرا له لو تزوج أخرى تكون ألين منها جانبا وأرفق في التعتعة. وإنما الذي حرت فيه هو التماس طريق الخلاص من بيته إذا أنا لم أنزل على حكمه وأبر له يمينه؛ فإن الزوجة ما كانت تتركني أخرج من دارها سليما. فاضطررت بعد التأمل إلى أن آخذ الكأس من يده، وحسبت أن هذا يخرجني من الحرج، ولكنه أبى وأصر على أن أنادمه سائر الليلة، ولم يجدني معه اعتذار بأمر من أمور الدين أو الصحة؛ فكنت كلما أبديت له عذرا قطع علي السبيل بيمين جديدة. وجعل يعجب مني إذ أريد أن أعيش في جانبولاد بغير أن أتمتع بمباهج الحياة، وحلف لي أغلظ الأيمان أنني أكون ضحكة بين الناس إذا أنا لم أسايرهم في حياتهم. فأخذت الكأس ورفعتها إلى فمي ومصصت منها مصة أظن الله يغفرها لي؛ فقد قصدت بها أن أبر له يمينه، ثم قمت مسرعا فذهبت إلى الخلاء وادعيت أن بردا أصابني، حتى إذا ما صرت خارج القاعة قذفت بنصف ما في الكأس ثم عدت لأنادمه. وكلما رأيته ينظر إلي رفعت الكأس نحو فمي وقمت مرة أخرى إلى الخلاء.
ولم يطل بي الخوف منه بعد قليل؛ فقد شغله عني طربه عندما دب الشراب في دمه، وكأني به قد تمنى لو أمسكت عن مشاركته بعد ثلاث كئوس، حتى لا أنقص ما بقي له في الدن؛ ولهذا رأيته لا يصر على إعطائي كأسا رابعة عندما أظهرت له قليلا من الامتناع.
وكان في تلك الليلة مدهشا. كانت أقل لفظة أفوه بها تبعثه على أن يتمرغ على الأرض من شدة الضحك. وصرت عنده من تلك الليلة من أحب الناس وأكرمهم. فصار لا يطيق البعد عني، وكلما رآني مقبلا استعد للضحك، فلا أكاد أنطق بحرف حتى ينفجر مقهقها كما يعطس الإنسان إذا قربت من أنفه النشوق.
ولم يكفه هذا، بل أذاع عني بين أصحابه جميعا أنني نديم حلو الفكاهة شهي الأحاديث، وأضاف إلى ذلك قوله إنني إذا شربت ثلاثا كنت أبرع الناس في المنادمة . سامحه الله، لقد كلفتني قالته هذه مشقة كبيرة فيما بعد.
ومن أعجب العجب أن كل من سمع منه هذا لم ينتظر حتى يحكم لنفسه، بل اعتقد صدقه بادئ ذي بدء، فصرت بعد ذلك لا أنطق بحرف في مكان حتى تتجاوب أصداء الضحك من كل أركانه. فلما رأيت هذا تعمدت أن أنطق بالكلام الذي لا يحتمل الفكاهة، بل لقد تعمدت أن أنطق بالفاتر البائخ من القول، ومع ذلك فما كنت أرى الضحك يزداد إلا علوا. هكذا الناس، قلما تجد فيهم من ينظر بعينيه بل يسيرون على هدي آذانهم.
صفحه نامشخص